صقلية تحت حكم الأغالبة:
تميَّزت فترة حكم ولاة بني الأغلب بالتسامح الديني، فسمحوا للمسيحيين بممارسة معتقداتهم وطقوسهم الدينية، ولم يأخذوا الجزية عن الأطفال والنساء والشيوخ، وأقاموا العديد من المشاريع الإنشائية بالجزيرة، حيث أدخلوا إلى الجزيرة غراسة القطن وزراعة الحمضيات، كما اهتم المسلمون في صقلية بالجانب العمراني حيث عرف ازدهارًا كبيرًا، واهتموا بالعلم والعلماء حيث أقيمت المساجد والكتاتيب لتدريس الطلاب.
صقلية تحت حكم الفاطميين والكلبيين:
بعد سقوط "الأغالبة"، دانت "صقلية" للدولة الفاطمية العبيدية الشيعية، وتولى عليها ولاة من قبل الخليفة الفاطمي في "المهدية"، وقد كثرت فيها الثورات، وحاول نصارى الجزيرة والجزر المجاورة الاستنجاد بالبيزنطيين، حيث سار إلى الجزيرة الإمبراطور البيزنطي "نقفور فوقاس" (الدمستق) أملًا في الظفر بالجزيرة؛ لكن المسلمين استبسلوا في الدفاع عن الجزيرة وقامت معركة عنيفة انتهت باندحار البيزنطيين سنة 354 هـ، وقُتِلَ منهم عشرة آلاف من بينهم قائدهم "مانويل" وكبار البيت المالك، وعرفت هذه الواقعة بـ"وقعة المجاز"[1].
ونجد أنه مع انتقال الحكم في إفريقية إلى "المنصور بالله بن إسماعيل" قام بتولية "أبي الغنائم الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي" على صقلية سنة (336 هـ/ 948 م)، الذي عمل على توطيد الحكم لأسرته، واستمر حكم الكلبيين على الجزيرة حتى سنة (435 هـ/ 1044 م)، بعد الثورات والفتن على "الصمصام" آخر الأمراء الكلبيين[2].
صقلية وتفرُّق أمرائها المسلمين يؤذن بسقوطها:
وآل أمر الجزيرة إلى قادة الجند أمراء الطوائف، حيث انقسمت صقلية إلى أكثر من إمارة مع تنازعهم، فاستقل "ابن الثمنة" ببلرم وسرقوسة، وانفرد "ابن الحواس علي بن النعمة" بـ: "قصريانة" و"جرجنت"، وتذكر المصادر أن خلافًا وقع بين "ابن الثمنة" و"زوجته"، فهربت إلى أخيها "ابن الحواس" وأبت العودة إلى زوجها، فجهز "ابن الثمنة" جيشه لمحاربة "ابن الحواس"، والتقى الجيشان في معركة هُزِمَ فيها "ابن الثمنة" سنة (444 هـ/1053 م)، فلجأ "ابن الثمنة" إلى "النورمان" حكام "إيطاليا"، فسهل لهم بهذا سبل الدخول إلى "صقلية" واحتلالها، وضياعها من أيدي المسلمين[3].
روجر ملك النورمان وعلاقته مع مسلمي صقلية:
رغم سقوط الإمارة الإسلامية على يد "النورمان" بقيادة الكونت "روجر" عام 484 هـ / 1091 م، إلا أنه من العجيب أن نجد استمرار طابع الحضارة الإسلامية أغلب فترات حكم النورمان، فالواقع أن "النورمان" حينما وطأت أقدامهم أديم صقلية أدركوا أن الحضارة الإسلامية هي العنصر الغالب والمسيطر على جميع أوجه الحياة بالجزيرة هذا على الرغم من وجود المسيحيين بها؛ لذا قرروا الاستفادة من هذا الجانب، من باب التقرب من السكان وكسب ودهم، ولإعجابهم بحضارة المغلوبين وهم المسلمون، والأرجح أن المسلمين قد شكَّلوا غالبية السكان بجزيرة صقلية، وهم ينحدرون من أصول مختلفة، فمنهم الصقليون الأصليون والمولدون، وكذا العرب من اليمن ومن قيس وقريش ومنهم من ينتمي إلى قبائل بربرية مغربية شهيرة كهوارة ولواتة وزناتة هذا إلى جانب بعض الفئات وفدت من المشرق الإسلامي والأندلس، وإذا كان النورمان قد أنهوا الوجود السياسي الإسلامي بهذه الجزيرة فإن مظاهر التمدن والرقي التي صادفوها قد بهرتهم وأثلجت صدورهم وتأثروا بها أيما تأثر.
وأمام هذه الحقيقة كان لزامًا على حكام النورمان أن يسلكوا سياسة إسلامية محكمة ومرنة تضمن لهم على الأقل ولاء هذا العنصر الإسلامي وكذا الأمن والاستقرار واستمرار مجرى الحياة داخل الجزيرة[4].
وستعرف هذه العلاقة استمرارًا وتطوُّرًا ملحوظين في عهد خليفته وابنه الملك روجر الثاني (1101- 1154 م) وحفيديه، وليم الأول ( 1154 -1166 م) ووليم الثاني (1166 -1189 م).
لكن اضطهاد خلفاء النورمان بعد انتقال العرش لأكثر من أسرة أدَّى إلى هجرة المسلمين إلى البلاد الإسلامية المجاورة، وتعرضهم لحملة اضطهاد مماثلة لما تعرض له الأندلسيون في محاكم التفتيش الإسبانية وقت سقوط دولة الأندلس، كما أدَّت هجمات الأساطيل الإسلامية من بلاد المغرب والدولة العثمانية إلى إخلاء سواحل صقلية حتى القرن التاسع عشر الميلادي، وبذلك انحسر الوجود الإسلامي في صقلية، وإن كان ما زال التأثير الإسلامي ظاهرًا وبقوة في كثير من مظاهر حياة السكان القدامى للجزيرة.
• كانت جزيرة "صقلية" تمثل أهمية استراتيجية كبيرة لدى المسلمين، فقد كانت المعبر لحضارة الإسلام إلى أوروبا. • كانت صقلية قبل فتحها تتبع الروم، وكانوا يشنون منها الغارات على تونس وشمالي إفريقيا؛ لذا اهتم المسلمون منذ القرن الأول الهجري بفتحها. • كانت غزوات المسلمين على صقلية مناوشات وحروب تأديبية للبيزنطيين، يغنم منها المسلمون غنائم طيبة، وكانت أول حملة على الجزيرة في خلافة "معاوية بن أبي سفيان" سنة 46 هـ / 667 م. • استمرت محاولات فتح صقلية طيلة العهد الأموي، مع استبسال البيزنطيين في الدفاع عنها، لأهميتها الكبيرة. • تم فتح صقلية في عهد "بني الأغلب"، حيث أرسلوا الفقيه والقاضي "أسد بن الفرات" الذي تم على يديه فتح "سرقوسة" سنة 212 هـ / 828 م. • فتح المسلمون "بلرم" التي اتخذوها عاصمة إمارتهم في صقلية سنة (216 هـ / 832 م). • استطاع المسلمون بفتح صقلية السيطرة على بحر الروم بعد إجلاء البيزنطيين عنها، وقيل: إن فتح صقلية بالكامل وإتمام سيطرة المسلمين قد تم بعد حروب دامت نحو 138 سنة. • قام "الأغالبة" بالاهتمام بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والعلمية على أرض الجزيرة التي كانت بأكملها ذات صبغة إسلامية وقت حكم ولاة الأغالبة عليها. • يعدُّ فتح جزيرة صقلية أهم عمل قام به "الأغالبة" في البحر المتوسط. • تميزت فترة حكم ولاة بني الأغلب بالتسامح الديني، كما أدخلوا إلى الجزيرة غراسة القطن وزراعة الحمضيات، كما اهتم المسلمون في صقلية بالجانب العمراني حيث عرف ازدهارًا كبيرًا. • استمر التأثير الإسلامي حاضرًا بقوة في عهد "النورمان" الذين أسقطوا الإمارة الإسلامية، وكان العرب العنصر السكاني الغالب على الجزيرة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. • تعرض المسلمون في صقلية لحملة اضطهاد مماثلة لحملة اضطهاد الأندلسيين في محاكم التفتيش الإسبانية أدت لهجرتهم من الجزيرة للبلدان الإسلامية المجاورة والنجاة بدينهم. |
[1] تاريخ ابن خلدون (العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر)، عبد الرحمن بن خلدون (732 - 808 هـ)، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، 1401هـ - 1981م، (4/ 58).
[2] الجاليات الإسلامية في صقلية تحت الحكم النورماني (483 - 584هـ / 1091-1198م)، إلياس جندل وهشام بن بتيش، صـ19.
[3] A very brief history of Sicily, Archaeology.Stanford.edu, p. 14.
[4] النورمان والمسلمون في جزيرة صقلية في عهد الكونت روجر (توفي عام 1101م)، رشيد تومي، مجلة الاتحاد العام للآثاريين العرب ع (12)، الاتحاد العام للآثاريين العرب، مصر، 1432هـ - 2011م، صـ73، 74.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.