مظاهر حضارة المسلمين في صقلية (1)مقالات


• أقام المسلمون في صقلية 426 عامًا: تفصيلها بالتاريخ الهجري: مدة الحكم الإسلامي (217 - 450 هـ) 233 سنة، أما مدة الحكم النورماني (450 - 643 هـ) 193 سنة.

• من غير المألوف تأثر الغالب بثقافة المغلوب وحضارته، وهو ما حدث في صقلية بعد سقوط الحكم الإسلامي بها على يد "النورمان".

• عندما أتم المسلمون فتح الجزيرة قاموا بتنظيمها إداريًّا، وأقاموا عددًا من المشاريع الزراعية التي ما زالت آثارها ظاهرة.

• اهتم المسلمون بالصناعات في صقلية وعلى الأخص صناعة النسيج وصباغة الملابس، وصناعة المجوهرات والحلي بمعدن الذهب والمرجان.

• كانت التجارة في عهد الأغالبة والكلبيين نشطة فيما بين صقلية وإفريقية ومصر، وَملكَ المسلمون تجارة حوض المتوسط.

• كانت العربية لغة البلاد، واللسان الرسمي حيث كانت تستعمل في جميع معاملات صقلية قبل اللغة النورمانية، وذلك في عهد ملوك النورمان.

• أصدر ملوك النورمان نقودًا عربية الضرب والصيغة وعليها الشهادة، وكذلك الآية التاسعة من سورة الصف.

• كانت مدن صقلية وحواضرها ملأى بالمساجد، حتى إن من زارها ذكر أن بكل مدينة من مدنها أكثر من ثلاثمائة مسجد.

• كان للوجود العربي- الإسلامي تأثيرًا في فنون العمارة بباليرمو، وبقيت بعض آثارهم موجودة حتى الآن كالقصور والحمَّامات.

• برع المسلمون تحت حكم الأغالبة والكلبيين والنورمان في شتى العلوم، فكان منهم الأدباء والشعراء والأطباء، وقد تأثر بهم النورمان، وكانت لهم مكانة كبيرة عندهم.

 

حكم المسلمون صقلية، غازين فاتحين ممدنين، مدة 233 عامًا هجرية (224 عامًا ميلادية) من سنة 217 إلى 450 هـ، ومن سنة 833 إلى سنة 1056 م إلا أن نفوذهم، بقي عظيمًا قويًّا في الجزيرة، بعد أن تقلص سلطانهم عنها، فكانوا طيلة عهد خلفائهم "النورمان" هم الذين يديرون الملك، ويديرون شؤون السياسة، ويعمرون قصور الأمراء ودور العلم ويشيدون المعالم والمعاهد؛ فكانوا يومئذٍ مشتركين في حكم الجزيرة اشتراكًا فعليًّا، حتى إنه ليكاد يتقرر بأن أزهى وأزهر عصور المسلمين في صقلية إنما هو العصر الذي عملوا فيه أعمالهم الدينية الباهرة تحت سلطة أمراء "النورمان".

 

تأثر غير مألوف بالحضارة المغلوبة:

ولقد اتخذ أولئك الأمراء الشماليون "النورمان"، وكانوا حديثي عهد بالمدنية، سيرة ملوك المسلمين، فلبسوا لباسهم، وتحلَّوا بأخلاقهم، وسكنوا مساكنهم، واستعملوا في دواوينهم لغتهم العربية، فكانت الدولة يؤمنذ دولة نورمانية - إسلامية، ودامت الحالة على ذلك طيلة 193 عامًا إلى أن طغى سلطان التعصب الديني، فأخرج الإمبراطور "فريدريك الألماني" المسلمين عامة من الجزيرة وأنزلهم بالسواحل الإفريقية؛ وبقيت منهم بقايا بالبلاد نُصِّرَتْ أو ماتت همًّا وكمدًا.

وهكذا أقام المسلمون من أهل الشمال الإفريقي بالأرض الصقلية بين حاكمين، ومشاركين في الحكم، ومحكومين 426 عامًا: تفصيلها بالتاريخ الهجري: مدة الحكم الإسلامي (217 - 450هـ) 233 سنة، أما مدة الحكم النورماني (450 - 643هـ) 193 سنة[1].

 

نظام إداري فريد:

عندما أتم المسلمون فتح الجزيرة قاموا بتنظيمها إداريًّا حيث كانت الجزيرة مقسمة منذ عهد الفينيقيين إلى ولايتين: "سرقوسة" و"بلرم"، أما العرب فقد قسموها إلى ثلاث ولايات، تقسيمًا مناسبًا للوضعية الجغرافية.

وكان لكل قسم والٍ، وكان تحت كل والٍ عدد من القُوَّاد، يختص كل واحد منهم بشأن من شئون الجزيرة، وظهرت الوزارة، حيث كان للوزير صلاحيات كبيرة، وكان يتصرف في الشؤون المالية كالضرائب، كما كانت له سلطات عسكرية، كما عرفت "صقلية" نظام الحجابة فقد كان الأمراء والوزراء يتخذون الحاجب، وعرفت نظام الدواوين، مثل: ديوان الإنشاء، وديوان الصناعة، وديوان الخمس[2].

كان المفتي وهو قاضي القضاة ينتصب في مدينة "بلرم"، وفي كل مدينة من المدن كان يوجد قاضٍ وكاتبٍ.

 

مشاريع زراعية ما زالت آثارها ظاهرة:

وكان اقتصاد "صقلية" الزراعي يقوم على نظام ري ممتاز، فقد أدخلت إلى الجزيرة أساليب الري الفارسي، كما احتفظوا بالنظام البيزنطي للري، كما أدخلوا إلى الجزيرة غراسة القطن، وقصب السكر، وشجرة المن Fréne، والزيتون والفستق، والبرتقال، والليمون، وقد ذكر الرحالة "ابن حوقل"؛ أن أرضهم اشتهرت بالخصب والسعة، وأن حقولهم كانت ملأى بالقمح والشعير، وتغطي مساحات كثيرة من أقسام الجزيرة وأراضيها[3].

ونجد أن قنوات الري والترع التي أنشأها المسلمون بعضها ما زال موجودًا، وما زال يستعمل في الزراعة التقليدية في أرض الجزيرة، كما لا تزال القرية الصقلية تحمل الطابع الإسلامي إلى الآن.

 

الصناعات والتجارة:

اهتم المسلمون بالصناعة التعدينية مثل: الذهب والفضة وصناعة النسيج، حيث كان الحرير في صقلية رائجًا، ويوجد في متاحف العالم نماذج من معاطف الحرير التي كان يرتديها ملوك صقلية محاطة بنسج من الكتابة الكوفية[4]، وذكر "ابن حوقل" في كتابه "صورة الأرض" أن كتَّان أهل صقلية وصوفها كان من أهم ما يمتاز به أهل الجزيرة، كما نجد أن فن صباغة الثياب قد انتقل من صقلية إلى أوروبا [5].

وقد استغل المسلمون أحسن استغلال ثروات البلاد الطبيعية، من فضة وحديد ونحاس وكبريت ورخام وجرانيت.. إلخ، ومن الصناعات التي كانت في "بلرم" صناعة المجوهرات والحلي بمعدن الذهب والمرجان[6].

إلى جانب براعتهم السابقة في صناعة السفن والأساطيل الحربية، التي ظلت تغدو وترسو على سواحل عاصمة الجزيرة خاصةً في عهد الملك النورماني "روجر الأول"[7].

أما التجارة فقد كانت قبلهم ليست بذات قيمة فأصبحت بفضلهم نشطة فيما بين صقلية وإفريقية ومصر[8]، والدليل على ذلك، ما كانت تتقاضاه (الديوانة) من مكوس على الصادرات والواردات في عهدهم، وقد استمرت أهمية "صقلية" التجارية في عهد ملوك "النورمان"، وذلك في عهد "روجر الأول"؛ إذ ظلَّ الملك النورماني يخطط لتحويل جزيرة صقلية إلى مركز ثقل تجاري يكون شمال إفريقية الإسلامية أحد المتعاملين الأساسيين معه، ومن ذلك بات لزامًا عليه مسالمة مسلمي صقلية ومهادنتهم حتى يحقق هذه الغاية الاقتصادية المنشودة؛ بل نجده عندما طلب منه أحد ملوك النصارى الانضمام إليه لغزو إفريقية حيث كان رده على هذه الدعوة الامتناع والرفض البات، وذلك مراعاةً لمصالحه التجارية مع إفريقية وحفاظًا على معاهدة السلام التي تربطه بالأمير "تميم بن المعز الزيري"[9].

وقد صارت مدينة "مسينا" مركزًا تجاريًّا قويًّا خاصةً في عهد الملك "روجر الثاني"، ومن أبرز أسواق المدينة كان "سوق الصالح" الذي يضم القطانين والحلاقين والحذائين، وأيضًا سوق اللحم الذي يضم مائتي حانوت لبيع اللحم، وقصابين وجزارين[10].

 

سطوة اللغة العربية في صقلية أيام النورمان:

كانت العربية لغة البلاد، واللسان الرسمي؛ حيث كانت تستعمل في جميع معاملات صقلية قبل اللغة النورمانية، وكان شعار الملك عربيًّا، والتخاطب في البلاد بالعربية، وأصدر ملوك النورمان نقودًا عربية الضرب والصيغة وعليها الشهادة، وكذلك الآية التاسعة من سورة الصف وهي: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9][11].

وثمة سجلات أبقى عليها النورمان تحمل اسم Defetarii وهو مقتبس من اللفظ العربي "دفتر"، وتتضمن هذه الدفاتر ذات الطابع المالي وصفًا دقيقًا لوضع كل إقطاع بصقلية من حيث الحدود والمساحة وأسماء ملاكها وأتباعهم من الأسياد والفلَّاحين الأحرار والعبيد[12].

 

[1] المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، أحمد توفيق المدني، نشر مكتبة الاستقامة تونس، طبع المطبعة العربية بالجزائر، 1365هـ، صـ28.

[2] الجاليات الإسلامية في صقلية تحت الحكم النورماني (483-584 هـ / 1091-1198 م)، إلياس جندل وهشام بن بتيش، شهادة ماجستير في التاريخ، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد بوضياف، الجزائر، 2016-2017 م، صـ15.

[3] صورة الأرض، ابن حوقل، دار صادر، أفست ليدن، بيروت، 1938 م، (1/ 118 - 131).

[4] المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، أحمد توفيق المدني، صـ211.

[5] صورة الأرض، ابن حوقل، (1/ 131).

[6] نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، الإدريسي، مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة، د.ت، ، صـ590.

[7] دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية، أمين توفيق الطيبي، دار اقرأ للطباعة والنشر- طرابلس، 1990 م، صـ222.

[8] تاريخ صقلية الإسلامية، عزيز أحمد، ترجمة: أحمد توفيق الطيبي، الدار العربية للكتابة، 1980 م، صـ46.

[9] النورمان والمسلمون في جزيرة صقلية في عهد الكونت روجر (توفي عام 1101 م)، رشيد تومي، مجلة الاتحاد العام للآثاريين العرب ع (12)، الاتحاد العام للآثاريين العرب، مصر، 1432هـ - 2011م، صـ 78.

[10] دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية، أمين توفيق الطيبي، صـ223.

[11] تاريخ الحضارة الإسلامية فى صقلية وأثرها على أوروبا، د. حامد زيان غانم، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1977 م، صـ105.

[12] النورمان والمسلمون في جزيرة صقلية في عهد الكونت روجر (توفي عام 1101 م)، رشيد تومي، صـ77.