المصدر: شبكة الألوكة 10/ 4/ 2008م
يعد "محمد علي شيلهافي"، المعروف في أوساط المسلمين بـ "أرشيف الإسلام في تشيكوسلوفاكيا" والبالغ من العمر تسعين عامًا - يعد من أوائل المسلمين ذوي الأصول التشيكية، وقد أسهم بدور بارز في التنسيق بين السلطات التشيكية والمسلمين من أجل حقوقهم.
ولد "شيلهافي" في 19 من نوفمبر عام 1917م، بإحدى قرى مدينة "تربيتش" التابعة لإقليم "مورافيا" فيما كان يعرف سابقًا بالإمبراطورية النمساوية المجرية، وكان والده يعمل أستاذًا في مدرسة القرية، واهتم "شيلهافي" في أثناء دراسته المتوسطة بعلم الأحياء؛ حيث اعتاد التفكر في المخلوقات على تنوعها وعجائب خلقها.
"شيلهافي" الذي يطلق عليه داخل أوساط الأقلية أيضًا "عميد مسلمي التشيك"، روى مسبقًا قصته مع الإسلام، موضحًا أن أول اتصال له بهذا الدين كان أثناء دراسته الثانوية بمدينة "تربيتش" في ثلاثينيات القرن الماضي؛ حيث شاهد في إحدى المكتبات ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة التشيكية، مزينة بالنقوش العربية، فكان يوفر من مصروفه اليومي ليجمع المبلغ اللازم لشرائه، كان لاهتمامه المبكر بعلم الأحياء دور في بحثه عن الخالق الحق - سبحانه وتعالى - ليكتشف أسرار قدرة الخالق المصور.
وعن تلك اللحظة الحاسمة في حياته، يقول "شيلهافي": "عندما طلبت شراء نسخة القرآن، ظنت البائعة في المكتبة أنه قد اختلطت عليَّ الأسماء، لما كان عليه الناس في تلك الأيام من جهل بالإسلام والمسلمين، فأحْضَرَت لي كتابًا للأطفال عن بطولات القبطان "كوركوران".
أما أول تواصل لـ"شيلهافي" مع المسلمين فقد كان من خلال إعلان نَشَرَتْه الجماعة الإسلامية في "تشيكوسلوفاكيا" تعلن فيه عن تأسيسها الرسمي في عام 1934، وبدأت مراسلات بين "بريميسل"، "شيلهافي" - وهو اسمه قبل إسلامه - وأعضاء الجماعة الإسلامية، واستمرت الاتصالات بينهم إلى أن أشهر إسلامه في 9 من إبريل عام 1937 وهو في العشرين من عمره، واختار لنفسه اسم "محمد علي شيلهافي"، وبهذا الاسم عُرف حتى موته فجر الجمعة 6 ربيع الأول 1429هـ، الموافق 14/ 03/ 2008م.
أول طالب يدرس الإسلام:
ورشحته الجماعة الإسلامية للسفر إلى مصر عام 1938 ضمن منحة رسمية مقدمة من جامعة الأزهر لدراسة العلوم الإسلامية، ليكون بذلك أول طالب بجمهورية التشيك يدرس الإسلام، كما كان الطالب التشيكي المسلم الوحيد الذي درس في جامعة إسلامية.
إلا أنه لم يواصل الدراسة بعد أن احتلت القوات الألمانية "تشيكوسلوفاكيا"، وعاد إلى وطنه للاطمئنان على الأوضاع هناك، فرفضت حكومة الاحتلال السماح له بمغادرة البلاد مرة أخرى.
فقرر "شيلهافي" الدراسة في جماعة مدينة "برنو"، وكان في الوقت نفسه عضوًا نشطًا في الجماعة الإسلامية مع غيره من المسلمين التشيك مثل: "يرجي بيتشكا" (من المستشرقين)، و"إيفان هربيك"، (مترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة التشيكية)، و"أحمد فوندرجيخ" (جنرال في الجيش التشيكي).
بعد إنهاء دراسته عمل مدرسًا لمادة الأحياء في مدينته "تربيتش"، حيث كان المعلم أو المدرس الصارم في حصته، ولكنه كان من أحب الأساتذة إلى قلوب تلامذته؛ كما يقول تلميذه السيد "فرانتيشك بوبلان"، وزير الداخلية التشيكي السابق، وعضو البرلمان الحالي.
بيت واحد للمسلمين:
وبرغم قسوة الحكم الشيوعي في التعامل مع الأديان، وما فرضه على معتنقيها من قيود صارمة، فإن "شيلهافي" كان يحرص على تطبيق تعاليم الإسلامي في حياته الخاصة.
كما أنه يحرص على أن يعكس الجو الإسلامي داخل بيته؛ حيث صنع محرابًا في غرفة الضيافة في بيته وفرش الأرض بسجادات الصلاة، وزين جدران الغرفة بلوحات تحتوي على آيات قرآنية.
وحرص "شيلهافي" على المحافظة على صلته بالمسلمين داخل التشيك، وتنظيم اللقاءات معهم داخل بيته ذي الطابع الإسلامي في مدينة ليس فيها غير بيت واحد من المسلمين.
وتمت دعوة "شيلهافي" لحضور أحد المؤتمرات الإسلامية في النمسا، ومنها توجه إلى أراضي الحجاز لأداء فريضة الحج، ليكون ثاني مسلم في التشيك الذي يؤدي فريضة الحج، بعد الحاج "بوهدان بريكسيوس".
الثورة المخملية:
وكما كان "شيلهافي" حريصًا على التواصل مع المسلمين إبَّان الحكم الشيوعي بادر أيضًا بعد انتهاء الحقبة الشيوعيَّة، وتحديدًا عام 1990 بمراسلة الحكومة التشيكية ووزارة الخارجية يطالبهم فيها بالاعتراف بالإسلام، مستفيدًا من أجواء الحرية التي سمحت بها الثورة المخملية (تغيير سلمي).
كما قام "شيلهافي" بإحياء الجماعة الإسلامية في "تشيكوسلوفاكيا"، وفي عام 1991 بدأ البروفيسور "شيلهافي" مع بعض المسلمين مجددًا بإصدار مجلة "الصوت" غير الدورية الناطقة باسم الجماعة.
وفي 18 من مايو 1991 انعقد في العاصمة براغ المجلس التأسيسي للاتحاد الإسلامي، وانتخب البروفيسور "شيلهافي" رئيسًا للاتحاد في "التشيك"، ثم أعيد انتخابه مرة أخرى في عام 1992.
أرشيف الإسلام:
ويعتبر مسلمو التشيك "شيلهافي" سجلاًّ حيًّا يحكي تاريخ الوجود الإسلامي بالبلاد، ويقول "منيب الراوي" رئيس جمعية الوقف الإسلامي بالتشيك في تصريحات لـ "إسلام أون لاين نت": "كأقلية مسلمة في التشيك نعتبر البروفيسور "شيلهافي" الجسر الذي ربط بين حقبتين من الوجود والنشاط الإسلامي في هذا البلد، حيث كانت الحقبة الشيوعية تمثل الهُوة الزمنية بينهما، وكان "شيلهافي" هو الشخص الذي يحمل بمفرده تقريبًا تلك الراية، ويحتفظ في بيته بكل الوثائق التي تؤرخ للوجود الإسلامي في هذا البلد في "تشيكوسلوفاكيا" السابقة، قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، وفي أثناء الحقبة الشيوعية التي امتدت من بعد الحرب العالمية الثانية 1945 وحتى 1989".
ويشير الراوي إلى أن: "البروفيسور "شيلهافي" دائم الترحيب هو وزوجته بأي زيارة أو اتصال من أي فرد من المسلمين، وكان لا يتوانى حتى آخر أيامه عن مرافقة ضيوفه حتى عتبة داره برغم تقدمه في السن، كما أنه يتسم بتواضعه ورفضه أي شكل من أشكال التَّكريم والإطراء جزاء ما قدمه للإسلام، فهو يعتبر عمله جزءًا من واجبه كمسلم".
وبرغم أن "شيلهافي" سَلَّم جميع ما لديه من مستندات ووثائق للإدارات الشابة في الاتحاد الإسلامي عام 2000؛ بسبب ظروفه الصحية، وبطلب وإلحاح منه، فإن الإدارة الجديدة بقيت مصرة على بقائه رئيسًا للاتحاد الإسلامي تقديرًا لجهوده السابقة، فيما يقوم بمهامه الفعلية نائبًا للرئيس حسب دستور هذا الاتحاد، وبقي رسميًّا يحمل هذه الصفة حتى وافته المنية فجر الجمعة.
وتكريمًا لـ"شيلهافي" وأثناء انعقاد أحد المؤتمرات الصيفية للمسلمين الناطقين باللغة التشيكية في مدينة تربيتش برعاية الندوة العالمية للشباب الإسلامي، سبق وأن قررت الإدارة الشابة للاتحاد الإسلامي وضع جائرة تحمل اسم "جائزة محمد علي شيلهافي"، وتقدم للأشخاص أو المؤسسات التي تساهم في مساعدة المسلمين، أو تنمية وجودهم الإيجابي في التشيك، ومن المؤمل أن تسلم الجائزة لأول مرة في الذكرى العاشرة لافتتاح مسجد "برنو"، وهو أول مسجد رسمي في التشيك، والذي افتتح في 2 / 7 / 1998.
إسهاماته للإسلام:
وخلال المساعي الحثيثة التي بذلها المسلمون في مدينة "برنو"، (وهي ثاني أكبر مدن "التشيك" بعد العاصمة) للحصول على موافقة على بناء مسجد "برنو" بين العامين 1995 و1997 كان لاسم "شيلهافي" الأثر الكبير في الحصول على موافقة المجلس البلدي.
فقد كان نائب عمدة الحي الذي تقع عليه الأرض المشتراة لبناء المسجد من تلامذة "شيلهافي" السابقين في المرحلة الثانوية، وكان لحبه أستاذه ومعرفته الشخصية له أبلغ الأثر في تليين مواقف أعضاء في المجلس البلدي الذي سبق أن رفض منح ترخيص البناء، وفي تصويت ثانٍ وافق المجلس على منح الترخيص.
كما أسهم "شيلهافي" في إعادة تشكيل الاتحاد الإسلامي بعد انهيار الشيوعية مما أعطى المسلمين الجدد عمقًا تاريخيًّا لوجود الإسلام يمتد لعشرات السنين، فأصبح لا ينظر إليهم على أنهم ظاهرة جديدة في هذه البلاد؛ بل جزء من تاريخها.
"شيلهافي" كان أول من ساهم في إطلاق حملة ترجمة كتب عن الإسلام، وكتب إسلامية بعد الثورة على الشيوعية منها: "الإسلام بين الشرق والغرب"، "ماهو الإسلام؟"، "مطويات"، "الإسلام في البؤرة".
وساهمت مراسلات "شيلهافي" واستقباله لزيارات من بعض الشبيبة التشيك في بداية التسعينيات في توضيح مبادئ الإسلام لهم، والإجابة عن أسئلتهم، واعتناق البعض منهم الإسلام على يديه.
ويبلغ تعداد مسلمي التشيك نحو 10 آلاف شخص من أعراق وجنسيات مختلفة، ولهم مسجدان في "براغ"، و"برنو"، إضافة إلى بعض المصليات.
وفي عام 2004 استطاع المسلمون تسجيل الإسلام ضمن الديانات المعترف بها في جمهورية التشيك، وهو اعتراف أولي يعطي المسلمين بعض الحقوق؛ ولكن ليس كافة الحقوق المعطاة لبقية الديانات المسجلة؛ كالمسيحية، واليهوديَّة.
وفي عام 2006 تقدم الاتحاد الإسلامي بطلب الاعتراف الكامل إلاَّ أن الحكومة - وهي حكومة يمين وسط بالتَّحالف مع الاشتراكيين المسيحيين وحزب الخضر - رفضت الطلب.
الشيلهافي في ذمة الله:
في يوم الخميس، آخر يوم من أيام حياة الحاج "شيلهافي"، وكما تذكر زوجته طلب منها طلبًا خاصًّا، ألا وهو تحضير طعام "البورك" المشهور عند مسلمي البلقان عمومًا، والذين تربط "شيلهافي" بهم علاقة الأخوة في الإسلام منذ الأيام الأولى بعد إسلامه، وكان حتى الأيام الأخيرة من حياته دائم الحنين لذكراهم ولزيارة بلاد البلقان وخصوصًا "سراييفو" عاصمة "البوسنة"، و"الهرسك"
وفي ذلك اليوم وصلته رسالة من شخص نصراني يبدي إعجابه بالإسلام، ويعتبر نفسه صديقًا للمسلمين، تقول زوجته: كان في ليلة الجمعة تلك سعيدًا ومسرورًا، ويشعر بانشراح كبير، وشكرها في تلك الليلة كثيرًا كثيرًا ورقد، ليستيقظ قبل الفجر وينهض مستندًا عليها، ويرجع بعد ذلك ليجلس جنبها، حيث رأت العرق يتصبَّب من جبينه، فأسرعت لتعطيه "الكلوكوز"؛ لأنه كان مريضًا بالسكر، ومن ثَمَّ اتَّصلت بالطبيب، لكن الطبيب الذي وصل خلال دقائق، وصل ليجد أن الحاج "شيلهافي" قد فارق الدنيا، وكان ذلك بحلول وقت صلاة الفجر ليوم الجمعة، حسب الوقت الذي وجدناه مذكورًا في تقرير الوفاة.
كان صدقًا كالمبتسم لمن حوله أو كالنائم المستغرق في نوم هادئ عندما غسَّلناه وكفَّناه، حتى يتوقع الناظر إليه بأنه قد يتكلم، ونسأل الله تعالى أن يكون هذا علامة خير، وقبول عند الله تعالى.
كان موصيًا أهله بأن نتولى نحن مراسم ترتيبات التغسيل والدفن، وألاَّ تجري أية مراسم أو طقوس غير إسلامية عند وداعه؛ كعزف الموسيقى أثناء مراسم تأبينه، أو الوداع الأخير معه في قاعة المقبرة، وكما هي العادة عند التشيك والأوربيين على العموم، دفن في مكان حدد موقعه بنفسه مع مديرة المقبرة في الجزء المخصص للمسلمين في مقبرة مدينة "تربيتش"، وهي المقبرة التي كان هو سببًا - بعد الله سبحانه وتعالى - في تخصيصها للمسلمين من عموم التشيك، وكانت من الأعمال التي وقف على إنجازها، لقد كان شديد التنظيم حتى أيامه الأخيرة، وينجز كل عمل يتوجب عليه إنجازه.
حضر صلاة الجنازة والتشييع مسلمون في كافة المدن "التشيكية" و"السلوفاكية"، وكان ذلك ظهر يوم الأحد 8 ربيع الأول 1429 هـ، الموافق 16 / 3/ 2008م . نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وعظيم مغفرته. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.