من تاريخ الحضارة الإسلامية في كريت (2)مقالات


المدارس الدينية والأوقاف الخيرية:

تطور نظام التعليم في الدولة العثمانية، وتعددت المنشآت التي تؤدي مهامَّ تعليميةً، ونرى أنه بينما كانت توجد منشآت مخصصة للتعليم كوظيفة رئيسة، على رأسها المدرسة والمكتب (الكُتَّاب أو المعلمخانة)، وكذلك دار القراء، ودار الحديث، كان يوجد أيضًا نظم أو برامج تعليمية أخرى مختلفة تتم داخل الجوامع والزوايا، والمكتبات، والبيوت الخاصة؛ مما يشهد على مدى اهتمام وحرص العثمانيين على العلم والتعليم والتعلُّم من جهة، ويعكس في الوقت نفسه طبيعة الثقافة إبان العصر العثماني من جهة أخرى[1].

ونجد أنه قد شاع في كريت نوع من الوقف التعليمي يختص بتعليم بنات الكريتليين المسلمات، وتشير وقفية "محمد بن مصطفى" مؤرخة بـ(25 رمضان 1175 هـ/ 19 إبريل 1762 م)، الساكن في قرية "بارانمو" بقضاء "حانية" بكريت، أنه أوقف دارًا بمحلة "جامع يوسف باشا" بمدينة "حانية" بجزيرة كريت لاستخدامها مدرسة لتعليم البنات، واشترط أن تقوم "عائشة خاتون" بالإقامة والتدريس فيها، وأوقفت كذلك والدة "محمد بن مصطفى": السيدة رحيمة خانم بستانًا ومزرعة زيتون لمنح ريعهما لمعلمة المدرسة نفسها.

كما تشهد الوقفيات العثمانية باستمرارية دور المسجد- المدرسة؛ كما في جامع السلطان إبراهيم، (هنكار) والقلعة الداخلية (إيج قلعة) بحانية بجزيرة كريت التي خصصت لتعليم أبناء المسلمين بكريت بدون أجر تعاليم الدين الإسلامي ومسائل الفقه وأصوله وعلوم التفسير.

تؤكد كذلك وقفية "إبراهيم آغا" (1167 هـ/ 1753 م) بمدينة "حانية" بكريت على القيام بأعمال التدريس في المنازل الخاصة؛ حيث قام بتخصيص مخصصات من موارد وقفه للمدرِّس الذي يقوم بتدريس الطلاب كل يوم في بيته تعاليم الإسلام للإنفاق عليه وعلى جهوده التعليمية[2].

وتشير كل أشكال العملية التعليمية في الدولة العثمانية - التي ذكرت سابقًا - وعلى رأسها المدارس، أنها كانت تبنى، وينفق عليها، ويرعاها، ويحدد شروطها نظام الوقف، وهو في الأغلب يمثل وقفًا أهليًّا؛ بغض النظر عن مكانة، أو وظيفة، أو هُوِيَّة، أو جنس الواقف، فكان السلطان، أو الوالي، أو القائد، أو العالم، أو القاضي، أو المدرس، أو حتى الوقف الجماعي، وكذلك أوقاف النساء، كلها في نهاية المطاف تَمَّت من خالص وحر أموالهم بصفتهم الشخصية بعيدًا عن وظائفهم ومواردهم الحكومية في الدولة إن وجدت.

وظل الأمر على هذا النحو حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا؛ حيث ظهرت المدارس "الحكومية" وفق مفهوم المدارس الحديثة من حيث البناء، والمناهج، وبيئة التعلم، ونظام الإدارة.

ولا تزال نماذج عديدة من تلك المدارس الأخيرة باقية في أرجاء الأراضي التي كانت خاضعة للحكم العثماني، وجدير بالذكر الإعجاب بعلو ورفعة مكانة وقدر المدرس في المجتمع العثماني، وهو ما انعكس على أجور المدرسين بشكل ملحوظ؛ فكان متوسط أجر المدرس الشهري خلال القرن 9 هـ/ 15 م يبلغ 15 أقجة أو عشرة دراهم، وهو راتب كبير، مع الأخذ في الاعتبار أن المدارس المذكورة هنا خارج العواصم الرئيسة المشهورة بالبلقان.

ومن أهم نماذج (المسجد - المدرسة) هو جامع ومدرسة السلطان إبراهيم بخانيا بجزيرة كريت، و"مدرسة إيرابترا" في مدينة "إيرابترا" بجزيرة كريت، والتي بُنيت عام 1899 م.

• مدرسة جامع السلطان إبراهيم (1055 - 1058 هـ/ 1645 - 1648 م) في مدينة "خانيا" (حانيه) بجزيرة كريت: بقايا هذه المدرسة تمثل النموذج الوحيد الباقي للمدارس العثمانية الإسلامية في جزيرة كريت؛ حيث إن الحجرات المبنية بفناء جامع الوالي "حسين باشا برسمو" تمثل حجرات "التكية القادرية" المبنية مع الجامع وقت الإنشاء وفقًا لوثيقة الوقف التي لم يرد بها ذكر لأي مدرسة أو مكتب أو دار تعليم، والمدرسة الباقية بمدينة "إيرابترا" تنتمي إلى المدارس العثمانية الحديثة المبنية نهاية القرن 13 هـ/ 19 م.

وكانت مدرسة السلطان إبراهيم تكوِّن مع جامع السلطان إبراهيم الذي عرف باسم جامع (هنكار)؛ أي: جامع السلطان، مجموعة معمارية شكلت نواة "محلة هنكار" مركز مدينة حانيا القديمة، تقع المدرسة بالجهة الشمالية الشرقية للجامع، نفهم في ضوء ما تبقى منها أنها كانت مدرسة كبيرة المساحة من طابقين حول فناء سماوي مكشوف، تشرف الحجرات على الفناء بواسطة سقيفة بائكتها معقودة بعقود نصف مستديرة، مبنية من الحجر، مغطاة بأقبية متقاطعة مبنية من الحجر، وترتكز على دعامات حجرية قوية الإنشاء، الضلع الجنوبي الشرقي للمدرسة هو الباقي- بالرغم من التعديلات والتعديات الكثيرة- بحالة جيدة من الحفظ إلى حد كبير، سُدت بائكة سقيفة الطابق العلوي لدمجها مع مساحات حجرات المدرسة لاستخدامها كسكن حديث، كذلك الجزء الغربي من الضلع الشمالي الغربي للمدرسة لا يزال باقيًا؛ حيث أصبح يمثل ساباطًا نافذًا من الجهتين الغربية والشرقية، وتم دمج مساحة السقيفة بمستوييها الأرضي والعلوي مع الحجرة العلوية لتشكل وحدة سكنية مستحدثة، وتم استحداث باب خاص بها من داخل- ما كان يمثل- فناء المدرسة، بالإضافة إلى ذلك، كان هناك موضع دعامات بائكة سقيفة حجرات المدرسة، وحوض يتوسط فناء المدرسة السماوي في إشارة إلى موضع فسقية الماء التي كانت تتوسط فناء المدرسة.

 

مسلمو إفريقيا.. والدعوة إلى الإسلام في كريت:

مما هو جدير بالذكر أن المسلمين الأفارقة ساهموا في تشكيل المجتمع الإسلامي بجزيرة كريت، حيث إن انتقال الحكم في الجزيرة في عشرينيات القرن الثامن عشر إلى سلطة "محمد علي باشا" والي مصر كان سببًا مهمًّا في قدوم أعداد كبيرة من الزنوج إليها من القارة الإفريقية، جلبهم "محمد علي" للاستيطان والخدمة في كريت، إلى جانب أن كريت منذ قديم الزمن كانت محطة مهمة على طريق تجارة الرقيق، وكانت بالتالي تأوي العديد من العبيد الأفارقة، وقد ساهم هؤلاء الأفارقة من ممالك إسلامية سابقة بشرق إفريقيا في نشر الإسلام بين أبناء الجزيرة بإخلاص وإيمان؛ مما ساهم في التحوُّل الديموغرافي للسكان في وقت وجيز؛ لكن المشاكل السياسية التي أحاطت بالدولة العثمانية في نهايات أيامها، وسقوط ممالكها في البلقان وحوض المتوسط، جعل كريت تعود ثانية لحوزة النصارى الذين أعادوا كريت ثانية أرضًا نصرانية، إلى جانب عملية هجرة السكان المسلمين الذين تفرَّقوا في حواضر العالم العربي والإسلامي، وساهموا بشكل جلي في الانغماس في الحياة العامة لتلك المجتمعات التي هاجروا إليها، وقدموا خدمات جليلة ارتبطت بجنس الكريتيين، حيث كانت النسبة في أسمائهم علامة على موطنهم الذي هاجروا منه، والتي تتنوع ما بين (القريتلي، الكريدلي، الجريتلي، الكريتلي.. وغيرها) وهي دلالة أيضًا على ما قدَّمه مسلمو ذلك القطر الإسلامي المنسي.

 

• أعاد العثمانيون "كريت" مرة أخرى لحوزة الإسلام عام 1080 هـ- 1669 م، ولبثوا فيها ثلاثة قرون حتى عام 1332 هـ / 1913 م عندما مُنِحتْ لليونان.

• راعى العثمانيون الطبيعة الدينية لأهل "كريت"، وعمدوا إلى القيام بإصلاحات عديدة على أرض الجزيرة؛ مما عاد بالرخاء الاقتصادي والإداري على أهل الجزيرة.

• اعتنق الكثير من أهل الجزيرة الإسلام في مدة لا تزيد عن قرن من حكم الأتراك، حيث اعتنق نصف سكان جزيرة كريت الإسلام طواعية.

• كان النظام الضريبي العثماني في جزيرة كريت يختلف عن النظام الضريبي العام المعمول به في بقية الممالك العثمانية؛ حيث أعفي سكان كريت المحليون من بعض الضرائب.

• كانت جزيرة كريت في عهد "البنادقة" مركزًا مهمًّا جدًّا بالنسبة لأوروبا لصناعة الخمور، وقد تغيَّر ذلك في عهد العثمانيين لمصلحة زراعة الزيتون وصناعاته، وصناعة الصابون.

• تمتعت الجزيرة بعدد من الموانئ الطبيعية التي أحسن استغلالها العثمانيون، وقاموا بإصلاحها، وتشجيع الحِرَف البحرية بها كصيد الأسماك والإسفنج.

• قسمت كريت إلى أربعة أقسام إدارية، هي: "قنديه"، و"خانيا"، و"ريسمو"، و"إيستيا"، وكانت "قنديه" هي العاصمة، ثم تم تغيير العاصمة لخانيا.

• من أهم نماذج مساجد كريت: المسجد المربع المغطى بقبة والمصطلح على تسميته بالمسجد القبة، ومن نماذجه: "مسجد السلطان إبراهيم" بريثمنو، و"مسجد قرا موسى"، و"مسجد كوجك حسن باشا" بمدينة خانيا.

• أما النموذج الثاني الذي انتشر في قرى كريت المسجد ذو الأروقة دون الصحن الأوسط، ومنها على سبيل المثال: "مسجد ولي الدين باشا"، و"مسجد والدة باشا".

• تم هدم العديد من المساجد وتحويل بعضها الآخر إلى كنائس بعد دخول اليونانيين الجزيرة.

• شاع في كريت نوع من الوقف التعليمي يختص بتعليم البنات الكريتيات المسلمات.

 • تشهد الوقفيات العثمانية باستمرارية دور المسجد- المدرسة؛ كما في جامع السلطان إبراهيم، (هنكار) والقلعة الداخلية (إيج قلعة) بحانية بجزيرة كريت التي خصصت لتعليم أبناء المسلمين بكريت بدون أجر تعاليم الدين الإسلامي ومسائل الفقه وأصوله وعلوم التفسير.

• كانت مؤسسات العملية التعليمية في الدولة العثمانية بكريت وعلى رأسها المدارس، تبنى، وينفق عليها، ويرعاها، ويحدد شروطها نظام الوقف، وهو في الأغلب يمثل وقفًا أهليًّا بواسطة كبار المحسنين.

• من أهم نماذج (المسجد - المدرسة) هو "جامع ومدرسة السلطان إبراهيم" بخانيا بجزيرة كريت، و"مدرسة إيرابترا" في مدينة إيرابترا بجزيرة كريت، والتي بنيت عام 1899 م.

• مما هو جدير بالذكر أن المسلمين الأفارقة ساهموا في تشكيل المجتمع الإسلامي بجزيرة كريت أيام ولاية "محمد على باشا" حاكم مصر على الجزيرة.

 

[1] المدارس الوقفية في اليونان خلال العصر العثماني"دراسة آثارية وثائقية ومعمارية"، أ. م. د/ أحمد أمين، مجلة العمارة والفنون والعلوم الإنسانية - المجلد السادس - العدد الخامس والعشرون، مصر، يناير 2021 م، صـ568، 569.

[2] المصدر السابق، صـ568.