من تاريخ الحضارة الإسلامية في كريت (1)مقالات


• أعاد العثمانيون "كريت" مرة أخرى لحوزة الإسلام عام 1080 هـ- 1669 م، ولبثوا فيها ثلاثة قرون حتى عام 1332 هـ / 1913 م عندما مُنِحتْ لليونان.

• راعى العثمانيون الطبيعة الدينية لأهل "كريت"، وعمدوا إلى القيام بإصلاحات عديدة على أرض الجزيرة؛ مما عاد بالرخاء الاقتصادي والإداري على أهل الجزيرة.

• اعتنق الكثير من أهل الجزيرة الإسلام في مدة لا تزيد عن قرن من حكم الأتراك، حيث اعتنق نصف سكان جزيرة كريت الإسلام طواعية.

• كان النظام الضريبي العثماني في جزيرة كريت يختلف عن النظام الضريبي العام المعمول به في بقية الممالك العثمانية؛ حيث أعفي سكان كريت المحليون من بعض الضرائب.

• كانت جزيرة كريت في عهد "البنادقة" مركزًا مهمًّا جدًّا بالنسبة لأوروبا لصناعة الخمور، وقد تغيَّر ذلك في عهد العثمانيين لمصلحة زراعة الزيتون وصناعاته، وصناعة الصابون.

• تمتعت الجزيرة بعدد من الموانئ الطبيعية التي أحسن استغلالها العثمانيون، وقاموا بإصلاحها، وتشجيع الحِرَف البحرية بها كصيد الأسماك والإسفنج.

• قسمت كريت إلى أربعة أقسام إدارية، هي: "قنديه"، و"خانيا"، و"ريسمو"، و"إيستيا"، وكانت "قنديه" هي العاصمة، ثم تم تغيير العاصمة لخانيا.

• من أهم نماذج مساجد كريت: المسجد المربع المغطى بقبة والمصطلح على تسميته بالمسجد القبة، ومن نماذجه: "مسجد السلطان إبراهيم" بريثمنو، و"مسجد قرا موسى"، و"مسجد كوجك حسن باشا" بمدينة خانيا.

• أما النموذج الثاني الذي انتشر في قرى كريت المسجد ذو الأروقة دون الصحن الأوسط، ومنها على سبيل المثال: "مسجد ولي الدين باشا"، و"مسجد والدة باشا".

• تم هدم العديد من المساجد وتحويل بعضها الآخر إلى كنائس بعد دخول اليونانيين الجزيرة.

• شاع في كريت نوع من الوقف التعليمي يختص بتعليم البنات الكريتيات المسلمات.

 • تشهد الوقفيات العثمانية باستمرارية دور المسجد- المدرسة؛ كما في جامع السلطان إبراهيم، (هنكار) والقلعة الداخلية (إيج قلعة) بحانية بجزيرة كريت التي خصصت لتعليم أبناء المسلمين بكريت بدون أجر تعاليم الدين الإسلامي ومسائل الفقه وأصوله وعلوم التفسير.

• كانت مؤسسات العملية التعليمية في الدولة العثمانية بكريت وعلى رأسها المدارس، تبنى، وينفق عليها، ويرعاها، ويحدد شروطها نظام الوقف، وهو في الأغلب يمثل وقفًا أهليًّا بواسطة كبار المحسنين.

• من أهم نماذج (المسجد - المدرسة) هو "جامع ومدرسة السلطان إبراهيم" بخانيا بجزيرة كريت، و"مدرسة إيرابترا" في مدينة إيرابترا بجزيرة كريت، والتي بنيت عام 1899 م.

• مما هو جدير بالذكر أن المسلمين الأفارقة ساهموا في تشكيل المجتمع الإسلامي بجزيرة كريت أيام ولاية "محمد على باشا" حاكم مصر على الجزيرة.

 

فتح جزيرة كريت:

أعاد العثمانيون كريت مرة أخرى لحوزة الإسلام عام 1080هـ - 1669م، وكان قد تغلب عليها البيزنطيون ثم نصارى "دولة البندقية" الإيطالية (فينسيا)، وبالإضافة إلى أهمية "كريت" الاستراتيجية في شرق البحر المتوسط، فقد مثَّلت جزيرة "كريت" للدولة العثمانية مصدر قلق دائم؛ لتجمُّع أعمال القرصنة بها، حيث أصبحت جزيرة "كريت" منذ القرن السابع عشر نقطة أساسية في طرق الحج والتجارة المتصلة ببحر إيجة، وكان النصارى يُغيرون منها على الحُجَّاج والتجار المسلمين، ثم يعودون للتحصُّن بها؛ مما جعل إلحاقها بالأراضي الإسلامية وطرد الوجود الصليبي منها أمرًا مُلِحًّا لسلاطين الدولة العثمانية.

وقد بقي العثمانيون في كريت حتى عام 1332هـ / 1913م عندما مُنِحتْ لليونان، أسسوا في  قرابة ثلاثة قرون مظاهر حضارة إسلامية نشطة في حوض البحر المتوسط واليونان، حيث نجد خلال حملة العثمانيين على جزيرة كريت، انضمام كثير من الروم النصارى من أبناء الجزيرة وخاصة سكان القرى والأرياف إلى العثمانيين وساندوهم في حربهم ضد "البنادقة"، دليلًا على أحوالهم السيئة التي كانت عليها الجزيرة قبل الفتح العثماني، وقد راعى العثمانيون الطبيعة الدينية لأهل "كريت"، وعمدوا إلى القيام بإصلاحات عديدة على أرض الجزيرة؛ مما عاد بالرخاء الاقتصادي والإداري على أهل الجزيرة أغلب فترات السيطرة العثمانية.

 

اعتناق أهل كريت الإسلام:

وعاد الحكم الإسلامي لجزيرة كريت مرة ثانية باستيلاء العثمانيين على مدينة "كانديا" بعد حصار دام نحو ثلاث سنين، وساد التسامح الجزيرة، وعمرت الأراضي الزراعية من جديد؛ حيث كانت مقاطعات "كريت" تحت حكم البيزنطيين والبنادقة جرداء مقفرة مدة قرن تقريبًا من جراء أعمال السخرة التي قمع بها "البنادقة" فلاحي كريت البؤساء[1]، وأتيح للكريتيين ممارسة عقائدهم النصرانية، فاعتنق الكثير من أهل الجزيرة الإسلام في مدة لا تزيد عن قرن من حكم الأتراك، حيث اعتنق نصف سكان جزيرة كريت الإسلام طواعية[2]، يقول سير "توماس أرنولد":

"يبدو ويظهر أن جموعًا كبيرة من أهالي إقريطش أسلمت بعد الفتح التركي مباشرة، وفي مدة تزيد قليلًا على قرن دخل نصف أهالي إقريطش في الإسلام... وكان هناك أهالي إقريطش (ولا يزالون) من أقصى الجزيرة إلى أقصاها، لا في المدن وحدها، بل كذلك في القرى والمناطق الداخلية، وهم متفقون جميعًا في الشكل والعادات واللغة برغم أنهم إغريق لحمًا ودمًا، ولم يكن هنالك قط، حتى في الوقت الحاضر، أية لغة يتكلمها أهالي جزيرة إقريطش سوى اللغة اليونانية؛ حتى الأتراك القلائل الذين تجدهم هنالك لم يكن بُدٌّ من أن يتكلموا لغة البلاد، كما كانت جميع فرمانات الباب العالي وأوامر الباشوات تُقرأ وتُذاع باللغة اليونانية، وقد زاد في توثيق الارتباط الاجتماعي بين هاتين الجماعتين الزي المشترك بينهما؛ فقد كان أهالي إقريطش من المسلمين والنصارى على حدٍّ سواء متشابهين في الزي، لقد كان من العسير على المقيمين بينهم فترة طويلة، أو على اليونان من أهالي الجزر المجاورة، أن يُميِّزوا بين الفريقين في كثير من الأحيان.

وقد سدت الأحداث السياسية الحديثة نقصًا كبيرًا في سكان إقريطش المسلمين، وفي سنة 1881 م كان عدد المسلمين في الجزيرة 234, 73، وفي سنة 1909 م نقص العدد على أثر الهجمات المستمرة إلى 496,33"[3].

 

إصلاح الأنظمة الإدارية في كريت:

كان النظام الضريبي العثماني في جزيرة كريت يختلف عن النظام الضريبي العام المعمول به في بقية الممالك العثمانية، حيث أُعفي سكان كريت المحليين من بعض الضرائب، واحتوت التطبيقات المالية على بعض الفروقات المختلفة لمصلحتهم، ويرجع ذلك للصعوبة التي لاقاها العثمانيون في فرض سيطرتهم على كامل الجزيرة، وتعهدهم للكريتيين- من جراء ذلك- بمساعدتهم بتغيير نظام السخرة الذي كانوا يرزحون تحته أثناء حكم "البنادقة"[4].

كما كانت جزيرة كريت في عهد "البنادقة" مركزًا مهمًّا جدًّا بالنسبة لأوروبا لصناعة الخمور من العنب والفاكهة المختلفة التي تشتهر بها الجزيرة، وقد تغيَّر ذلك في عهد العثمانيين لمصلحة زراعة الزيتون وصناعاته، ومع تطور تلك الصناعات في القرن السابع عشر، أصبح حجم الطلب كبيرًا جدًّا لتلك المنتوجات في الأسواق العثمانية والأوروبية في القرن الثامن عشر، وقد بدأت صناعة الصابون الحقيقية في الربع الأول من القرن الثامن عشر لتتطور بعد ذلك بسرعة شديدة، كانت مصانع الصابون تُدار من قِبَل المسلمين والروم واليهود، وكان للزيتون وزيت الزيتون والصابون أهمية كبيرة في الاقتصاد المحلي الكريتي.

وقد تمتعت الجزيرة بعدد من الموانئ الطبيعية التي أحسن استغلالها العثمانيون، وقاموا بإصلاحها، وتشجيع الحِرَف البحرية بها كصيد الأسماك والإسفنج، إلى جانب استخدامها كمحطات تجارية لترويج منتجاتهم الهامَّة التي تزخر بها الجزيرة[5].

وقد قسمت كريت إلى أربع أقسام إدارية، هي: "قنديه"، و"خانيا"، و"ريسمو"، و"إيستيا"، وكانت "قنديه" هي العاصمة، وكان هذا النظام هو المعمول به زمن "البنادقة"، وقد أجرى العثمانيون تعديلًا وأصبحت ولاية كريت مقسمة لثلاثة أقسام بعد إلغاء "سنجق إيستيا"، وإلحاقه بـ"قنديه" وذلك مطلع القرن الثامن عشر، وفي منتصف القرن التاسع عشر تم نقل مركز الولاية بعد ذلك من "قنديه" إلى "خانيا".

 

المنشآت المعمارية في كريت:

تمثل المدرسة مع الجامع والحمام ما يُعرف بـ "الثالوث" المعماري للمدينة العثمانية في البلقان، ووجود (المدرسة - المسجد) في بلدةٍ ما يجعل منها حاضرةً للثقافة الإسلامية، وقد أبدى العثمانيون اهتمامًا شديدًا بإنشاء المدارس، واستقدام العلماء والأساتذة من مختلف البلدان لا سيما من مصر والشام وبلاد فارس، وفي بدايات الدولة العثمانية اهتمُّوا بالجانب التعليمي، وتنمية الوقف الإسلامي لأداء رسالة الإسلام، واكتساب موالين جُدُد من أهل البلاد المفتوحة.

وقد قام العثمانيون بتحويل بعض الكنائس البيزنطية لمساجد كما هي العادة وأنشأوا العديد من المساجد في القرى والبلديات لاستيعاب أعداد المسلمين الجُدُد، فبعد أن فُتِحت مدينة "خانيا"، تم تحويل "كنيسة سانتا نيكولاس" أكبر كنائس المدينة إلى مسجد أطلق عليه اسم مسجد "الهنكار"؛ أي: السلطان، كما حولت كنيستان كبيرتان في المدينة إلى "مسجد يوسف باشا" و"مسجد موسى باشا".

وكذلك الحال عندما فُتِحت مدينة "ريسمو" في العام التالي، حيث حولت أكبر كنائسها إلى مسجد فُتِح فورًا للعبادة، كما تم وقف بعض القرى لمصلحة هذا المسجد، ثم بدأت أعمال بناء مسجد وحمَّام داخل القلعة الكبيرة "فورتيتزا"، وقام "حسين باشا" بإنشاء مسجد وزاوية صوفية خارج المدينة.

وأخيرًا، وعندما فُتِحت مدينة "قنديه"، تم تحويل "كنيسة سان فرانسيسكو" أكبر كنائس المدينة إلى مسجد أيضًا سُمِّي باسم السلطان، وأُقيمت فيه أول صلاة جمعة بعد الفتح.

 

المساجد الحالية في كريت:

تم هدم العديد من المساجد وتحويل بعضها الآخر إلى كنائس بعد دخول اليونانيين الجزيرة، ولكن لحسن الحظ أن هذه المساجد المُهدَّمة أو التي تم تحويلها إلى كنائس، كانت محل اهتمام العديد من الرحَّالة المسلمين وغيرهم، والذين كتبوا عنها في مؤلفاتهم، ومن مساجد الجزيرة الباقية:

- المسجد المربع المغطى بقبة والمصطلح على تسميته بالمسجد القبة، ومن نماذجه: "مسجد السلطان إبراهيم" بريثمنو، و"مسجد قرا موسى"، و"مسجد كوجك حسن باشا" بمدينة خانيا.

- المسجد ذو الأروقة دون الصحن الأوسط، ومنها على سبيل المثال: "مسجد ولي الدين باشا"، و"مسجد والدة باشا".

• مسجد نيراتسه Neratze في ريثيمنو: يقع مسجد "نيراتسه" في ريثيمنو، المعروف أيضًا باسم مسجد "غازي حسين"، بالقرب من ميدان "بيتيشاكي"، كان المسجد كنيسة فينيسية مكرسة لسانتا ماريا، وبعد ذلك أصبحت ديرًا أوغسطينيًّا، وعندما سيطر الأتراك على المدينة عام 1657 م، حوَّلها القائد "غازي حسين باشا" إلى مسجد.

ومئذنته هي الأعلى في المدينة، وما زالت سامقة حتى وقتنا الحالي، كما كانت "كنيسة جسد المسيح" القريبة من المسجد، تُستخدَم كمدرسة إسلامية دينية.

• مسجد فيلي باشا The Veli Pasha Mosque: تم بناء "مسجد فيلي باشا" خارج البلدة القديمة قليلًا في "ريثيمنو" على قمة "كنيسة أجيوس أونوفريوس" الفينيسية، ولا تزال بقايا الدير الذي كان يحيط بالمسجد مرئية.

يتميز المسجد بمدخل رئيسي فريد من نوعه، ويُقال: إن مئذنته هي الأقدم في "ريثيمنون"، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1789 م. بالإضافة إلى كونه مسجدًا، استخدم أيضًا كمدرسة وقفية.

في الوقت الحالي أصبح المسجد متحفًا للحفريات بعد ترميمه في أعقاب الدمار الذي لحق به أثناء الحرب العالمية الثانية.

• مسجد كوجك حسن باشا: شُيِّد المبنى في الأصل كمسجد بعد غزو الإمبراطورية العثمانية لخانيا عام 1645 تكريمًا لـ"كوجوك حسن باشا" (أحد ولاة الدولة العثمانية على بغداد ولمرتين، والملاحظ أن كوجك حسن باشا بعد عزله عن ولاية بغداد صار بعدها واليًا على "روم ايلي" وأمر بالذهاب للحرب في كريت، وفي سنة 1058هـ‍، أصابته رمية أودت بحياته).

ونجد أنه بعد التبادل السكاني اليوناني التركي في عام 1923 م، توقف المسجد عن العمل، وفي عام 1939 م تم هدم مآذنه، وفي خلال الحرب العالمية الثانية، خصص ليكون المتحف الأثري لخانيا، في وقتٍ لاحق، تم استخدامه كمخزن ومتحف فولكلور ومركز زوَّار وقاعة عرض.

• مئذنة أحمد أغا باشا: هي واحدة من مئذنتين من العهد العثماني التي بقيتا في مدينة خانيا، توجد بحي سبلانتسيا، تتميز بالطراز العثماني الجميل.

• "مسجد قرا موسى": سُمي هذا المسجد على اسم القائد العسكري للبحرية العثمانية أثناء الاستيلاء على مدينة "ريثيمنون"، وفي خلال فترة حكم "البندقية"، كان "دير القديسة بربارة" يشغل موقع المسجد، وقد أعيد تصميم واجهة الدير وإضافة قباب ومأذنة ليناسب المسجد، ويُعتبر المسجد كنزًا معماريًّا عثمانيًّا بتصميمه ذي الأربعة جوانب وواجهتين رئيسيتين إلى جانب وجود عدد من الحدائق والأشجار الجميلة التي تحيط بالمسجد، تقع المئذنة على مسافة قصيرة من صرح المسجد الرئيسي، وتوجد نافورة في الفناء، زودت هذه النافورة المصلين بمتطلبات المياه اللازمة للوضوء والتطهر قبل الصلاة.

 

[1] الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، سير توماس. و. أرنولد، ترجمة: د. حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين، وإسماعيل النحراوي، مكتبة النهضة المصرية، 1971 م، صـ230

[2] الأقليات المسلمة في أوروبا، سيد عبد المجيد بكر، سلسلة دعوة الحق، منشورات رابطة العالم الإسلامي، 1985م، صـ80.

[3] الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، سير توماس . و. أرنولد، صـ233، 234.

[4] تأسيس الإدارة العثمانية في جزيرة كريت: الحياة اليومية، العلاقات الاجتماعية وتكوين الهوية، د. نوري أدي ياكا، مترجم بتصرف، نشر إلكترونيًّا على موقع بالعربي، 30-12-2021 م.

[5] الأقليات المسلمة في أوروبا، سيد عبد المجيد بكر، صـ 78.