إمارة إقريطش الإسلامية (كريت) (1)مقالات


•  فتح مسلمو قرطبة جزيرة "كريت" عام 212 هـ/ 827 م، وأسسوا بها إمارة إسلامية زاهرة استمرت قرابة قرن ونصف من الزمان.

• أقبل المسلمون الفاتحون على مصاهرة أهل إقريطش والتزوُّج من بناتهم؛ مما أدى إلى انتشار الإسلام بين أبناء كريت بالمصاهرة.

• عمل الفاتح "أبو حفص" على النهوض بالجزيرة اقتصاديًّا، وإداريًّا، فعمل على تقسيمها إلى أربعين كورة (أي: إقليم)، ورفض السماح للأجانب بالتجارة والإبحار في منطقة بحر إيجة ما لم يقوموا بدفع الجزية.

• جعل مسلمو الأندلس المهاجرين من جزيرة "إقريطش" ثغر رباط وجهاد، وقاعدة بحرية عسكرية، لشن الغزوات الإسلامية على الجزر والمدن الساحلية البيزنطية.

• ساهم الإقريطشيون في فتح صقلية سنة 241 هـ / 829 م، واستمرت غزوات الأندلسيين المهاجرين في القرنين الثالث، والرابع الهجريين على مدن اليونان وسواحلها.

•  دعا الأندلسيون المسلمين من الشام، وإفريقية، والأندلس للاستيطان في "كريت" والرباط بها، ومحاربة الروم.

• كانت الجزيرة تنتج العسل، والأجبان، كما تنمو في أرضها الأعشاب الطبية، وأرضها غنية بالمعادن، وكانت تصدر تلك الثروات لأهل مصر.

• على الصعيد التجاري والملاحة في البحر فقد أصبح للأندلسيين المسلمين سيطرة على البحر المتوسط تجاريًّا بعد سقوط إقريطش بأيديهم، وذلك من خلال الإشراف على الطرق التجارية عند بحر إيجة، وما بين المشرق والمغرب، وبين إقريطش والإسكندرية.

•  قامت الإمارة الإقريطشية بسك عملات تحمل اسم الإمارة، وأسماء حكامها، وعُثِرَ على بعض تلك العملات بأثينا.

• نبغ العديد من العلماء والفقهاء في جزيرة إقريطش؛ فانتشرت مجالس العلم، وتأليف الكتب.

• كانت إمارة إقريطش الإسلامية نموذجًا يُحتذى به في التكامل المعرفي بين الأمراء والعلماء على أرض الجزيرة، وكانت تُعَدُّ إحدى القوى الدولية في البحر المتوسط قديمًا.

 

إمارة إسلامية على جزيرة كريت:

فتح مسلمو قرطبة جزيرة "كريت" عام 212 هـ/ 827 م، وأسسوا بها إمارة إسلامية استمرت قرابة قرن ونصف من الزمان، تعاقب على حكمها عشرة من الأمراء من سلالة فاتح الجزيرة "أبي حفص عمر بن عيسى بن شعيب البلوطي"، المعروف بالإقريطشي الأندلسي، وأقاموا دولة عسكرية وإدارية من طراز رفيع بالبحر المتوسط؛ لكن تكالب القوى الصليبية على تلك الإمارة الوليدة، وعدم دعمها من القوى الإسلامية بالمنطقة في ذلك الوقت أدَّى لسقوطها أمام قوات الإمبراطور البيزنطي "نقفور الثاني"، حيث دخل عاصمتها "الخندق" والتي حرفت في المصادر الأوروبية إلى "قندية" Candie وقام بتدميرها، وذلك عام 350 هـ / 961 م، وقام باقتياد أميرها المسلم أسيرًا هو وعائلته إلى العاصمة البيزنطية "القسطنطينية"، والتنكيل بمسلمي الجزيرة، وطردهم خارج كريت، وإجبار من بقي منهم بالجزيرة على التنصُّر ومصادرة أمواله وأرضه، كما قام البيزنطيون النصارى بتدمير كل آثار المسلمين، ومساجدهم، ومَحْو عاصمتهم "الخندق"، وعادت "كريت" نصرانية ثانية حتى دخول العثمانيين عام 1080 هـ- 1669 م[1].

وقد تعاقب على حكم الجزيرة في ذلك العهد الإسلامي الزاهر عشرة من الأمراء، هم على النحو التالي:

1- "أبو حفص عمر البلّوطي" (827/828 - 855 م).

2- "شعيب بن عمر" (855 - 880 م).

3- "أبو عبد الله عمر الثاني بن شعيب" (880 - 895 م).

4- "محمد بن شعيب" (895 - 910 م).

5- "يوسف بن عمر الثاني" (910 - 915 م).

6- "علي بن يوسف" (915 - 925 م).

7- "أحمد بن عمر الثاني" (925 - 940 م).

8- "شعيب الثاني بن أحمد" (940 - 943 م).

9- "علي بن أحمد" (943 - 949 م).

10- "عبد العزيز بن شعيب الثاني" (949 - 961 م).

 

استقلال إداري ونشر للإسلام:

نجح الأندلسيون في الاستيلاء على مدن جزيرة "إقريطش" كلها في الفترة ما بين نزولهم على أرضها سنة 212 هـ - 827 م، حتى سنة 230 هـ - 844 م، وذكر المؤرخون أن المسلمين استولوا على تسع وعشرين مدينة لم تحفظ لنا أسماؤها[2]، وأقبل المسلمون على مصاهرة أهل إقريطش والتزوُّج من بناتهم؛ وبذلك تحول الفتح إلى فتح عسكري ومعنوي في آن واحد، فعن طريق المصاهرة نشأ جيل من المولدين المسلمين من أمهات إقريطشيات وآباء مسلمين، وعن طريق انتشار الإسلام ثبتت أقدام المسلمين في هذه الجزيرة.

وكان من الطبيعي أن تلتمس العناصر الإسلامية في إقريطش الأمان ممثلًا في سلطة إسلامية تظللها بحمايتها، ولم يكن هناك مفرٌّ من الدخول في فلك الخلافة العباسية التي كانت تسيطر على الشرق الأدنى الإسلامي كله بما فيه مصر وإفريقية، وما لبثت "إقريطش" أن أصبحت في التقسيم الإداري للدولة العباسية إقليمًا تابعًا لمصر[3].

ورغم أن مؤسسها وأول ولاتها "أبا حفص عمر البلوطي" أعلن الولاء اسميًّا للخلافة العباسية؛ لكنَّه فعليًّا- بحكم البعد والموقع والمواصلات- كان يحكم إمارته بشكل مُستقل.

وقد عمل "أبو حفص" على النهوض بالجزيرة اقتصاديًّا، وإداريًّا، فعمل على تقسيمها إلى أربعين كورة (أي: إقليم)، ورفض السماح للأجانب بالتجارة والإبحار في منطقة "بحر إيجة" ما لم يقوموا بدفع الجزية[4].

ولم تلبث الجزيرة منذ ذلك الوقت أن صارت قاعدة بحرية إسلامية مهمة مستقلة مع الاعتراف بسيادة الخليفة العباسي في بغداد.

 

ثغر رباط وجهاد وتجمع للمسلمين في حوض البحر المتوسط:

جعل مسلمو الأندلس المهاجرين من إقريطش ثغر رباط وجهاد، وقاعدة بحرية عسكرية، لشنِّ الغزوات الإسلامية على الجزر والمدن الساحلية البيزنطية، فازدادت قوة إقريطش، وأصبحت مصدر رعب للبيزنطيين، وفي ذلك يُصوِّر لنا "ابن حوقل" مكانتها وقوة بأس أهلها فيقول: "وجزيرة إقريطش حرة منذ كانت، وأهلها في غاية الجهاد، ولم يكن للنصرانية فيها مدخل ولا مخرج"[5]، ومن هذا الجانب قوي مركز المسلمين، وأخذوا في الهجوم المتواصل على أساطيل البيزنطيين الممتدة على طول ساحل البحر المتوسط، كما تمكَّنوا من الهجوم على بعض الجزر القريبة من إقريطش، وساهموا في فتح صقلية سنة 214 هـ/ 829 م[6]، واستمرت غزوات الأندلسيين المهاجرين في القرنين الثالث، والرابع الهجريين على مدن اليونان وسواحلها[7].

وقد شرع الأندلسيون في "إقريطش"، بحكم ممارستهم الغزو البحري، في استغلال الموارد الطبيعية في الجزيرة، وخاصة الأخشاب، لإنشاء قطع بحرية جديدة، تدعم أسطولهم، وتُعينهم على مواصلة الغزو، وسرعان ما أصبح لديهم أسطول قوي أخذوا يهاجمون به جزر "بحر الأرخبيل" وأخذت السيطرة والسيادة في البحر المتوسط الأوسط تنتقل إلى المسلمين، وقد أدركت الدولة البيزنطية مدى الخسارة الكبيرة التي أصابتها بفقد "إقريطش"، وبدأ أباطرتها منذ نزول الأندلسيين بالمحاولة مرارًا وتكرارًا في استرجاعها؛ لكن مُنيت محاولاتهم على مدار قرن ونصف قرن بالفشل لقوة استحكامات الجزيرة في عهد "الأندلسيين" وصلابة دفاعهم، واستبسالهم في الدفاع عن إمارتهم[8].

وقد دعا الأندلسيون المسلمين من الشام، وإفريقية، والأندلس للاستيطان فيها، وفي ذلك يقول "ابن الأبار": "وكانت يومئذٍ خاليةً من الروم، فاحتملوا إليها بفتنتهم، ونزلوها فاعتمروها، وجاءهم الناس من كل مكان فأوطنوها معهم"[9]، وقد يكون الدافع وراء توجيه "الربضيين" الدعوة لمن يرغب بالهجرة إليهم في جزيرة إقريطش بهدف تعزيز قوتهم، وتكثير عددهم، ودعمًا لمركزهم بالجزيرة ضد أعدائهم البيزنطيين، وتأكيدًا لسيادتهم فيها.

 

اتصالات سياسية وعلاقات دبلوماسية:

عمد ولاة الجزيرة إلى تعزيز الاتصالات بينهم وبين كثير من القوى الإسلامية في ذلك الوقت؛ طلبًا لعونهم ومددهم خاصةً مع زيادة الهجومات البيزنطية على جزيرتهم، وتهديدهم لإمارتهم، فعقدوا عدة اتفاقيات مع حكام مصر والشام، من باب تلاقي المصالح في تهديد أمن الأساطيل البيزنطية ومهاجمة سفنهم التجارية، وصارت الجزيرة تتلقى الدعم الاستراتيجي والحربي عن طريق ميناء الإسكندرية وميناء طرابلس الشام[10].

وفطن البيزنطيون إلى أن مصر هي مصدر قوة الأسطول الإسلامي بإقريطش، فهي التي تقوم بإنتاج السفن اللازمة لمسلمي هذه الجزيرة، وتزويدهم بكل ما يلزمهم من سلاح وعدد وأمتعة، فعملوا على مهاجمة "دمياط" التي كانت تخرج منها المؤن والعدد إلى جزيرة إقريطش سنة 238 هـ[11].

وقد حاولت "بيزنطة" تحييد بعض القوى السياسية الإسلامية عن دعم مسلمي "إقريطش" والتحالف معهم ضد بني دينهم من مسلمي "كريت"؛ لكن أغلب تلك القوى ظلت على الحياد، حيث تلاقت مصالحها التجارية مع أهداف مسلمي إمارة "إقريطش" في هيمنة الأساطيل الإسلامية على البحر المتوسط، وتأمين تجارة المسلمين به.

ونجد أنه عند اشتداد الضغط من جانب الروم على المسلمين بالجزيرة، ومحاولة غزوها، لجأ الأندلسيون إلى الفاطميين الشيعة في بلاد المغرب، وقام الأمير "عبد العزيز بن شعيب" بإرسال رجاله إلى "المعز لدين الله الفاطمي" لطلب الاستغاثة والعون، ويسأله النصرة ضد البيزنطيين، فلبَّى الفاطميون النداء؛ لاتفاق المصالح بينهم، فقدم الأمير "عبد العزيز بن شعيب" عرضًا لا يمكن بعده الرفض، وملخصه أن تكون جزيرة "إقريطش" والمسلمون فيها تابعين له في حال قدم لهم العون والمساعدة؛ وبالتالي سيتمكن "المعز لدين الله الفاطمي" من تحقيق ما يتمنَّاه في أن تكون له السيطرة على العالم الإسلامي، وذلك بفتح "القسطنطينية" عن طريق جزيرة "إقريطش" القريبة منها، كذلك راسل الأمير "عبد العزيز بن شعيب" "كافور الإخشيدي" بمصر وطلب منه التحالف معه ضد الأعداء البيزنطيين ومواجهة خطرهم سويًّا، وبذلك كان حكام الجزيرة على اتصالات مستمرة بالدول المجاورة لدعم الإمارة وضمان بقائها في تلك المنطقة[12].

 

[1] الهجرة العربية الأندلسية إلى جزيرة إقريطش، د. منى حسين علي آل سهلان، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد 78، العدد 3 (30 إبريل/نيسان 2018)، صـ73، 74.

[2] تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس، د. السيد عبد العزيز سالم، د. أحمد مختار العبادي، دار النهضة العربية- بيروت، 1969 م، صـ83.

[3] إقريطش بين المسلمين والبيزنطيين في القرن التاسع الميلادي، إبراهيم أحمد العدوي، الجمعية التاريخية المصرية، الجمعية الملكية للدراسات التاريخية - مصر، مج 3, ع 2، 1950 م، صـ59.

[4] إمارة عربية أندلسية في جزيرة إقريطش (كريت)، أمين توفيق الطيبي، مجلة البحوث التاريخية، ليبيا، طرابلس، العدد (1)، 1401 هـ / 1980 م، صـ 47.

[5] صورة الأرض، ابن حوقل، مكتبة الحياة، بيروت، 1400 هـ - 1979 م، صـ 184.

[6] العرب والروم، أ.أ. فازيليف، ترجمة: محمد عبد الهادي شعيرة، دار الفكر العربي- بيروت، د.ت، صـ59.

[7] الهجرة العربية الأندلسية إلى جزيرة إقريطش، د. منى حسين علي آل سهلان، صـ81.

[8] تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس، د. السيد عبد العزيز سالم، د. أحمد مختار العبادي، صـ83-84.

[9] الحلة السيراء، ابن الأبار، تحقيق: حسين مؤنس، الشركة العربية للطباعة والنشر، 1383 هـ - 1963 م، ج1، صـ45.

[10] جزيرة كريت في التاريخ العربي والإسلامي، تحسين علي الكريدلي، دار البيروني للنشر والتوزيع، 2019 م، صـ37.

[11] تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس، د. السيد عبد العزيز سالم، د. أحمد مختار العبادي، صـ87-88.

[12] المجالس والمسايرات، القاضي النعمان بن محمد (ت 363 هـ)، تحقيق: الحبيب الفقي وآخرين، المطبعة الرسمية، تونس، 1399 هـ - 1987 م، صـ446.