ماذا بقي من حضارة الإسلام في الفلبين؟ (1)مقالات


• مارس المنصّرون جهودًا كبيرة في تحويل الشعب الفلبيني المسلم إلى أكبر أغلبية مسيحية وسط دول جنوب شرق آسيا.

• تحولت الأغلبية المسلمة (في الجنوب) إلى طبقة محرومة مقموعة، والأقلية المسيحية المهجَّرة إلى طبقة محظوظة محتكرة للثروة، في عملية أقرب إلى "اغتصاب" السلطة.

• تماطل الحكومة الفلبينية في توسيع نطاق الحكم الذاتي للمسلمين في الجنوب، وتتخذ وجود الحركات الإسلامية ذريعة لوجود الديكتاتورية بالفلبين.

• أعرض أبناء الأقليات المسلمة في جزر الفلبين عن الالتحاق بالمدارس التي تسيطر عليها الإرساليات التنصيرية؛ لأن مناهج هذه المدارس لا تتضمن مواد التربية الإسلامية واللغة العربية.

• أغلب التراث الإسلامي بالفلبين تم تدميره طيلة فترات الاستعمار، وأثناء عهد الحكومات الديكتاتورية القومية لمحو تاريخ المسلمين بالبلاد.

• هناك مجتمع متزايد من الفلبينيين المتحولين إلى الإسلام المعروفين باسم "إسلام باليك"؛ أي: (العائدين إلى الإسلام)، وغالبًا ما يقودهم المبشّرون المسيحيون السابقون الذين تحولوا إلى الإسلام.

 

نجح الاستعمار الإسباني والأمريكي خلال أربعة قرون في إضاعة ممالك المسلمين في الفلبين، ومارس المنصِّرون جهودًا كبيرة في تحويل الشعب الفلبيني المسلم إلى أكبر أغلبية مسيحية وسط دول جنوب شرق آسيا أو ما يعرف بـ"أرخبيل الملايو"[1]، أما المسلمون فصاروا أقلية في بلدهم، فنسبة المسلمين في "الفلبين" اليوم- وَفْقًا للاستطلاعات الدينية الوطنية- تشكل فقط 6% من جملة سكانها.

ويعيش معظم مسلمي الفلبين في أجزاء من مينداناو وبالاوان وأرخبيل صولو، وهي منطقة تُعرف باسم "بانجسامورو" أو منطقة "مورو"، وقد هاجر بعضهم إلى المناطق الحضرية والريفية في أجزاء مختلفة من البلاد.

ورغم قِدم دخول الإسلام جزر الفلبين، وقيام عدة ممالك إسلامية عريقة بها، فإن الفلبين - في الوقت الحالي - تعد المركز الأول للدعوة الصليبية في الشرق الأقصى، والمركز الثاني بعد الفاتيكان في العالم المسيحي؛ وذلك بفضل الأموال الطائلة التي يحصلون عليها من الفاتيكان والمنظمات المسيحية كمنظمة "نوتردام" والمجلس العالمي للكنائس، واتحاد كنائس الفلبين، والدول الأوروبية[2].

 

مشكلة الجنوب ومخلفات الاستعمار:

بعد استقلال الفلبين واجه المسلمون مشكلة مع الحكومات القائمة التي كان أغلب رؤسائها وقادتها نصارى متعصبين، عمدوا إلى فتح البلاد أمام المنظمات التنصيرية للعمل على نطاق واسع في مناطق الجنوب، إلى جانب السطو على أراضي المسلمين؛ مما أدى لتحول الأغلبية المسلمة (في الجنوب) إلى طبقة محرومة مقموعة، والأقلية المسيحية المهجَّرة إلى طبقة محظوظة محتكِرة للثروة، في عملية أقرب إلى "اغتصاب" السلطة[3].

لذا لم يعد أمام المسلمين سوى المقاومة المسلّحة في عدة جبهات انزلقت إلى طلب الاستقلال في مناشدات للدول الغربية، على أمل الانفصال عن الوطن الأم.

وقد هادنت الحكومة - في بعض الأوقات - المسلمين في الجنوب، بعد صراع دمويّ استمر سنوات طويلة بين الحكومات الفلبينية المتعاقبة وبين القوى والجماعات الإسلامية وعلى رأسها "جبهة مورو الإسلامية"، وكان من أبرز الحلول التي أيقنت بها الحكومة بعد استنفاد كافة محاولات الإقصاء يتمثل في توسيع نطاق الحكم الذاتي للمسلمين وتوسيع صلاحياته، والإيقان بأن هذا هو الحل الأمثل لقضية المسلمين في الجنوب الفلبيني، خصوصًا بعد أن قبل المسلمون بالتنازل عن مطلبهم التاريخي بالانفصال التام عن الفلبين، والاكتفاء بحكومة برلمانية منتخبة أقرب للنظام الفدرالي باسم: حكومة شعب مورو، أو كما تم الاتفاق على اسمها "منطقة بنجسامورو" بمقتضى اتفاق سلام شامل، لكن تبين أن كل هذه المفاوضات عبارة عن مماطلات يقوم بها الرؤساء الفلبينيون من أجل كسب مزيد من التأييد والشرعية ليس إلا[4].

ويربط السياسيون في الفلبين الآن حركات المقاومة التاريخية لمسلمي الجنوب بحركات الإرهاب العالمي، خاصةً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ مما فاقم من مشاكل المسلمين في مناطقهم، وأدى لإطالة أمد المشكلة التاريخية التي تركها الاستعمار معلقة، إلى جانب تعامل الحكومة الفلبينية مع المسلمين بشيء من التعالي؛ مما يساهم في تعقيد الوضع الراهن[5].

 

مناهج التعليم:

تعد مشكلة التعليم من أكبر المشاكل التي ما زالت تواجه مسلمي المورو في الفلبين، الراغبين في استمرار تمسك أبنائهم بهُوِيّتهم الإسلامية، وعدم الانسياق وراء حالة الانمساخ التي ترجوها حكومات الفلبين، فمناهج التعليم لجميع المراحل في المدارس العامة لا تتضمن أي شيء عن الإسلام، إلا قليلًا في مادة التاريخ المقررة في المراحل الثانوية؛ إذ تتضمن إشارة عابرة لا تتجاوز بضع صفحات عن مجيء الإسلام إلى الفلبين[6]، وقد أنشأ الاستعمار المدارس العامة في عام 1915 م في منطقة "منداناو" و"صولو" تحت إشراف المكتب التعليمي، الذي نجح في تطوير المدارس العامة الضخمة على غرار نظام المدارس النصرانية، ومحاربة التعليم الإسلامي، حيث كان التعليم أحد أهم وسائل التنصير في الفلبين[7].

والظاهرة التي تلفت الانتباه أن الإرساليات التبشيرية لا تبخل على المدارس التي تشيدها بالأموال... فالمرافق متعددة، والأبنية ضخمة وحديثة، والمواقع ممتازة، وتضم المدارس جميع الأدوات والمعامل والتجهيزات الحديثة، ويبالغ القائمون على أمر هذه المدارس في العناية بالتلاميذ ويتولونهم حتى نهاية تعليمهم العالي، بل حتى تسلمهم مقاليد العمل في البلاد[8].

ولكن وعلى الرغم من ذلك فقد أعرض أبناء الأقليات المسلمة في جزر الفلبين بصفة عامة عن الالتحاق بالمدارس التي تسيطر عليها الإرساليات التنصيرية؛ لأن مناهج هذه المدارس لا تتضمن مواد التربية الإسلامية واللغة العربية.

ففي الفلبين نجد أن الكثير من المسلمين يرفضون إدخال أبنائهم مدارسَ الدولة؛ على أساس أن هذه المدارس تبعدهم عن دينهم وتُعلِّمهم الانحلال وفساد الخلق، ويفضلون إدخالهم المدارس العربية الإسلامية رغم أن هذه المدارس لا تعترف الدولة أو الحكومة الفلبينية بها، ونتيجة لضعف الإمكانات المادية وقلة الكوادر العلمية والفنية في مختلف العلوم الحديثة التي تتطلبها احتياجات الحياة العصرية، فإن هذه المدارس في حالة سيئة؛ حيث تقتصر الدراسة فيها على دراسة القرآن الكريم، والحديث والفقه واللغة العربية، ولا تدرس العلوم العصرية[9].

وقد سارع عدد من الدول الإسلامية للدعوة من جديد بين أبناء الفلبين من المسلمين وغيرهم، إلى جانب دعم مؤسسات التعليم الإسلامية بالفلبين؛ لدعم الأقلية المسلمة بالجزر الجنوبية، ومن أهم المؤسسات الإسلامية بالفلبين في السنوات الأخيرة ما يلي:

معهد مندناو العربي الإسلامي وتتبعه (316) مدرسة، ومعهد ماداوي الإسلامي وتتبعه (52) مدرسة، وكلية في مدينة "مدارادي" ويتبعها عدد من المعاهد تقدم تعليمًا باللغة العربية، ويضاف إليها جامعة الفلبين الإسلامية في مندناو، وكانت تسمى معهد كامل الإسلامي، ولها فروع في عدة مدن بالفلبين، وأيضًا مركز الملك فيصل للدراسات العربية والإسلامية ويوجد ضمن جامعة منداناو، وهناك المدرسة التجريبية لتعليم اللغة العربية التي تتبع مركز الملك فيصل.

 

اللغة المتداولة بين المسلمين:

رغم أن اللغة الشائعة الآن في الفلبين اللغة الإنجليزية، واللغة الرسمية التي هي لغة (التَّغَالُوجْ) تُكتب بالحروف الإنجليزية، وقواعدها مستنبطة من الإنجليزية، وهذا الأمر يلعب دورًا كبيرًا في سهولة التعليم، فإن من آثار الإسلام في الفلبين انتشار اللغة العربية وخاصة بالمناطق الإسلامية في جنوب الفلبين، فلا يكاد يذهب الإنسان إلى أي منطقة في جنوب الفلبين، إلا ويجد من بين أفرادها من يتحدث العربية ويكتبها.

كما لا تخلو قرية من كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، وكثير من المسلمين الذين يُلحِقُون أولادهم بالمدارس الحكومية حيث تدرس فيها المواد باللغة الإنجليزية، كما يدرس التلاميذ فيها اللغة الإسبانية كلغة ثانية، يُصرُّون أيضًا على ذَهاب أبنائهم يومي العطلة الأسبوعية- وهما السبت والأحد - إلى المدارس العربية الإسلامية؛ حيث تقدم هذه المدارس برنامجًا مكثفًا لتدريس اللغة العربية والدين الإسلامي.

ومن المسلمين في الفلبين من اجتهد وصبر، وعلَّم نفسه بنفسه دون أن يغادر قريته، ودون مبالاة بالوقت الذي ينفقه في تعلم القرآن واللغة العربية، سواء أنفق سنة، أو عشر سنوات، أو عشرين سنة، أو حتى العمر كله[10].

ونجد أن من أهم اللغات المحلية المستخدمة في مناطق المسلمين في الفلبين لغة "الماراناو" الفلبينية، وكان المسلمون يكتبون "الماراناو" تاريخيًّا بأحرف عربية، كانت تُعرف باسم "باتانغ عرب"، وتكتب الآن بأحرف لاتينية، وقد تم ترجمة القرآن كاملًا باللغة "الإيرانونية" التي يقدر عدد سكانها الذين يتحدثون بها نصف مليون نسمة، ويقطنون في سواحل وسط (منداناو) ومقاطعاتها، وقام بالترجمة الشيخ "عبد العزيز غورو سارومانتانج".

وفي أوائل القرن الحادي والعشرين أكمل الشيخ "محمد سليمان" تفسيره القرآنَ الكريمَ كلَّه باللغة الماجنداناوية، وأدرج في مقدمة ذلك التفسير جزءًا من كتاب "البرهان" للزركشي، الذي ترجمه أيضًا باللغة الماجنداناوية. وصار ذلك التفسير مرجعًا أساسيًّا للغة الماجنداناوية؛ حيث جمع فيه كلمات مترادفة لمعاني كلمة عربية واحدة، ويعد ذلك تراثًا لتلك اللغة، التي كادت أن تنقرض جراء الغزو الاستعماري المتتابع عليها.

ويعكف الدعاة الفلبينيون المعينون من مكتب الدعوة والإرشاد لتوعية الجاليات بالمملكة العربية السعودية، على ترجمة بعض الكتب العقدية والفقهية التي ألَّفها كبار العلماء بالمملكة أواخر الثمانينات إلى اللغة الفلبينية أو التغالوغ.

 

[1] "الملايو" أمة أصلية في شبه جزيرة ملايو وشرق سومطرة في إندونيسيا وبورنيو الساحلية، بالإضافة إلى الجزر الأصغر التي تقع بين هذه المواقع، وهي مناطق تُعرف عمومًا باسم "عالم ملايو". تُعتبر هذه المواقع اليوم جزءًا من دول ماليزيا (دولة ملايو القومية) وبروناي وسنغافورة وإندونيسيا والفلبين وجنوب تايلاند.

[2] أحوال الأقليات المسلمة في الفلبين في النصف الثاني من القرن العشرين، د. هيا عبد المحسن محمد البابطين، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد الأربعون، رجب 1437 هـ، صـ292.

[3] الإسلام والمسلمون في الفلبين، محمد يوسف عدس، طبعة إلكترونية، صـ73.

[4] إدارة الأقلية المسلمة في الفلبين، فيدريكو في. ماجدالينا، مجلة دراسات، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، صفر 1439 هـ، نوفمبر 2017 م، صـ16.

[5] Warren, James F. The Global Economy and the Sulu Zone: Connections, Commodities, and Culture. Quezon City, Philippines: New Day Publishers, 2000.

[6] وضع الإسلام والمسلمين في الفلبين تحت الاحتلال الأجنبي وما بعده، إسماعيل حسانين أحمد، مجلة الإسلام في آسيا، المجلد 5، العدد 1، يوليو 2008 م، صـ162.

[7] التنصير في الفلبين: نشأته وخطره وكيفية مواجهته، أبو الخير تراسون، رسالة ماجستير، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، 1413 هـ - 1983 م، صـ237.

[8] أحوال الأقليات المسلمة في الفلبين في النصف الثاني من القرن العشرين، د. هيا عبد المحسن محمد البابطين، صـ305.

[9] المسلمون في الفلبين، محمد عبد القادر أحمد، مطابع الناشر العربي - القاهرة،1980 م، صـ 21 - 25.

[10] مشكلة الأقلية الإسلامية في جنوب جزر الفلبين، محمد حسن راشد الزهراني، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة أم درمان الإسلامية- السودان، 1431 هـ-2010 م، صـ19.