حضرة نوان.. عالم كازاخستانمقالات

صابر خان حينسوف

المصدر: مجلة البيان، العدد 382، فبراير 2019م.

 

إن العلماء ورثة الأنبياء، وهم عظماء الأمة الإسلامية الذين غيّروا مجرى التاريخ، وسطروا العديد من المواقف والأعمال العظيمة، وهم أمناء الأمة وسراجها، أوضح الله بهم الطريق وأنار الظلمات، وعرّف بهم الخلْقَ كيف يعبدونه على الطريق الصحيح والمنهج السليم، فهم المُوَقِّعون عن ربّ العالمين، والمفتون بسنة رسوله الأمين.

وإن من فضل الله على هذه الأمة أن قيض لها علماء مصلحين، عاملين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليحملوا إرث النبوة جيلاً بعد جيل، وينفعوا الأمة بالتعليم والبيان، والإرشاد والإفتاء، وتربية الأجيال الصالحة، وتصنيف الكتب النافعة، وغيرها، وإن من أولئك العلماء الربانيين: عالم كازاخستان[1] وحامل الدعوة الإصلاحية في عهد الإمبراطورية الروسية[2]، الشيخ الفقيه «حَضْرة نَوَان» رحمه الله.

• نسبه ومولده:

 الشيخ نَوْرِيزْبايْ ابن تَلاس، المُلقّب بحَضْرة نَوَان، وهو الاسم الذي عُرف به. واسم نوان صيغة تصغير لكلمة: «نَوْرِيزْبايْ» باللغة الكازاخية. وهو كازاخي[3] الأصل، من القبيلة الكازاخية الكبيرة «أَرْغون»، حنفي المذهب[4].

ولد في شمال جمهورية كازاخستان، محافظة أَقْمولى، إقليم زَارَانْدِي، قرية بَارَاتَيْ، سنة 1843م، وبها نشأ نشأة حسنة في الديانة والصيانة، والنزاهة والعفاف، وطلب العلم؛ فهو من أسرة علمية عريقة؛ وبيت علم وشَرَف ودِين؛ فأبوه الشيخ تَلاس من مشايخ الحلقات العلمية التابعة للمدارس الفقهية الحنفية[5].

• طلبه وعلمه:

ربّاه أبوه أحسن تربية؛ فقرأ القرآن الكريم وحفظه عن ظهر قلب وهو يافع، وشرع في طلب العلم الشرعي، وتعلم اللغات في سن مبكرة. ثم ارتحل إلى مدينة بخارى بجمهورية أوزبكستان، واستوطنها سكناً؛ وقرأ على مشايخها ولازمهم خمسة عشر عاماً، وقرأ عليهم في التفسير والحديث، والفقه الحنفي وأصوله، وأصول الدين، فجدّ واجتهد حتى برع في ذلك كله، فقرّر مشايخ بخارى بَعْثه إلى بغداد لدراسة العلوم الشرعية، فرحل إليها وقرأ على علمائها خمسة أعوام، ثم رجع إلى مدينة بخارى[6].

وقد تعلم اللغة الكازاخية[7]، والعربية، والفارسية، والتركية، والروسية، فأجاد تلك اللغات، وأفاد بها المسلمين.

• أعماله ودعوته:

بعد أن تمكن من العلم وبَرَع فيه ومَهَر، واشتهرت سمعته عينه والي مدينة بخارى أستاذاً في التفسير والفقه الحنفي في الحلقات العلمية التابعة للمدارس الشرعية، وكلفه بترجمة الكتب الشرعية من اللغة العربية إلى اللغة الكازاخية والأوزبكية.

 ووصلت شهرته إلى حكومة كازاخستان فطلب والي المنطقة الشمالية بجمهورية كازاخستان من والي مدينة بخارى إعادة الشيخ إلى دولته فوافق على ذلك، ولما عاد إلى وطنه عيّنه والي المنطقة الشمالية بجمهورية كازاخستان مفتياً للمناطق الشمالية، وإماماً للجامع المركزي، فلما تولى أعماله باشرها بعفةٍ وديانةٍ، وأدبٍ وأخلاقٍ حسنة، وقد نال ثناء أهلها التام عليه بحسن السيرة، ولُطْف المعاملة.

 وراسله عدد من المشايخ والدعاة وطلبة العلم من جميع الأقاليم الكازاخية لطلب الفتيا، والاستئناس برأيه في عدد من المسائل والنوازل الفقهية.

وجلس هناك للتدريس والتعليم، فقرأ عليه جماعات كثيرة من أهل كازاخستان في الحديث والتفسير والفقه، وانتفع به خلائق كثر.

 وفتح حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد للرجال والنساء، وساهم في بناء المساجد وحثّ أهل الخير على ذلك، وبنى المدرسة العلمية الشرعية للبنين والبنات في شمال كازاخستان، وشارك في تأسيس المراكز الإسلامية في جميع الأقاليم الكازاخية[8].

 • موقفه من التنصير:

 كانت الإمبراطورية الروسية قويةً، وسيطرت على الجمهوريات الإسلامية الخمس[9] في آسيا الوسطى. وأراد الإمبراطور أَلِكْسَنْدِر الثالث[10]، وبعده ابنه نيقولا الثاني[11] أن يحكم السيطرة التامة على المسلمين في داخل الإمبراطورية وخارجها، فرأى أن تنصير المسلمين على المذهب الأرثوذكسي الروسي وسيلة من وسائل السيطرة حتى يتحد الجميع على الدين الواحد تحت الإمبراطور الواحد.

أصدر الإمبراطور أَلِكْسَنْدِر الثالث الروسي أمراً جازماً سنة 1900م بتنصير الشعب الكازاخي على مذهب الأرثوذكسي الروسي، وألزم جيشه، والأثرياء، ورجال الدين المسيحي ببناء الكنائس، وترجمة الإنجيل باللغة الكازاخية ونشره مجاناً، وإرسال المنصرين في الأرضي الكازاخية، وإعطاء الهدايا الثمينة، والإعفاء من بعض الرسوم الحكومية لمن تنصر[12].

فلما سمع الشيخ حضرة نوان رحمه الله بهذه الخطة التنصيرية للناس، بادر إلى مواجهة هذا بقوة، وقام هو وتلاميذه ببذل كثير من المواقف والأعمال العظيمة التي تحول بين التنصير وتحقيق أهدافه، ومنها:

• تأليف الكتب والمقالات والبحوث التي تبين الحق، وتكشف الشبهات حول التنصير.

• تنظيم الاجتماعات والمشاورات بين العلماء والدعاة والمثقفين ومشايخ القبائل.

• الدعوة إلى توحيد صفوف المسلمين أمام التنصير.

• إصدار الفتاوى بتحريم قراءة الأناجيل، وزيارة الكنائس، والاستماع للمنصرين، وقبول الهدايا منهم.

• تفعيل المناظرات مع المنصرين، وإقامة الحجج والبراهين عليهم أمام الناس.

• تنظيم الحركة الشبابية الإسلامية لجمع نسخ الأناجيل وإحراقها، وتوزيع المصاحف المترجمة باللغة الكازاخية.

• تأسيس الإغاثة المالية الإسلامية حتى لا يغتر الشعب بتمويل المنصرين.

• تثقيف الشعب الكازاخي بالأحكام الإسلامية، والدعوة إلى الاعتزاز بدينهم.

• تنظيم العلاقات الدبلوماسية وتعزيز سبلها مع الدولة العثمانية، فقد أرسل حضرة نوان الرسائل إلى السلطان عبد الحميد الثاني، وطلب منه التدخل في هذا الشأن.

• التواصل مع المسلمين من الجمهوريات الإسلامية الأخرى، والدعوة لاجتماع كلمة المسلمين لمواجهة التنصير.

•- توضيح حال الإمبراطورية الروسية أمام العالم، وبيان ظلمها في التعدي على حقوق الناس[13]. إلى غير ذلك.

• ما جرى على الشيخ من ابتلاء ومحنة:

 ارتفعت مكانة حضرة نوان ومنزلته عند الخاصة والعامة؛ فأعماله ومحاولاته نجحت بعد عون الله تعالى، وتدخلت الدولة العثمانية، واتحد صف المسلمين، وأحرقت نسخ الإنجيل، وانتشرت الكتب والمقالات والمناظرات؛ ففشل التنصير، ولم يتنصر أحد من الشعب الكازاخي، بل ثبتوا على دينهم واعتزّوا به وتمسكوا بالشريعة الإسلامية.

 هذا الأمر أغضب الإمبراطور الروسي شديداً، فأمر جيشه بالقبض على الشيخ، وسجنه في سيبيريا[14]، وأمر بتعذيبه بكافة أنواع التعذيب حتى يرتد عن دينه، ويعترف بأن دين الإمبراطورية الروسية هو الدين الحق.

اعتقل الشيخ في سيبيريا، ونفذ الجيش الإمبراطوري عليه أبشع طرق التعذيب، ومنها:

• منعه من الطعام والشراب.

• حبسه في غرفة باردة من السجن.

• وضعه في الماء البارد وهو مقيد بحبل.

• إغراقه في البحيرة، وإخراجه منها وهو مقيد بحبل.

• إدخال الإبر تحت أظافر اليدين والرجلين.

• ضربه بالعصا والحديد.

• رمي السهام الصغيرة على يديه وفخذيه وهو مقيد بحبل على الجدران[15].

 ظهر من الشيخ ثبات عجيب على الحق، وتمسك بقوة؛ فكان يقول عندما يكره على الردة وقت التعذيب الشديد: «رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً»[16]، فصبر على التعذيب والضرب والإهانة والسخرية، ودل ثباته هذا على إخلاصه وصدقه، وحسن قصده في الدعوة ومحاربة التنصير.

وقد ضُرب قبله علماء الأمة الكبار مثل الإمام أبي حنفية، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ممن ابتلوا في ذات الله، وصبروا على الحق، وجهروا بالعلم، فرفعهم الله عز وجل بذلك لأعلى الدرجات بين العالمين.

 • وفاته:

أصيب الشيخ في هذه المحنة بضعف كبير في جسده، وتضررت صحته، وضعفت قوته، وتوالت عليه الأمراض؛ فوافتْه المنية في السجن سنة 1914م.

 أمر الإمبراطور الروسي بعدها أن تقطع جثته أمام السجناء المسلمين إرباً إرباً، وأن تحرق ثم ترمى في دورات المياه، ولكن الله أكرمه فحفظ من ذلك فغسل وكفن وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين؛ إذ أسلم ضابط الأمن الإمبراطوري الروسي لما رأى من ثبات الشيخ على دينه ويقينه به، وصبره على المحنة، وعدم اغتراره بأمور الدنيا، وبادر بإخراج جثته من السجن خفية، وأخرجها وسلمها إلى تلاميذه[17]. 


[1] كازاخستان تقع شمال وسط آسيا، وتحدها الصين من الجنوب الشرقي، وقيرغيزستان وأوزبكستان من الجنوب، وبحر قزوين وتركمانستان من الغرب، والروسي من الشمال. تبلغ المساحة الكلية 2 مليون 745 ألف كيلومتر مربع، وتحتل من حيث المساحة المرتبة التاسعة في العالم. انظر: كازاخستان اليوم لخيرات لاما شريف (14ص) (النسخة العربية).

[2] الإمبراطورية الروسية وجدت منذ سنة 1721م حتى قيام الثورة البلشفية سنة 1917م، وأعلن الإمبراطور بطرس الأكبر قيام الإمبراطورية الروسية رسمياً سنة 1721م. وكانت الإمبراطورية الروسية خلفاً لروسيا القَيْصَرية، وسلفاً للاتحاد السوفيتي، وتعد ثاني أكبر إمبراطورية متجاورة في العالم على الإطلاق من سنة 1721م إلى 1917م، ولم تتجاوزها إلا إمبراطورية المغول، وكانت تمتد من أوربا الشرقية عبر آسيا وصولاً إلى أمريكا الشمالية. انظر: عهد بطرس الأكبر على موقع واي باك مشين.

[3] الشعب الكازاخي هو أحد الشعوب الأَتْراكية، ويسكنون كازاخستان، ويوجد منهم في أوزبكستان، والصين وروسيا ومنغوليا، وسكنوا المناطق الممتدة ما بين سيبيريا والبحر الأسود، وقد بقوا في آسيا الوسطى عندما بدأ المغول والترك حملاتهم العسكرية ما بين القرنين الخامس والثالث عشر. انظر: كازاخستان اليوم، لخيرات لاما شريف (ص20-25 النسخة العربية).

[4] المرجع: حضرة نوان عالم شرعي، ومجاهد التنصير الروسي، للمؤرخ الدكتور أبو يافا (النسخة الكازاخية).

[5] المرجع السابق.

[6] مقالة: مكانة حضرة نوان في العلوم الشرعية، للمؤرخ الدكتور مرفوعة شابيان (النسخة الكازاخية).

[7] هي لغة مستخدمة في آسيا الوسطى وأوربا الشرقية والصين، وهي اللغة الرسمية في كازاخستان. وتعد رابع لغة أَتْراكِيَّة بحسب عدد متحدثيها كلغة الأم، بعد التركية والأَذَريّة والأُوُزْبَكية، وكُتبت اللغة الكازاخية أولاً بحروف الأبجدية العربية، ثم بدأ التحول للحروف اللاتينية، ثم حولها السوفيت إلى السيريلية. وهي لغة الأم للشيخ. انظر: اللغة القازاقية مدخل للتواصل مع العرب، موقع آسيا الوسطى.

[8] المرجع: حضرة نوان عالم شرعي، ومجاهد التنصير الروسي للمؤرخ الدكتور أبو يافا (النسخة الكازاخية).

[9] هي: كازاخستان، قيرغيزستان، أوزبكستان، طاجيكستان، تركمانستان.

[10] ألكسندر رومانوف الثالث إمبراطور روسيا السابع عشر في الإمبراطورية الروسية (1881 م- 1894م) خلفاً لابيه ألكسندر الثاني بن نيكولاي الأول. المرجع: موسوعة الإمبراطورية الروسية (النسخة الروسية).

[11] نيقولا الثاني رومانوف هو آخر أباطرة روسيا، استمر حكمه لروسيا من 1894م (عند وفاة والده الإمبراطور ألكسندر الثالث) حتى 1917م. المرجع: موسوعة الإمبراطورية الروسية (النسخة الروسية).

[12] المرجع: تاريخ الإمبراطورية الروسية للمؤرخ الدكتور أرمان سليمان أوف (النسخة الكازاخية).

[13] المرجع: أعمال حضرة نوان عند التنصير الروسي، للأديب الكازاخي علي خان بوكي خان (النسخة الكازاخية).

[14] سيبيريا هي الجزء الشرقي والشمالي الشرقي من روسيا، تمتد غرباً من جبال الأورال حتي المحيط الهادي شرقاً، ومن المحيط المتجمد الشمالي حتى حدود كازاخستان ومنغوليا والصين جنوباً.

[15] المرجع: أعمال حضرة نوان عند التنصير الروسي، للأديب الكازاخي علي خان بوكي خان (النسخة الكازاخية).

[16] المرجع السابق.

[17] المرجع: أعمال حضرة نوان عند التنصير الروسي، للأديب الكازاخي علي خان بوكي خان (النسخة الكازاخية).