المصدر: صحيفة الخليج: 9 يوليو 2014م.
أكد الشيخ محمد فطيرس بكرام، مفتي سنغافورة أن المسلمين في بلاده يمارسون شعائرهم بحرية تامة وأي مشكلات يتم حلها في إطار الدستور الذي يكفل حق المواطنة للجميع، وأشار إلى أن بلاده تضم العديد من الأديان الوضعية التي يمثل أتباعها الغالبية، ولهذا تتم دعوتهم إلى الإسلام من خلال السلوك والأخلاق، إضافة إلى حسن عرض الإسلام عليهم.
وأوضح "بكرام" في حواره مع "الخليج" أن مسلمي سنغافورة حريصون على التمسك بهويتهم الدينية، ويعززون ذلك بإنشاء المساجد والجمعيات والمدارس الدينية التي تعلم علوم الإسلام واللغة العربية.. وكشف حرص مسؤولي الإفتاء في بلاده على تيسير توصيل حكم الشرع إلى الراغبين فيه باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، وفيما يلي نص الحوار الذي أجري معه خلال زيارته للقاهرة:
نحافظ على هويتنا بالمساجد والمدارس والجمعيات الدينية:
في البداية نود التعرف على رحلة دخول الإسلام إلى تلك البلاد البعيدة المحاصرة بأهل الأديان الوضعية؟
- وصل الإسلام إلى سنغافورة ضمن مسيرة وصوله إلى الجزر المجاورة في ماليزيا وإندونيسيا ومنطقة الملايو كلها عن طريق التجار العرب الأوائل في القرن الأول الهجري، وزاد انتشاره في القرن التاسع الهجري حين وصلت إلى سنغافورة جماعات تبلغ الإسلام من المناطق المجاورة، وبالتالي فقد انتشر في المرحلتين سلمياً ومن دون إراقة قطرة دم واحدة، لأن التجار الأوائل والدعاة كانوا قدوة في أخلاقهم وسلوكهم ودعوتهم السلمية إلى دين الله الخاتم.
الموقع والدعوة
* كيف يمكن استثمار هذا الموقع الجغرافي الفريد في الدعوة إلى الإسلام وتعريف السكان به؟
- لمن لا يعلم فإن سنغافورة من الدول صغيرة المساحة، كما أن عدد سكانها في تزايد مستمر، ولهذا فإنها تعد من الدول الأكثر كثافة سكانية على مستوى العالم، وسكانها خليط من عدة عناصر بشرية أكثرهم من ذوي الجذور الصينية، ثم أصحاب الجذور الماليزية والباكستانية والهندية والإندونيسية، وتنتشر بين سكانها العديد من اللغات واللهجات، حيث تتحدث كل مجموعة لغة جذورها، إضافة إلى اللغة الإنجليزية، كما أن هناك تعدداً في المعتقدات الدينية، فمعظم السكان يدينون بالبوذية والكنفوشية والهندوسية والمسيحية ويمثل المسلمون قرابة 16% من السكان غالبيتهم من أصحاب الدخل الاقتصادي القليل، لكن منهم أعضاء في البرلمان، وقد أسهم الموقع المتميز في سهولة تواصل أبناء سنغافورة مع كل الدول المحيطة ومنها الدول الإسلامية، مما سهل توصيل الدعوة الإسلامية إلى من لا يعرفها في الداخل والخارج.
* في ظل انتشار الأديان الوضعية.. هل تتم دعوة أصحابها إلى الإسلام؟ وهل هناك استجابة من جانبهم؟
- نعم نقوم بدعوة غير المسلمين من أتباع الأديان الوضعية - وهم أغلبية السكان- من خلال سلوكنا وأخلاقنا وعرض الإسلام بالحسنى، كما أمرنا الله بقوله: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"، وبفضل الله يدخل كل يوم الإسلام مسلمون جدد مما جعلنا نقوم بإنشاء "جمعية المسلمين الجدد"، ويتم إعداد دورات مكثفة لتثبيت عقيدة من اعتنق الإسلام حديثا حتى لا يرتد، ولهذا فإن الإسلام هو الدين الأسرع انتشاراً في سنغافورة من خلال الدعوة السلمية التي تجذب غير المسلمين.
* تعد المساجد من أهم وسائل المحافظة على الهوية الإسلامية في دول الأقليات.. فما واقع المساجد لديكم؟ وهل هناك أية قيود على إنشائها؟
- بفضل الله يكفل الدستور السنغافوري الحرية لكل أتباع الأديان السماوية والوضعية في ممارسة شعائرهم، وإنشاء دور عبادتهم، ولهذا لدينا مساجد كبرى تم إنشاؤها على الطراز الإسلامي، ويؤدي المصلون صلاتهم فيها من دون أية قيود.
عدد المساجد الكبرى يقارب مئة مسجد ويوجد مثل هذا العدد من المصليات الصغرى، ومن يتأمل أسماء المساجد الشهيرة سيجد أن غالبيتها أسماء عربية خالصة وكأننا في بلد عربي، فمثلاً من مساجدنا الكبرى التي تحمل أسماء عربية لأشخاص أو صفات مساجد: السلطان وعبد الحليم صديقي، وعبد الغفار، وعبد الحميد، وعبد الرزاق، وأحمد إبراهيم، والأبرار، والأمين، والأنصار، والفلاح، والفردوس، والهدى، والإيمان، والاستغفار، والاستقامة، والجنيد، والخير، والمؤمنون، والمتقون والتقوى، والنور، والروضة، والشاكرين، ودار الأمان والغفران ودار السلام، والمعمور والنعيم.. وغير ذلك.
* هل يوجد من هذه المساجد ما هو أثري أم كلها حديثة الإنشاء؟
- لدينا مساجد يصل عمرها إلى قرابة 170 عاما وأشهرها مسجد "ملقا" الذي تم بناؤه العام 1830م، ومسجد "الحاجة فاطمة الزهراء" الذي تم بناؤه العام 1845م، وتشهد سنغافورة نهضة عظيمة في بناء المساجد الكبرى الجديدة، مما يؤكد الوجود الأثري الإسلامي في سنغافورة، وللعلم فإن الغالبية العظمى من المساجد تخصص أماكن فيها لصلاة النساء مما يعطي الفرصة للسيدات لإقامة شعائر دينهن بكل حرية.
مسلمات سنغافورة
* بمناسبة السيدات ما هو واقع المرأة المسلمة في سنغافورة باعتبارها المسؤولة عن تربية الأجيال؟
- بشكل عام تمارس المسلمات شعائر الإسلام بحرية، ولكن منذ فترة بدأت مشكلة بشأن ارتداء المسلمة للحجاب في الوظائف أو الأماكن العامة، حيث تم حظر ارتداء الحجاب فيها، وهذا ما جعل حزب العمال يطالب المسؤولين بضرورة إعادة النظر في قرار حظر ارتداء الحجاب بالأماكن العامة وفتح حوار مفتوح حول القضية، بحيث يتم السماح للمحجبات بالعمل في الوظائف التي تتطلب زيا موحدا، ونحن نساند هذه المطالب بحيث تكون هناك حرية دينية كاملة طالما أن هذا لا يتعارض مع الدستور ولا يضر بالآخرين، أما بخلاف هذه القضية فإن المسلمات يقمن بدورهن في مختلف جوانب الحياة، إضافة إلى دور المسلمة الأساسي كزوجة وأم صاحبة رسالة.
* كيف ينظم مسلمو سنغافورة مسائل الأحوال الشخصية في ظل هذا التنوع المجتمعي؟
- يهتم المسلمون بأن تسير أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ولهذا فقد أسسوا محكمة شرعية العام 1958م، ويحرص المسلمون على أن يتم الزواج والطلاق عن طريق هذه المحكمة وفروعها مما ساعد على استقرار الحياة الأسرية للمسلمين، كما تقوم المحاكم الشرعية بالفصل في النزاعات بين المسلمين، وفقا لأحكام الشريعة وكذلك قام المسلمون بتسجيل ممتلكاتهم وأموالهم في هيئة الأوقاف الإسلامية.
* أنتم في دولة علمانية.. فما الجهة التي تتولى الإشراف على الأنشطة الإسلامية المختلفة؟
- لقد حرص المسلمون على أن تكون مؤسساتهم الدينية نشطة في أداء دورها، ولهذا قاموا بإنشاء المجلس الإسلامي الذي يشرف على المساجد والأوقاف والمدارس الإسلامية، وغيرها من المؤسسات الدينية ويعمل على التنسيق بينها لتقوم بدورها المنوط بها على أفضل وجه في خدمة الدعوة الإسلامية من جانب وكذلك التواصل مع المؤسسات الدينية لغير المسلمين، وأيضا تمثيل المسلمين لدى الدولة في حالة حدوث أي مشكلة.
التعليم الديني
* لا بقاء لأي أقلية إسلامية في مجتمع غير مسلم من دون تعليم ديني يحافظ على هوية أبنائها.. فماذا عن التعليم الإسلامي لديكم؟
يتعلم أبناء المسلمين أحكام دينهم في المدارس الإسلامية التي يتكامل دورها مع دور الأسرة التي تحرص على تربية أبنائها على قواعد الدين، وتنتشر في أنحاء سنغافورة أكثر من تسعين مدرسة دينية إلا أن بعضها يعاني نقصاً في الكفاءات التي تجمع بين علوم الدين وأسس التربية وعلم نفس الطفل، ونحاول من خلال "دار العلوم الإسلامية" التي تعد مدرسة عليا لتخريج الدعاة وعلماء الدين والمتخصصين في العلوم الشرعية، وخاصة المتعلقة بحفظ القرآن الكريم واللغة العربية سد هذا العجز في عدد المحفظين والمدرسين مع العلم أنه توجد ست مدارس تدرس اللغة العربية بسنغافورة، بالإضافة إلى طلاب البعثات الذين يتم إرسالهم إلى المعاهد والجامعات في العالمين العربي والإسلامي، كما يتم تدريس الإسلام للأطفال والشباب والرجال والنساء في المساجد وتهتم بعض المدارس التي تكون الدراسة فيها بالماليزية والاندونيسية بتدريس الإسلام كمادة إضافية، وهناك العديد من المدارس الدينية موزعة في مختلف البلاد وأشهرها: المدرسة التهذيبية الإسلامية، ومدرسة الإرشاد الإسلامية، ومدرسة الجنيد الإسلامية، ومدرسة السغوف العربية، والمدرسة الدينية في رادين ماس، ومدرسة واق تانجونغ الإسلامية، والمدرسة العربية الإسلامية، ومدرسة المعارف الإسلامية.
لغة القرآن
* تعتز بعض الأقليات باللغة العربية لأنها لغة القرآن، فتعمل على الاهتمام بها خارج إطار التعليم الرسمي.. فهل هذا موجود لديكم؟
بفضل الله هذا موجود، وتتبناه بعض المؤسسات الإسلامية الداخلية بالتعاون مع المنظمات العربية وأشهرها مدرسة الجنيد الإسلامية، إضافة إلى مدارس متخصصة في تدريس اللغة العربية، وعليها إقبال شديد من المسلمين باعتبارها اللغة التي تجعلهم يجيدون فهم تعاليم دينهم بشكل أفضل.
* تعبر أي أقلية في مجتمع غير إسلامي عن نفسها من خلال الجمعيات الدينية، فهل هذه الجمعيات موجودة لديكم أم أن هناك تضييقا على إنشائها؟
- توجد لدينا العديد من الجمعيات والجماعات الإسلامية لعل أشهرها جمعية الدعوة الإسلامية التي تم تأسيسها العام 1932م، وقامت بإنشاء كلية إسلامية وكان لها دور كبير في الإبقاء على القضاء الشرعي، ومن الجمعيات الشهيرة أيضا جمعية التاميل المسلمة وجمعية المسلمين الجدد وجمعية تثقيف النشء وجمعية الشبان المسلمين وجمعية الملايويين، وجمعية دار الأرقم وجمعية الشابات المسلمات وجمعية الطلاب المسلمين وجمعية منداكي، والجماعة المحمدية وجماعة العلماء الهندية ومؤتمر الشبيبة الإسلامي وجمعية الطلاب المسلمين، وجمعية الأمانة الإسلامية، وجمعية التبشير الإسلامي، وجبهة المسلمين بسنغافورة، وهيئة أوقاف المسلمين.
* هل تتواصل هذه الجمعيات الإسلامية مع مثيلاتها في العالمين العربي والإسلامي أم أنها في عزلة واكتفاء ذاتي؟
- أغلبيتها جمعيات نشطة تتواصل مع مثيلاتها في الدول العربية، وخاصة الخليجية وتتلقى منها معونات في إنشاء المشروعات الخيرية المشتركة، كما يحرص بعض أهل الخير على إعطاء هذه الجمعيات مساعدات لإقامة مساجد ومستشفيات ومدارس، وتحرص هذه الجمعيات السنغافورية على التواصل مع المنظمات الإسلامية في ماليزيا واندونيسيا وبروناي وباكستان وغيرها، مع العلم أن العلاقة مع ماليزيا على وجه التحديد وثيقة لوجود ماض مشترك، حيث خضعتا معا للاستعمار وتحررتا معا وتشجعتا على تكوين اتحاد بعد الاستقلال إلا أن هذا الاتحاد لم يستمر سوى عامين فقط من 1963م حتى 1965م وهناك تقارب جغرافي بينهما، حيث تقع سنغافورة عند الطرف الجنوبي من شبه جزيرة الملايو ويفصلها عنها مضيق جوهور وتوجد مواصلات برية وبحرية تربط بينهما.
تراجم القرآن والسنة
* القرآن الكريم دستور الأمة الأول، والسنة النبوية المصدر الثاني للتشريع، فكيف يطلع عليهما مسلمو سنغافورة في ظل هذا التعدد العرقي واللغوي؟
- لعب التعدد اللغوي والعرقي دوره في تعدد تراجم معاني القرآن الكريم الموجودة في أيدي المسلمين، فمثلا لدينا تراجم بالعديد من اللغات أشهرها الماليزية والجاوية الإندونيسية والتاميلية، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية التي تعد من اللغات واسعة الانتشار على المستوى الرسمي، وقد تمت ترجمة كتب السنة النبوية إلى اللغات السابقة، إضافة إلى ما كتبه علماء الإسلام في سنغافورة وغيرها من الدول الإسلامية المجاورة حتى تعم الفائدة.
* يعد توافر "الصناعة الحلال" مشكلة كبيرة للعديد من الأقليات، فما هو الوضع لديكم؟
- نحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية في كل جوانب حياتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولكن للأسف الشديد حدثت بعض أعمال الغش في مواصفات الحلال، ولهذا فإننا نعمل على أن تكون صناعة الحلال بأيدي المسلمين حتى نكون آمنين على كل ما يتعلق بالحلال ونسد الباب على كل من تسول له نفسه التلاعب أو الغش.
قضايا الإفتاء
* باعتباركم مسؤولاً عن الإفتاء في بلادكم، ما القضايا التي يحرص المسلمون لديكم عن الاستفسار عنها؟
- قضايا الحياة اليومية في مجتمع غالبيته من أتباع الأديان الوضعية وقلة من أتباع الأديان السماوية، ولهذا نجد قضايا الأسرة من الزواج والطلاق والنفقة تأتي في المقدمة، ثم يليها ما يتعلق بالعقيدة الإسلامية وتعامل المسلمين مع غير المسلمين، ولماذا أباح الإسلام للمسلم الزواج من الكتابيات وحرم على المسلمات الزواج بغير المسلمين، ونظرة الإسلام إلى غير المسلمين، والحلال في الطعام والشراب والمعاملات المالية.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.