قصة مسجد في كندامقالات

د. عرفات العشي

المصدر: شبكة الألوكة، 6/ 7/ 2010م.

 

تنتشر الدعوة الإسلامية - ولله الحمد - في كلِّ مكان من المعمورة مع انتشار أبناء الجالية، وفيما يلي قِصَّة جالية قدمت من بلاد الهند؛ لتستقِرَّ في كندا للعمل، ويكتب الله أنْ يقوم بعضُ أبنائها على تعليم الآخرين الخيرَ؛ لتثمر البذرة جالية نموذجيَّة تعمر بيتًا من بُيُوت الله في بقعةٍ مَا ظنَّ المسلمون يومًا أن يطؤوها، وفي سرد ذلك عبرة وفائدة - إن شاء الله.

"أمجد بيمات" واحد من أربعة إخوة مُسلمين من الهند من منطقة "جوجرات"، جاؤوا إلى كندا مهاجرين، واستقرَّ بهم المقام بمدينة تورنتو، مع عدد من أصدقائهم، الإخوة الأربعة حافظون لكتاب الله - تعالى - حيثُ حرص والدُهم الشيخ محمد على تخرُّجهم في مدرسة تحفيظ القُرآن في "جوجرات"، استقرَّ الإخوةُ الأربعة في تجمعٍ لمسلمين قادمين من نفس المنطقة، واستأجروا مُعظم الشقق في عمارتين مُتجاورتين، ووضعوا خطة، خُلاصتُها أنَّه كلما فرغت شقة في العمارتين، استأجرها أحدُ القادمين الجدُد من مواطنيهم حتَّى بلغ عدد الشقق التي يسكنها مسلمون هناك ثمانين شقة من مجموعة مائة شقة.

وفكَّر سكان العمارتين تفكيرًا جماعيًّا منذ الوهلة الأولى، فاستأجروا الصَّالة الأرضية في إحدى العمارتين، وشرعوا في استخدامها مُصلًّى لهم يقيمون فيها الصَّلوات الخمس اليوميَّة وصلاة الجمعة، ويَؤمهم فيها أحد الإخوة الحفاظ الأربعة، ثم نظموا دروسًا دينية لأبناء السُّكان كلَّ يوم حتَّى غدت الصالة خلية نحل.

إقبال المسلمين على الطاعة:

وأقبل المسلمون من عمارات مُتجاورة للانضمام إلى إخوانهم سكان العمارتين في صلاة الجمعة، والصلوات اليوميَّة، والدروس المسائية للأبناء، وهناك ضجَّ الحي بالشَّكوى من تكدُّس السيارات الزَّائرة، ومن الزحام الشديد في الصالة التي أخذت تضيق بالمصلين، وبدأ المسلمون بالبحث عن حلٍّ لهذه المشكلة، فماذا فعلوا؟ لقد استأجروا صالة لمدة أربع ساعات كلَّ يوم جمعة تتسع لمائتي مصلٍّ؛ لأداء صلاة الجمعة فيها، فماذا حدث؟ زاد إقبال النَّاس في الحي على هذه الصلاة، حتَّى أصبحت تقام فيها صلاة الجمعة مرتين مُتواليتين، تمتلئ الصالة بالمصلين، ويخطب فيهم إمام، ويصلي بهم الجمعة، ثم يخرجون ويخرج إمامهم معهم، ويدخل إخوان آخرون لهم فيملؤون الصَّالة من جديد، ويأتي إمامٌ آخر لم يصلِّ فيصلي بهم الجمعة، وهكذا ظلَّت صلاة الجمعة تقام في هذا المكان المستأجر مرَّتين مُتواليتين كل أسبوع، واستمر ذلك لعدة سنوات.

مكان مناسب.. ولكن:

إلى أنْ خطا هؤلاء الإخوة خُطوة كبيرة، فقد عَثَروا على مكانٍ واسع كان من قبل مَعْرضًا للسيارات، وتحيط به قطعة أرض كبيرة تتَّسع لتسعمائة سيارة، ويقع هذا المكان على شارع رئيس في حي "سكاربورو" شرق تورنتو، هذا المكان معروضٌ للبيع؛ بسبب الركود الاقتصادي الحاد، الذي أصاب تورنتو كغيرها من مُدُن العالم، زار وفدٌ من المسلمين "الجوجراتيين" هذا المكان وطافوا في جنباته، فأعجبهم لاتِّساع رقعته، وقال بعضهم لبعض: إنَّه المكان النموذجي الذي يلبِّي كافَّة احتياجاتنا، لكن ثمنه كبير جدًّا، لقد طلب المالك ثمنًا باهظًا لهذا الموقع مقداره ثلاثة ملايين دولار، الله أكبر، من أين يأتي هؤلاء الفقراء بهذا المبلغ؟! وكثير منهم عاطلون عن العمل، أو قادمون جدد يعيشون على الإعانات، ما العمل؟ كلهم يعيشون في شقق مستأجرة بالقُرب من هذا المكان وعلى بُعد خطوات منه، لقد أخذوا يحلمون في الحصول عليه، كانت جُيُوبهم فارغة، ولكنَّ قلوبَهم مليئة بالإيمان والثقة بالله.

أول الغيث قطرة:

عقدوا اجتماعًا دَعَوا إليه مُعظم سُكَّان الحي من المسلمين، وعرضوا على الحاضرين الفكرة، فتحمَّس لها الجميع، وأفرغوا ما في جُعبتهم من دارهم، كما تعهَّدوا بدفع مبالغ عند تسلُّم مرتباتِهم، وهكذا جُمع مبلغ 25.000 دولار، كبَّر الحاضرون، وعزموا على حجز المكان، ودَفْع هذا المبلغ عربونًا له، وبعد تفاوُض مع المالك وافَقَ على بيعهم المكان بالتقسيط على أنْ تُسدد القيمةُ خلال عامين بلا فوائد، فرح المسلمون بذلك وهلَّلوا وكبَّروا، ودعوا الله أن يُعينهم على شراء هذا المكان، وأخذوا يُفكِّرون في وسائلَ لجمع التبرُّعات من كل مسلم صغير أو كبير، فوَضعوا عند كل أسرة وفي كل بيت صندوقًا صغيرًا، علبة حديدية فارغة؛ حتَّى تجمع فيها كل أسرة ما يزيد عن حاجتها من دراهم مَعدنيَّة، وتسلمها للجنة شراء المسجد في نهاية كل شهر، وأخذ المال القليل يتدفَّق على لجنة هذا المشروع وبارك الله فيه.

الصف المرصوص:

وفي نهاية شهر تشرين الثاني "نوفمبر" 1992م نظَّمت اللجنة عشاء خيريًّا، حضره خطيب محبوب في "تورنتو" اسمه "عبدالله إدريس" مدير المدرسة الإسلامية في تورنتو، فأخذ يحض المسلمين على التبرُّع بسخاء، وأشد ما كانت دهشة اللجنة حين اكتشفت في نهاية الحفل أنَّه جمع لصالح المسجد في تلك الليلة وحْدَها خمسة وسبعين ألف دولار، هلَّل المسلمون وكبروا وزاد حماسُ مُختلف فئات الجالية المسلمة في المنطقة، فهذا مسلم جاء إلى المكان فوجد مَرافقه الصحية قديمة غير كافية، فأحضر اختصاصِيَّ أدواتٍ صحية، وأنشأ مرافق جديدة، وأماكن للوضوء على حسابه، وجاء آخر وغطَّى نفقاتِ التَّدفئة والتكييف، وجاء ثالث، ودفع قيمة فرش المسجد بالسجاد البسيط، وهكذا تدفَّق الناس كلٌّ منهم يُسهم بما يستطيعه لهذا البيت الجديد من بيوت الله في الأرض، واستوى في هذا الحماس الشباب والشيوخ والرِّجال والنساء، كلٌّ يقوم بدوره الذي يستطيعه.

أَسْهِم معنا:

لقد تَمَّ دفع أربعمائة ألف دولار حتَّى الآن من قيمة شراء هذا المسجد، وبَقِيَ مليونان وستمائة ألف دولار.

ولقد صلَّى الجمعة في أواخر شهر كانون الأول "ديسمبر" 1992م أكثر من ألف وثلاثمائة شخص في هذا المكان، ولم يَعُدْ هناك حاجة لتكرار صلاة الجمعة مرَّتين في نفس المكان، وأتاح لهم الموقع الجديد عقد فُصُول دراسية كل مساء، وفي عطلة نهاية الأسبوع، وزاد إقبال الناس للإقامة في المنطقة؛ لقربهم من المسجد الجديد.

فإذا أراد أهل الخير استمرار هذا البيت من بُيُوت الله، ونُمو هذه الجالية الإسلامية الطيبة فما عليهم إلا التبرُّع بسخاء لها، إنَّني لم أكتب حرفًا واحدًا من الخيال، إنَّها قصة حقيقيَّة يعرفها كل مسلم أقام في تورنتو، ونسأل الله أن يُلهم الجميعَ للإسهام في هذا المركز، وبه التوفيق وهو المستعان.