مسلمو جورجيا بين المطرقة والسندانمقالات

عبدالرحمن أبو عوف

المصدر: موقع مداد، 08-11-2007م.

 

تُعدّ جورجيا إحدى بلاد غرب القوقاز، والتي كانت تمثل لوقت طويل إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، حتى حصلت على استقلالها عام 1991، وأُعلنت جمهورية مستقلة وعاصمتها تبليس.

وتحد جورجيا من الشمال جارتها روسيا، ولها امتداد طويل على شواطئ البحر الأسود، في حين تحاط بجمهوريتين قوقازيتين من الشرق هما أرمينيا وأذربيجان، فيما تحدها تركيا من الجنوب، ولعل أبرز الملامح في تاريخ الشعب الجورجي إنجابه لشخصيتين متناقضتين تمام التناقض:

الأولى: جوزيف ستالين الذي ساهم بقسوته ودمويته وقتله لأكثر من (15) مليون مسلم في تأسيس الاتحاد السوفيتي السابق، وفي المقابل أنجبت جورجيا أيضاً إدوارد شيفرنادزة آخر وزير خارجية للاتحاد السوفيتي، والذي لعب دوراً مهماً في تحويله إلى ركام، وإزالته من خريطة العالم بالمشاركة مع ميخائيل جورباتشوف.

غير أن هناك ما يجمع بين ستالين وجورباتشوف وهو العداء لمسلمي جورجيا، إذ قام فور وصوله إلى العاصمة تبليس بعد إطاحة الزعيم القومي الجورجي زياد جامسا خورديا بإلغاء الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به أبخازيا ذات الأغلبية المسلمة، ودشن حملة عسكرية ضمت كبار المجرمين وقطاع الطرق واللصوص الذي أعملوا القتل والنهب والتصفية للشعب الأبخازي المسلم.

وقبل أن نستعرض واقع المأساة التي يعيشها الشعب الجورجي المسلم جدير بنا أن نذكر أن عدد المسلمين في جورجيا يصل إلى أكثر من نصف مليون مسلم يشكلون 10% من سكان البلاد، ويتمركز معظمهم في جمهوريات أبخازيا وادجاريا واهيسكا، والتي كانت تتمتع بالحكم الذاتي قبل أن تقوم السلطة المركزية في تبليس بتجميده.

صلات وثيقة:

وكذلك لا بد من التعريف بأن الإسلام قد دخل جورجيا أو ما كان يُطلق عليه بلاد الكرج سنة 25 هجرية بعد فتح أرمينيا، كما أنجبت بلاد الكرج العديد من الفقهاء والشعراء والمحدثين، وفي العهد الإسلامي كانت تبليس عاصمة جورجيا، وهي حالياً أحد أهم مدن الإقليم، وعاش فيها المسلمون والنصارى عهوداً طويلة من الاتفاق وحسن الجوار.

وتمتعت بلاد الكرج بصلات وثيقة مع الدول الإسلامية المتعاقبة مثل سلاجقة الروم (1077 - 1299) ومن بعدها الدولة العثمانية (1299- 1923) إلاّ أن انهيار القيصرية، وظهور الشيوعية والاتحاد السوفيتي قد ألحق أضراراً بالغة بمسلمي جورجيا بدأت مع التهجير القسري لهم إلى صحراء سيبيريا وأطراف الدولة السوفيتية المترامية، علاوة على هدم المساجد، وحرق المصحف الشريف، وعدم السماح بطباعته، وبل وسجن من يعثر في بيته على نسخة منه.

وقد دفعت هذه الإجراءات التعسفية آلافاً من المسلمين إلى الهجرة إلى تركيا وإيران وشبه الجزيرة العربية ومصر مستغلين قربهم من البحر الأسود حيث شواطئ جمهورية أبخازيا وعاصمتها سوهومي، ومحاذاة جمهورية أدجاريا وعاصمتها باخوم للحدود التركية.

وقد شهدت جورجيا موجة من الاضطرابات السياسية في الأشهر القليلة التي تليت استقلالها عن الاتحاد السوفيتي السابق، وتنامي النزعات الانفصالية بين الاستقلال التام في ابخازيا، وبين الالتحاق بدول الجوار، كما في حالة اوستيا الجنوبية التي ترغب في الانضمام لأوستيا الشمالية في الاتحاد الروسي، أو ادجاريا الراغبة في الالتحاق بتركيا.

واجهت جورجيا هذه التطلعات بقسوة شديدة، وأمر جميع قادتها سواء أكان خورديا أو شيفرنادزه وخلفه كشفيلي باستخدام القوة لمواجهة حق هذه الشعوب في تقرير مصيرها.

ففي ابخازيا سعى شيفرنادزه إلى تصفية تطلعات الأبخازيين في الاستقلال، وعلى الرغم من إخفاقه عسكرياً إلاّ أنه راهن على تشويه صورة الأبخاز المسلمين أمام العالم، فزعم ذات مرة وجود صلات وثيقة بينهم وبين الثوار الشيشان مما جعل روسيا تقصف أراضي في ابخازيا بحجة منع الدعم اللوجيستي الذي يقدمه الأبخاز للمقاتلين الشيشان.

وواصل شيفرنادزه سخافاته ضد الشعب الأبخازي بالتأكيد على تحوّل ابخازيا إلى ملاذ آمن لمقاتلي القاعدة بهدف إقناع واشنطن بشن حرب بالوكالة ضد المسلمين الأبخاز.

التحالف ضد المسلمين:

ولم يختلف نهج حليفيه ساكشفيلي عنه، إذ شن حملة على اوسيتا الجنوبية وممرات كودوربي لتأديب ابرار كيفيتثساني المسؤول المحلي السابق الذي خرج عن سيطرة تبليس، وهي الحملة التي أجبرت الأخير على الفرار.

وتكرر نفس السيناريو في ادجاريا، حيث حشد ساكشفيلي حملة لاستئصال النزعات الانفصالية في الجمهورية الواقعة في جنوب غرب جورجيا، وبالقرب من الحدود التركية، وإبعاد أصلان ابا شدوة رئيس جمهورية ادجاريا وزعيم حزب الوحدة السياسي ومساعيه لطلب الاستقلال، وقد أجبرت هذه الحملة أصلان ابا شدوة على مغادرة ادجاريا إلى موسكو بعد أن صودرت أملاكه، واستقبلت موسكو الزعيم الادجاري المسلم لتحقيق عديد من الأهداف أهمها: تنفيذ سياسة الاحتواء المزدوج ضد جورجيا بحماية ابا شدوة بجعلها تستغله كورقة في أي وقت لكبح جماح ساكشفيلي الذي يُعدّ عراباً للسياسة الأمريكية، ووكيلاً ينفذ الرغبات الأمريكية للهيمنة على المنطقة، وتحجيم نفوذ روسيا، خصوصاً أن هناك العديد من الملفات بين البلدين لم تُحلّ بعد مثل تفكيك القواعد العسكرية الروسية في جورجيا، لذا أرادت موسكو عدم حرق هذه الورقة علها تستفيد منها في المستقبل.

ولم تكتف سلطات جورجيا بذلك، بل إنها استمرت في التصعيد ضد المسلمين لدرجة أن وزير الدفاع الجورجي صرح ذات مرة باستعداده للتضحية بمئة ألف جورجي لتصفية النزعات الانفصالية للمسلمين في ابخازيا وادجاريا.

معاناة مسلمي جورجيا:

وتكشف هذه التصريحات مدى العداء الذي تحمله جورجيا لمواطنيها، وتفضيلها لسيناريو الحديد والنار ضدهم، على الرغم من تودد زعماء تبليس الجدد، وسعيهم لخطب ود دول إسلامية مثل تركيا وأذربيجان التي شكلت أنابيب النفط لخط باكوجيهان وتبليس اذروم جيهان طوق الإنقاذ للاقتصاد الجورجي المنهار، وعلى الرغم من هذا لم تتبدل أحوال المسلمين في جورجيا الذين بقوا أسرى الفقر والتهميش والتصفية من جانب الآلة العسكرية الجورجية، في وقت يغط فيه العالم الإسلامي في سبات عميق، يترك الشعب التركي المسلمين بين سندان جورجيا ومطرقة الحرب الأمريكية على الإرهاب، خصوصاً بعد وصول عشرات من كبار الضباط الأمريكان لدعم ساكشفيلي ضد المتمردين المسلمين.

وقد زاد الطين بلة المعاناة الاقتصادية التي تواجه مسلمي جورجيا شأنهم شأن جميع المواطنين بسبب انتشار الفقر والفساد السياسي والاقتصادي، وقيام الدولة بخصخصة وحدات القطاع العام دون أن تكون لها القدرة على جذب استثمارات تستطيع إقالة الاقتصاد الجورجي من عثرته.

ولا تقف مشاكل مسلمي جورجيا عند هذا الحد، بل هناك نقص كبير في الوعي الديني لديهم نتيجة افتقادهم الواضح للمؤسسات الدينية، وعدم قدرتهم على تشييد مساجد ومراكز إسلامية لزيادة وعي أطفالهم وشبابهم بتعاليم الدين، ويحاول المسلمون مواجهة هذا الأمر عبر ابتعاث مئات الطلاب إلى تركيا ومصر للعودة للعمل كدعاة في المساجد والمؤسسات الإسلامية الموجودة والمعتزم إنشاؤها في المستقبل، وإيجاد صلات مع العالم الذي انقطعت أواصره بمسلمي جورجيا تماماً، مما أعطى حكامها فرصة للعصف بهم لا لشيء إلاّ لأنهم مسلمون يعتزون بإسلامهم.

وكان جدير بالعالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي أن تتبنى قضية مسلمي جورجيا، واستغلال سعي تبليس لاستعادة علاقاتها بدول عربية وإسلامية لتحسين أوضاع المسلمين، والوصول إلى حل وسط يحافظ على حقوقهم، ويراعي في الوقت نفسه وحدة أراضي جورجيا، إلاّ أن الصمت المطبق من جانب العالم ترك مأساتهم تستفحل، وإصرارهم على التمسك بالهوية الإسلامية يخفت على الرغم من وجود شعور كبير لديهم بأهمية دور الإسلام في حياتهم الاجتماعية والسياسية.

مجمل القول إن أوضاع المسلمين في جورجيا لن تتحسن في السنوات القليلة المقبلة بسبب عدم وجود ضغوط على جورجيا التي يتحدث سياسيوها عن الحرية التي يتمتع بها المسلمون بممارسة شعائرهم، في حين أن عمليات القتل والتصفية مستمرة في مناطقهم على قدم وساق.