الأشعرية هي مدرسة كلامية، تنسب لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وهي إحدى الوريثات الكبرى للمدرسة الكلابية التي نشأت في وقت مبكر على يد عبد الله بن سعيد بن كلاب، المتوفى في حدود سنة 240هـ، و التي ارتكزت جهودها في الرد على المعتزلة –تحديدًا-، وتفنيد دعاويها المخالفة لمذاهب أهل السنة، لكن باستخدام نفس مناهجهم الكلامية، وقد أدى هذا التغير في المنهج إلى تغير في الآراء والأصول العقدية كما يرى واضحًا في نفي الكلابية والأشعرية للصفات الاختيارية وقولهم بالكلام النفسي.
وكما اختلفت المصادر في تحديد سنة ولادة أبي الحسن الأشعري وسنة وفاته، فكذلك اختلفت هذه المصادر في تحديد مذهبه الفقهي؛ حيث نُسب إلى المذاهب الفقهية المشهورة في زمنه؛ وهي الحنفية والمالكية والشافعية، وترى بعض المصادر التاريخية أن المعروف هو كونه شافعي المذهب. ولعل هذا بعد تركه للاعتزال؛ لأن الأقرب أن يكون على مذهب الحنفية في فترة اعتناقه لعقيدة المعتزلة؛ حيث يغلب على المعتزلة تبني مذهب أبي حنيفة في الفروع، وهذا ما نصت عليه بعض المصادر.
ركز أبو الحسن الأشعري، بعد تركه للاعتزال واعتناقه للكلابية، على بحث قضايا معينة؛ أولاها هو ومن سيأتي بعده من أتباعه عناية فائقة، وهي - عند التأمل - أعظم المسائل التي خالف فيها المعتزلة مذاهب المنتسبين للسنة؛ وهي إثبات زيادة الصفات على الذات، والرؤية، وخلق الأفعال. وقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن أبا الحسن الأشعري نص على هذه المسائل عند إعلانه ترك مذهب الاعتزال، وأنه تائب من مذهب الاعتزال فيها، وأنه سيتولى مهمة الرد عليهم. ولا يعني ترك أبي الحسن الأشعري للاعتزال أنه انسلخ من كل معتقداتهم، فإن عددًا من الأصول الكلامية الشهيرة، والتي قال بها المعتزلة، تبناها أبو الحسن الأشعري ووظفها في حربه الكلامية التي سيخوضها مع المعتزلة وغيرها من الفرق والأديان.
لأبي الحسن الأشعري تراث ضخم جدًا؛ لكن لم يقدر لأكثره الوصول إلينا، ولم يصل إلينا مما يمثل مذهبه في الطور الثاني من أطواره الاعتقادية الثلاثة المشهورة، سوى كتاب واحد! وهو: "اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع"، وكتاب آخر لا يتحدث عن المسائل العقدية بقدر ما هو صياغة تبريرية لمشروعية الخوض في علم الكلام؛ وهو كتاب "الحث على البحث".
مما وصلنا من تراث الأشعري كتاب "مقالات الإسلاميين"، الذي يصفه ابن تيمية بقوله:
وهو أجمع كتابٍ رأيته في هذا الفن (يعني علم المقالات)، وقد ذكر فيه ما ذكر أنّه مقالة أهل السنة والحديث، وأنّه يختارها، وهي أقرب ما ذكره من المقالات إلى السنّة والحديث، لكنْ فيه أمور لم يقلها أحدٌ من أهل السنة والحديث. ونفس مقالة أهل السنة والحديث لم يكن يعرفها، ولا هو خبيرٌ بها؛ فالكتب المصنّفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء، ليس فيها ما جاء به الرسول، وما دلّ عليه القرآن؛ لا في المقالات المجرّدة، ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة؛ فإنّ جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه.
وقال في وصفه أيضًا:
يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال، ويحكيه بحسب ما يظنه لازماً، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام، من المعتزلة وغيرهم، حكاها حكاية خبير بها، عالم بتفصيلها.
وقد كان لأبي الحسن الأشعري عددٌ من التلامذة، تولوا مهمة نشر الفكر الكلابي بناء على تحريره له؛ وأشهرهم في مصنفات الأشعرية هم: أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن مجاهد الطائي المالكي البصري (تـ370)، وأبو الحسن الباهلي البصري (تـ حدود 380)، وأبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الشافعي الطبري (تـ380)، وقد تتلمذ على هؤلاء الأعلام ثلاثة من كبار أئمة المذهب في مرحلته المبكرة؛ يمكن اعتبارهم المقعدين للمذهب الأشعري، وهم: القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي (تـ403)، ومحمد بن الحسن ابن فورك الأصبهاني الشافعي (تـ406)، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني الشافعي (تـ418) ، وقد كان لهؤلاء الأعلام أثرٌ في تحرير المذهب، ونشره، وتولي مناظرة المخالفين له.
والبغدادي من علماء الأشعرية المتشددين، وهو يتساهل جدًا في تكفير خصومه، لا سيما المعتزلة، كما أن ما يذكره عنهم ليس دقيقًا، وهذا ما أكد عليه فخر الدين الرازي. كما أن المؤلف تعرض لذات النقد من جهة تقي الدين أبي عمرو ابن الصلاح (تـ643)، واتهمه بأنه يخبط كثيرًا في نقوله! وإن كان -فيما يبدو - أنه يقصد ما ينقله في الفقه لا في العقائد.
للسمناني رأي شهير في مسألة أول واجب على المكلف، حيث خالف المذهب؛ إذ رأى أن أول واجب عليه هو النطق بالشهادتين. وقد وجه نقدًا للمذهب في هذه المسألة، وذكر أنها من آثار الاعتزال التي بقيت لدى مؤسس هذا المذهب !
ويبدو أن السمناني من أوائل من تبنى المعتقد الأشعري من فقهاء الحنفية، ولعل هذا ما دعا شيخ المؤلف بأن يصفه بأنه: (مؤمن آل فرعون) !
لم يقتصر تأثير أبي المعالي الجويني على تلامذته المشرقيين فحسب؛ بل تعدى ذلك ليصل تأثيره إلى المغاربة والأندلسيين؛ فلا تخفى الهيمنة التي فرضها مؤلفه الكلامي الشهير "كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد"، والذي يعد من أهم الكتب داخل المذهب الأشعري - حتى سماه ابن تيمية: "زبور الأشعرية المستأخرين " - = على المغاربة؛ بحيث أصبحت أكثر الأعمال التي كُتبت عليه هي من تأليف مغاربة. كما سيلقى القول بإثبات الأحوال، والذي نادى به أبو المعالي الجويني في "إرشاده"؛ ترحيبًا لدى المغاربة، وسيبقى هذا التأثير ظاهرًا حتى ظهور السنوسي (تـ895) صاحب المنهجية الجديدة في المذهب الأشعري، والذي يُعد امتدادًا لتأثر المغاربة بـ"إرشاد" أبي المعالي الجويني؛ لذا فمن الطبيعي أن يستمر تأثير المنهجية الجوينية على الأشعرية إلى يومنا هذا؛ بسب ترويج السنوسي لمنهجية أبي المعالي الجويني في متونه العقدية المشهورة، والتي اعتمدها الأشعرية إلى يومنا هذا.
وقد عرف الغزالي بقلة البضاعة في علم الحديث، كما أقر بذلك في كتابه " قانون التأويل"، وكثرت في كتبه الأحاديث الواهية والموضوعة، بل ينقل عن الأئمة كالإمام أحمد من المقولات الاعتقادية: ما يعرف أنه كذب عليه. قال ابن تيمية:
ولم يكن أبو حامد ممن يتعمد الكذب، فإنه كان أجل قدرًا من ذلك، وكان من أعظم الناس ذكاءً، وطلبًا للعلم، وبحثًا عن الأمور، وكان من أعظم الناس قصدًا للحق، وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة بليغة، ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين.
أبو القاسم كان له هوى، ولم تكن له معرفة بحقائق الأصول التي تنازع فيها العلماء، ولكن كان ثقة في نقله، عالمًا بفنه، كالتاريخ ونحوه.
ولقوة حضور الرازي عند الأشعرية، وخصوصًا الأعاجم الشرقيين منهم؛ سينتزع لقب (الإمام) من أبي المعالي الجويني؛ لكن هذا الحضور لن يكون مجمعًا عليه بين عموم الأشعرية؛ فقد تعرض فخر الدين الرازي إلى النقد من قبل أشاعرة في طبقته، أو في طبقة تلامذته، بالإضافة إلى الموقف العدائي الذي يكنه السنوسي له! وما من شك أن هذا بسبب الجرأة التي كان يتصف بها، والتي خولته إلى مخالفة المذهب في مسائل جوهرية منه، بسبب تأثره بآراء الفلاسفة المشائين العرب! لكن هذا لم يمنع من أن يكون لفخر الدين الرازي محبون، ومتأثرون بمنهجيته، وهم عدد لا بأس به من الأشعرية الأعاجم الشرقيين في الفترة الواقعة بعد وفاته إلى قيام الدولة الصفوية عام: (906هـ)، بل ستكون المنهجية الرازية اللاهوتية هي الطاغية على أشعرية تلك الأقاليم - والتي كانت إذ ذاك تحت سيطرة التتار -! ومن أشهر هؤلاء الأشعرية؛ أفضل الدين الخونجي (تـ646)، وشمس الدين الخسروشاهي (تـ652)، وأثير الدين الأبهري (تـ663)، ونجم الدين الكاتبي القزويني (تـ675)، وسراج الدين الأرموي (تـ682)، وناصر الدين البيضاوي (تـ685)، وشمس الدين السمرقندي (تـ722)، وعضد الدين الإيجي (تـ756)، وسعد الدين التفتازاني (تـ792)، والملا جلال الدين محمد بن أسعد الدواني الشيرازي (تـ908)، وشمس الدين محمد بن أحمد الخفري الشيرازي (تـ942)، حيث سوف نرى علماء الأشعرية العجم، فيما بعد الفترة الرازية، يميلون بشكل واضح إلى المناهج الفلسفية، وسينشط على أيديهم التأليف الفلسفي؛ بكتابة الشروح والحواشي على المتون الفلسفية المتداولة في المشرق، بالإضافة إلى كتابة الشروح والحواشي على الكتب الكلامية التقليدية، أو الفلسفية، مع وجود عدد من المؤلفات المستقلة في علم الكلام. ولم يكن تأثير وحضور الفخر الرازي في تلك الحقبة (القرنين السابع والثامن الميلاديين) مقتصرًا على بلاد العجم، فقد كان له أتباع في مصر والشام، وهو ما حمل شيخ الإسلام ابن تيمية أن يتمم رده على شمس الدين السروجي الذي أسماه "بيان الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية" بردٍّ آخر على كتاب "تأسيس التقديس" للفخر الرازي أسماه "بيان تلبيس الجهمية"، وبين ابن تيمية في مقدمته أن الحامل له على تخصيص الرازي بالرد ما رآه من مركزية كتب الرازي في ذلك الوقت في تأصيل العقائد المخالفة للكتاب والسنة " عقائد الجهمية" .
وقد نتج من جراء ذلك قيام سيف الدين الآمدي بتعقب فخر الدين الرازي في عدد من مؤلفاته المهمة؛ كـ"شرحه" على "إشارات" ابن سينا، وكتابه "المطالب العالية من العلم الإلهي". ومع ما يحتله سيف الدين الآمدي من منزلة عالية جدًا في العلوم العقلية؛ لدرجة أنه كان يحفظ عشرين كتابًا في علم الجدل! إلا أنه من سوء حظه أنه كان معاصرًا لفخر الدين الرازي! حيث لم يكن له حضور قوي لدى الأشعرية، وخصوصًا لدى الأعاجم الشرقيين منهم؛ ولعل من أسباب ذلك؛ أنه، وتحديدًا في كتبه الكلامية؛ لم يكن ذا نفس تجديدي كما كان فخر الدين الرازي؛ فمؤلفاته الكلامية، مع أهميتها؛ لا تعدو أن تكون تقليدية لدرجة كبيرة، بالإضافة لكونه تصدى لتزييف أدلة أصحابه على آرائهم الاعتقادية، ولا نستغرب إن تم تجاهله من قبل أصحابه لأجل هذا الأمر، كما فعل المعتزلة مع صاحبهم أبي الحسين البصري (تـ436)؛ لكن هذا لم يمنع من وجود متأثرين بمنهجيته، وكان من أبرزهم جمال الدين ابن الحاجب المالكي (تـ646).
وقال الذهبي :
وكان الآمدي قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده، وصح عنه أنه كان يترك الصلاة، نسأل الله العافية.
وتقي الدين المقترح أقرب متكلمي هذه الطبقة إلى المنهجية الجوينية، وقد كتب شرحين، أحدهما على "كتاب الإرشاد"، لأبي المعالي الجويني والآخر على مختصره "العقيدة البرهانية"، للسلالجي الفاسي (تـ574). وشرح تقي الدين المقترح على "كتاب الإرشاد" سيكون من أهم أعماله. وهذا الشرح سيصبح من المصادر المهمة لدى السنوسي في بحوثه العقدية.
وللمقترح في الاعتقاد الأشعري متن وهو: "الأسرار العقلية في الكلمات النبوية"، وكان أول من تولى شرحه زكريا بن يحيى الإدريسي المالكي المتوفى بعد سنة 629 ه وذلك في كتابه: "أبكار الأفكار العلوية"، وهو كذلك –أي الإدريسي - أحد الشارحين لـ"كتاب الإرشاد".
وله كتاب "طوالع الأنوار من مطالع الأنظار " الذي كثرت الشروح عليه حتى أحصى بعض الباحثين منها قرابة (23) شرحًا، وقد اختار البيضاوي في هذا الكتاب قولًا غريبًا، وهو الرجاء بنجاة الكافر المجتهد في طلب الحق، والذي لم يصبه.
لعضد الدين الإيجي (تـ756) اجتهاد في مسألة من مسائل المذهب الكبرى، وهي مسألة القرآن، وهذا الاجتهاد مخالف لرأي أصحابه، وقد أورد رأيه هذا في رسالة مفردة،
لقد أولى السنوسي علم العقيدة عنايةً فائقة، حيث كان، كبعض أسلافه من الأشعرية، يرى أن التقليد في باب المعتقد لا يكفي للنجاة يوم القيامة؛ ولو كان ما قلده المكلف صحيحًا في واقع الأمر! ولكي يوجد السنوسي القدر الكافي للنجاة في باب الاعتقاد؛ انصبت جل اهتماماته على تحرير المعتقد الحق –حسب تصوره المخالف لعقيدة السلف- في أهم أصلين عقديين؛ وهما: الألوهية، والرسالة؛ فقسم الأحكام النظرية المتعلقة بهما إلى ثلاثة أقسام؛ وهي: الصفات الواجبة، والمستحيلة، والجائزة، وقد أقام السنوسي مؤلفاته العقدية على هذين الاعتقادين. وقد كتب؛ لترسيخ هذا المعتقد، عددًا من الرسائل، والتي كان الاختصار هو أبرز السمات عليها، ولم يمنعه ذلك من تنويع حجم هذه الرسائل، مراعاة منه لمستويات القراء.
اكتسحت منهجية السنوسي التأليفية، وآراؤه العقدية جل من سيأتي بعده من الأشعرية، وخصوصًا في المغرب الإسلامي والديار المصرية. لدرجة أن اعتمدت المعاهد الدينية الأشعرية الرسمية؛ كالأزهر في مصر، والزيتونة في تونس؛ مؤلفاته العقدية، بالإضافة إلى مؤلفات من تبع منهجيته؛ كمتن "جوهرة التوحيد"، لبرهان الدين إبراهيم اللقاني المالكي (تـ1041) وما كتب عليه من شروح، على سبيل المثال. وأصبحت هذه الرسائل هي المناهج المعتمدة لتدريس المعتقد الأشعري، على الأقل في العالم العربي. ولم يظهر بعد السنوسي ما يمكن أن نعده نقطة تحول أو تجديد داخل المذهب الأشعري، ولعل الاجتهاد العقدي الأشعري ختم به.
ومن الملاحظ أن أكثر الأشعرية الذي عاشوا ما بين القرن العاشر إلى القرن الخامس عشر؛ هم عالة على منهجية السنوسي المميزة في علم الاعتقاد، باستثناء أشعرية العجم الشرقيين؛ حيث لا يزالون يعتمدون على المتون المتقدمة على السنوسي في الدرس العقدي، بالإضافة إلى اشتغالهم بعلوم الفلسفة.
أولًا: المتكلمون، والأشعريون من ضمنهم، لما قرروا مسالكهم الاستدلالية، واعتقدوا بمقدماتهم الكلامية؛ أصبح لهذا أثرٌ على كيفية تعاطيهم مع النصوص الشرعية؛ فحاكموا هذه النصوص، وتحديدًا ما يتعلق بجانب صفات الإله، إلى آرائهم الطبيعية (= الجواهر والأعراض)؛ فمال أكثرهم إلى مسلك التأويل، ورجح بعضهم مسلك التفويض، وكل هذا لأجل صرف الأدلة النقلية عن ظاهرها؛ حتى لا ينتقض شيء من مسالكهم في الاستدلال العقلي، ولا يختل شيء من مقدماتهم في الطبيعيات؛ إذ إن الاطراد من شرط صحة الأدلة العقلية، والاطراد –كما سبق معنا- هو وجود المدلول عند وجود الدليل؛ فإن كان الدليل على حدوث العالم هو تجدد الصفات التي تقوم به؛ فكذلك سيكون الحال مع الإله؛ لو أُثبتت له الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة على سبيل المثال! ولأجل هذا قال المتكلمون بتأويل مفاهيم هذه الصفات أو تفويضها؛ وحتى تسلم –في نظرهم- النصوص الشرعية من معارضة القطعيات. لذا فهم يعدون هذا الإجراء من باب تقديم القطعي على الظني، فقد ثبت بالقطع –عندهم- أن تجدد الصفات دلالة على حدوث من يتصف بها؛ فاضطروا لأجل ذلك إلى تقديم القطعي (= مدلول الدليل العقلي) على الظني (= ظاهر الأدلة النقلية). إلا أن هذا لا يعني أن الأشعريين لا يحاولون –إلى حد ما- التوفيق بين العقل والنقل، أو أنهم يغفلون الأدلة النقلية حين الاستدلال على القضايا العقدية؛ فإن هذا تصور خاطئ؛ حيث إن كتبهم مشحونة بالاستدلال بالأدلة السمعية، بل إن بعض علمائهم لا يرى لبعض المسائل العقدية الكبرى التي تبناها مذهبهم؛ دليلًا يثبت صحتها، إلا ظاهر الأدلة النقلية؛ كمسألة الرؤية. ولا ننكر أن بعض المتأخرين منهم؛ جنح جنوحًا ظاهرًا في تقديم العقل، وتهميش النقل؛ حتى جاوز المعتزلة في ذلك؛ إذ لا يخفى علينا أن المتكلم الأشعري المشهور، فخر الدين الرازي (تـ606)، أحد الأئمة المؤثرين في المذهب، قرر قاعدة الاحتمالات العشرة، والتي تجعل الدليل النقلي ظنيًا حتى يسلم منها! ولم يسبقه أحد إلى تقرير هذه القاعدة. كما أنه تعرض للنقد من قبل بعض أتباع مذهبه بسبب هذه القاعدة المتطرفة، والتي يلزم منها تعطيل الاستدلال بالنصوص الشرعية على القضايا العقدية! بل عدها محمد زاهد الكوثري (تـ1371) من صنع بعض المبتدعة، وأن بعض المتفلسفين من أهل الأصول قال بها. ولعله يشير إلى فخر الدين الرازي (تـ606). لكننا في الحقيقة لا نعلم أحدًا سبق فخر الدين الرازي (تـ606) إلى تقرير هذه القاعدة بهذه الصورة. وهذا ما يؤكده عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (تـ1386). والحقيقة أن لفخر الدين الرازي (تـ606) طريقة تشكيكية في دلالات الأدلة النقلية على مطالبها. كما أن الأشعرية لا ترى إفادة خبر الواحد للعلم؛ وهم لا يحتجون به في بعض مسائل الاعتقاد الكبرى.
ثانيًا: معرفة الإله مكتسبة وليست فطرية، وبناء على هذه المقدمة أوجب الأشعريون، كغيرهم من المتكلمين، النظر على المكلف، بل جعله جمهورهم أول واجب عليه؛ لكي يتوصل المكلف إلى معرفة الإله بهذا النظر، لكن إيجاب النظر عندهم بالشرع، لا بالعقل؛ خلافًا للمعتزلة، ولن يتوصل المكلف إلى معرفة هذا الإله إلا عن طريق النظر في هذا العالم، الذي سيدل حدوثه -إن نجح بإثبات ذلك- على وجود محدثه . وكما تقدم معنا؛ فقد سعى المتكلمون إلى تقسيم هذا العالم تقسيمًا جامعًا منضبطًا؛ لكي يكون حكمهم عليه شاملًا لجميع أفراده؛ فقسموه إلى جواهر وأعراض. ثم استدلوا بما يطرأ على هذين القسمين من تغيّر على حدوث هذا العالم المركب منهما، وكون ذلك التغير وما يترتب عليه من حدوث؛ يدل، بالضرورة، على وجود محدِث أحدثه. والأشعريون يوافقون جمهور المتكلمين في هذه المسألة. ومما ينبغي التنبيه عليه؛ أن هناك خلافًا بين علماء الأشعرية في صحة إيمان المقلد، ولو كان ما قلده صحيحًا في واقع الأمر؛ حيث يرى بعضهم أنه غير مؤمن؛ لانعدام العلم لديه، ويرى البعض الآخر صحة إيمانه مع كونه عاصيًا بترك معرفة الأدلة، إذا كان قادرًا على النظر.
ثالثًا: ركز الأشعريون –كغيرهم من المتكلمين- على بحث توحيد الصفات بمفهومه العام، لذا حدث لدى المتكلمين، -والأشعرية معهم- قصور في بحث المسائل الاعتقادية العملية في كتبهم الاعتقادية؛ وذلك لأنها لا تتعلق لديهم بعلم أصول الدين بالأصالة. والوحدانية التي ركز الأشعريون في تقريرها؛ هي: وحدانية الذات، ووحدانية الفعل، ووحدانية الصفات . ومذهب الأشعريين في الصفات الذاتية –وهي أهم مباحث أصول الدين لدى الغالبية العظمى من فرق المتكلمين- يقوم على إثباتها، ويعنون بذلك إثبات زيادتها على الذات، أي إثبات صفات المعاني ، وأنها لا هي الذات ولا غيرها . وهذه الصفات عند معظم الأشعريين هي لا تخرج عن هذه الصفات في الغالب: (القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر) ، بالإضافة إلى القول بقدمها بشكل مطلق، ووحدتها، في مقابل نظرية المعتزلة فيها، والذين رأوا نفي صفات المعاني من الأساس، والاكتفاء بكون الذات –وهذا عند معظمهم- تقوم مقام هذه الصفات الزائدة، فليس هناك معان قديمة وموجودة تقوم بذات الرب، وتزيد عليها، كما تصور ذلك الأشعرية؛ إذ إن هذا مناقض تمامًا لمبدأ اختصاص الله بالقدم الذي دندن حوله المعتزلة. والمعتزلة تنازع الأشعرية في ذاتية بعض صفات المعاني؛ كالكلام؛ إذ هي من الصفات الفعلية لدى المعتزلة. وإن كانت مسألة (حدوث العالم) من أعظم مسائل الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين؛ فإن مسألة (صفات المعاني) هي من أعظم مسائل الخلاف بين فرق المتكلمين، وبالأخص بين المعتزلة والأشعرية. ولا يكاد يخلو كتاب واحد من كتب الأشعرية من إثبات صفات المعاني، والتنصيص على ذلك، والإشارة إلى مذهب المعتزلة المخالف لمذهبهم، هذا مع وجود مخالفات من قبل بعض علماء الأشعرية في هذه المسألة أو فروعها؛ إذ رأى بعضهم عدم وحدة بعض صفات المعاني وأنها تتعدد بحسب تعدد متعلقاتها، كما رأى البعض الآخر أن ليس لصفات المعاني أي وجود خارجي حقيقي، وإنما هي مجرد نسب وإضافات، وهذه آراء مخالفة لما عليه أكثر علماء المذهب الأشعري، وقد قوبلت بالرفض من الأغلبية. ومع أهمية باب الصفات في الاعتقاد الأشعري؛ إلا أن ذلك لم يمنع من حدوث خلاف كبير في كثير من مباحثه بين الأشعريين؛ كتقسيم الصفات، وما يثبت منها وما لا يثبت، وتحديد الثبوتي والسلبي... إلخ. كما أن مثبتي الأحوال من الأشعرية؛ يرون أن قيام صفات المعاني بالذات يترتب عليه صدور أحكامها، فقيام العلم بالذات؛ يترتب منه كون الله عالمًا، وهم هنا يفرقون بين المعاني وأحكامها، بينما يرى منكرو الأحوال من الأشعرية أنه لا فرق بين الأمرين؛ فقيام العلم بالذات، وهو نفسه كون الله عالمًا . ومسالك الأشعريين في إثبات الصفات الذاتية لله، لا تخرج عن ثلاثة مسالك ، وهي:
1- ما دل فعل الله على إثباتها، وهي: القدرة ، والعلم، والحياة، والإرادة.
2- ما دل وجوب اتصاف الله بالكمال على إثباتها، وهي: السمع، والبصر، والكلام، والبقاء –عند من أثبته صفة زائدة-.
3- ما دل الوحي على إثباتها لله، وهي: اليد، والوجه.
وهنا يختلف متكلمو الأشعرية عن متكلمي المعتزلة في طرق إثبات الصفات الإلهية؛ حيث نرى متكلمي المعتزلة لا يثبتون صفة للرب إلا إن دل عليها الفعل الإلهي ؛ بخلاف الأشعرية الذين يستخدمون طرقًا أخرى في إثبات الصفات الإلهية غير دلالة الفعل الإلهي.
رابعًا: لا يثبت الأشعريون الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة، والتي يعبرون عنها بـ(حلول الحوادث)؛ وسبب ذلك –كما سبق معنا- أنهم تصوروا أن أي تغيّر يلحق بالله تعالى –بمفهومهم لهذا التغيّر ومهما بلغ حجمه-؛ فهو يدل على حدوث من اتصف به. وقد كان من أهم أدلة المتكلمين على إثبات حدوث العالم؛ يرتكز على إثبات أن التغير دليل على حدوث من يتصف به، والعالم متغير؛ فهو إذًا حادث. والاطراد شرطٌ لصحة الدليل. ونظرة الأشعرية للصفات الفعلية بشكل عام: أن قسمًا منها يجعلونها من قبيل الصفات الإضافية؛ كالخلق، والقسم الآخر إما أن يؤولوها ثم يرجعوها إلى صفات ذاتية أخرى؛ كالغضب، والرضا؛ والتي يفسرون الأولى بإرادة الله للانتقام، والأخرى بإرادة الله للإنعام، ولا يخفى أن الإرادة صفة ذاتية قديمة عندهم، وإما أن يفسروها بصفة فعلية أخرى؛ كالرحمة التي فسروها –في أحد قوليهم- بالإحسان، وتكون، على هذا، صفة فعلية إضافية متجددة، وإما أن يثبتوها لكن مع تفويض مفاهيمها؛ كالنزول في قول بعض علمائهم. لذا سيلحظ الباحث أن الحديث في الصفات الفعلية لا يكاد يُذكر في عموم كتب الأشعرية؛ وسبب ذلك هو عدم وجود خلاف كبير بينهم وبين المعتزلة حول هذه المسألة. ويجب على الباحث أن يعلم أنه لا يوجد أحد من الأشعرية يثبت الصفات الفعلية الخبرية بمفهومها، مثل مذهب أهل الحديث فيها؛ لأن هذا يناقض أصول المذهب الأشعري الكبرى تمامًا، وبعض من أثبت هذه الصفات الفعلية الخبرية بلا تفويض من الأشعرية؛ كالاستواء والمجيء؛ فسرها بأنه فعل فعله الله في العرش والمخلوق؛ سمي لأجله مستويًا وجائيًا ! وليس في هذا التفسير إثبات لهذه الصفات مثل إثبات أهل الحديث لها.
خامسًا: وبناء على ما سبق؛ فليس في أبجديات الأشعرية -بل عموم المتكلمين- وجود صفة ذاتية فعلية؛ مثل أهل الحديث؛ فالصفة عند الأشعرية إما أن تكون صفة ذاتية قديمة محضة؛ كالكلام، وإما أن تكون صفة فعلية متجددة محضة؛ كالرزق، بينما يرى أهل الحديث جواز أن تكون بعض الصفات ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار آخر؛ كما في صفة الكلام والإرادة... إلخ. وبناء على هذا؛ قال الأشعريون بقدم صفة الكلام مطلقًا هذا من جهة، وبناء على رأيهم في حقيقة الكلام، وأنه يطلق على المعاني، دون الألفاظ من جهة أخرى؛ قالوا بأن حروف القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله النفسي القديم، وهي حادثة. ولم يتصور الأشعريون إمكانية القول بقدم الحروف، كما تصور ذلك السالمية، وبعض فقهاء الحنابلة، وبعض المحدثين؛ حيث إن هذا مخالف لضروريات المتكلمين من أن الشيء المسبوق بغيره هو حادث؛ فالسين من كلمة (بسم الله) متأخرة عن الباء، كما أن الحرف والصوت يحتاجان لمخارج، وكل هذا مما يدل على الحدوث لا القدم . علمًا أن أحد كبار علماء الأشعرية، وهو عضد الدين الإيجي (تـ756) خالف المذهب في هذه القضية الجوهرية، وأثبت الحرف، وجعله من حقيقة الكلام، وكتب رسالة مشهورة، أورد فيها رأيه حول هذه المسألة. وقد ذكر بعض علماء الأشعرية أن تاج الدين الشهرستاني (تـ548) سبق عضد الدين الإيجي (تـ756) إلى تبني هذا الرأي . لكن بعض المعاصرين من الأشعرية بيّن عدم صحة هذا الادعاء، وأن تاج الدين الشهرستاني (تـ548) لم يخالف المذهب في هذه المسألة .
سادسًا: الأشعريون يثبتون رؤية الله تعالى في الآخرة، لكنهم يقولون بأن هذه الرؤية لا تكون عن مقابلة! وتتهم بعض المصادر العدلية المتقدمة أبا الحسن الأشعري (تـ336) بأنه قرر هذه العقيدة من خلال الاعتماد على كلام لشيخه أبي علي الجبائي (تـ303)، شيخ البصريين من المعتزلة، يقرر فيه أن مثبت الرؤية مع عدم إثباته أن الله جسم أو في جهة؛ أنه لا يكفر بذلك؛ لأنه ليس في إثبات الرؤية بهذا المفهوم تشبيه الله بخلقه، ولا تجويره في حكمه، ولا تكذيبه في خبره . ومع هذا فالأشعريون يحاولون أن يدللوا على صحة رؤية الله بأدلة عقلية؛ فجعلوا الوجود هو العلة المصححة للرؤية، من غير اشتراط: سلامة الحواس، وعدم الحاجب، والمقابلة... إلخ؛ فالتزموا لوازم مناقضة للحس كل المناقضة! منها إجازتهم رؤية أعمى في الصين لبقة في الأندلس؛ لتحقق العلة، وهي وجود هذه البقة ! وقولهم هذا في الرؤية هو مما انفردوا به، ولم يوافقهم عليه إلا بعض طوائف الكلابية؛ كالماتريدية، لكن الماتريدية يجعلون المستند في هذه القضية –أعني رؤية الرب- أدلة السمع، لا أدلة العقل . وقد وافقهم على هذا المسلك بعض علماء الأشعرية.
سابعًا: للأشعريين حساسية مفرطة من قضية التشبيه، وهم ما يعبرون عنها في كتبهم بالصفات السلبية؛ فلذا –كما سبق معنا- سلكوا مسلكي التأويل والتفويض في التعامل مع نصوص الصفات الخبرية، هربًا من الوقوع في أي تشبيه حسب تصورهم. والمتقدمون من علماء هذا المذهب يكثرون في كتبهم من التنصيص على نفي مشابهة الله لجزئيات خلقه، فنراهم ينصون على نفي مشابهة الله للجوهر، وللعرض، وللون، وللطعوم... إلخ، وهذا مما يعبر عنه بالنفي المفصل، حتى أتى السنوسي (تـ895)، وصنّف هذه الصفات السلبية تصنيفًا علميًا، فأرجعها إلى خمسة أقسام كبرى، تعود إليها جميع مفردات الصفات السلبية. وبناء على هذا الموقف الصارم للأشعرية من هذه القضية الجوهرية؛ فعلى الباحث أن يتصور أي إثبات يقول به أحد علماء هذا المذهب؛ تصورًا جاريًا على أصول المذهب وقواعده الكلية، لا أن يتصور نصوص بعض علماء المذهب في الإثبات بما يعود على أصول المذهب بالنقض والإبطال؛ فإن هذا من الخلل في تحرير المذاهب.
فإثبات متقدمي الأشعرية ليس بمنزلة إثبات أهل الحديث لهذه الصفة، من حيث تحقيق الفوقية الذاتية، والتصريح بمباينة الله لخلقه، مع إثبات الحد، كما ينص على ذلك علماء أهل الحديث في كتبهم، إذ إن قدماء الأشعرية، وإن كانوا ينصون على إثبات علو الله، وأنه فوق عرشه، إلا أن إثباتهم هذا هو إثبات مجمل؛ حيث ينفون اللوازم بما يعود على هذه الصفة بالنفي ؛ حيث نجدهم لا يحققون الفوقية الذاتية، وينفون المباينة . ومن أثبت العلو منهم اكتفى بالقول بأن الله فوق سماواته على عرشه دون أرضه . وليس في هذا إثبات العلو الذي يثبته علماء أهل الحديث، وهذا الذي فهمه أحد علماء أهل الحديث المتقدمين، وهو أبو نصر السجزي (تـ444)، حيث نسب لأبي الحسن الأشعري (تـ336) أنه يعتقد أن القول بأن الله بذاته في السماء وأنه مباين لخلقه، أنها من الأقوال الكفرية ! مع أن أبا الحسن الأشعري (تـ336) يُنسب إليه إثبات العلو. والسبب أن القول بالمباينة مع القول بقدم الله يتضمن إبطال أصول المتكلمين الكبرى المجمع عليها بينهم؛ من كون التحيز دلالة على حدوث من يتصف به. لذا انتقد ابن عرفة التونسي (تـ803) القاضي عياضًا (تـ544) فيما نسبه إلى بعض المتكلمين من إثبات الفوقية الذاتية ! ولا ننكر وجود علماء من الأشعرية يثبتون العلو مع التنصيص على المباينة ، إلا أن هؤلاء من محدثي الأشعرية لا من متكلميهم، فلعلهم تأثروا في ذلك بأقوال أئمة الحديث حول هذه المسألة، مع أن أبا بكر البيهقي الشافعي (تـ458)، وهو من محدثي الأشعرية، وضح مراد متكلمي الأشعرية من إثبات العلو، وأنه لا يعدو كونه إثباتًا مجملًا . وكذلك، فقد ذكر أبو عبد الله محمد بن قاسم البكي الكومي (تـ916) توجيهًا، يتفق مع أصول المذهب الأشعري، لكلام من أثبت فوقية الله من علماء الأشعرية . وهذا أيضًا ما تدل عليه بعض المصادر العدلية المتقدمة، حيث نراها لا تنسب إثبات الجهة (= صفة العلو) إلى الأشعرية، وإنما تنسبها إلى الكرامية، كما أنها تحكي عن أبي الحسن الأشعري (تـ336) إثباته للرؤية مع نفيه للجهة ! ومهما يكن؛ فيجب على الباحث أن يكون حذرًا عندما يتعاطى مع مثل هذا الإثبات الذي يرد في بعض كتب علماء الأشعرية –خاصة المتقدمين منهم-، وأن يحاكمه إلى أصولهم الكلامية، وإلى تحريرات المتأخرين منهم، كما يجب على الباحث أن يأخذ بعين الاعتبار أن الأشعرية ينسبون أنفسهم إلى أهل الحديث، فلذا فقد نجد في كلامهم إثباتًا لبعض الصفات، وإن كانت مناقضة لأصولهم الكلامية، إلا أنهم لا يحققون معنى ما يثبتونه، وينفون لوازمه بما يعود على ما أثبتوه بالإبطال، ولعل هذا الذي دعا بعض العلماء إلى اتهام الأشعرية بعدم الوضوح عند حكاية عقائدهم، وأنهم يسلكون مسالك الزنادقة في الخفاء !
ثامنًا: الأشعريون من الفرق التي تثبت عموم مشيئة الله وخلقه لجميع للكائنات، فكل ما يقع في هذا الكون؛ فهو من تقدير الله ومشيئته وخلقه؛ فهم في هذا الموقف على الضد من طوائف القدرية (= العدلية)، الذين يخرجون أفعال العباد وما يُلحق بها عن كونها مرادة الله. إلا أن الأشعريين غلوا جدًا في إثبات توحيد الأفعال؛ فزعموا أن الله هو الفاعل الوحيد في هذا الكون، وأنه لا فاعل آخر معه؛ فاضطروا -لكي يسلم لهم هذا الرأي- إلى أن يسلبوا عن جميع الكائنات أي خاصية للفعل الحقيقي أو التأثير! وذلك خشية وقوع أي مصادمة لهذا الرأي –في نظرهم-. وأن ما نراه من تأثير لبعض المخلوقات؛ إنما هو مجرد اقتران عادي، لا حقيقة له في واقع الأمر، فإحراق النار للورق –مثلًا-؛ هو عبارة عن خلق الله لهذا الإحراق بعد ملامسة الورق للنار، وأن النار ليست مؤثرة بأي حال من الأحوال في هذا الحرق، بل هي والماء سواء في هذا الجانب!
تاسعًا: وبناء على ما سبق؛ ففكرة الكسب لدى الأشعريين ترتكز على نفس المفهوم السابق؛ فقدرة العبد لا تأثير لها بأي وجه في حصول مقدوره ، وأن الفاعل والمؤثر في الحقيقة هو الله، والإنسان فاعل على المجاز . وبعبارة أخرى؛ فالعبد مختار في الظاهر مجبور في الباطن. لذا عدت الأشعرية من فرق الجبرية ، بل صرح بعض علمائهم، وهو عبد القاهر بن طاهر البغدادي (تـ429)، بأن خلافهم مع الجهمية، والذين هم غلاة الجبرية، إنما هو خلاف في وصف العبد ! وإن كانت هذه المسألة من الأهمية بمكان إلا أن هناك اختلافًا بين قدماء الأشعرية في مدى حدود تأثير القدرة الحادثة؛ إذ إن بعضهم يرى أنها لا تؤثر في أصل الفعل؛ لكن بوصفه طاعة أو معصية، وبعضهم يرى أنها لا تؤثر إلا بانضمام القدرة القديمة، وهذا الأقوال قريبة من بعضها البعض بحسب بعض علماء الأشعرية . إلا أن بعض علماء الأشعرية تجرأ؛ فأثبت للقدرة الحادثة تأثيرًا في وقوع الفعل؛ وقد قوبل هذا الرأي بالرفض والاستنكار داخل المذهب؛ لمصادمته أهم أصول الأشعرية، بل تتهم بعض المصادر الأشعرية صاحب هذا الرأي بأنه اقتبسه من آراء الفلاسفة الإلهيين، وأن لوازم قوله لا تتفق مع مذاهب الإسلاميين (= المتكلمون) . والذي استقر عليه رأي الأشعرية هو نفي التأثير مطلقًا. وتعود جذور هذه المسألة، أو بعض أصولها وفروعها، بحسب بعض المصادر، إلى متكلمين متقدمين؛ كضرار بن عمرو الغطفاني (تـ حدود 190) ، والحسين بن محمد النجار (تـ حدود 220)؛ لذا فسنجد في بعض المصادر المتقدمة نسبة (الكسب) إلى فرقة النجارية ! ولا نملك ما يكفي من المصادر لتحرير موقف ابن كلاب البصري (تـ حدود 240) من هذه المسألة .
عاشرًا: لا يقول الأشعريون بأن للعقل أي مدخل للتحسين أو التقبيح في المسائل المرتبطة بالتكليف وأفعال الرب، وقد فرعوا على هذه المقدمة نفي الإيجاب على الله تعالى، وأنه لا يجب عليه فعلٌ معينٌ ؛ وبناء على هذا؛ لم يتحرجوا من القول بأنه يجوز أن يعذب الله الأتقياء ويثيب الأشقياء، وأنه لا يجب عليه أي شيء؛ سواء أكان إرسال الرسل، أم العوض، أم فعل الصلاح والأصلح... إلخ؛ خلافًا لخصومهم التقليديين من المعتزلة المنكرين لهذا الفرع؛ بسبب مخالفتهم للأشعريين في أصل المسألة. كما أن الأشعريين يرون أن أفعال الله غير معللة، وأنه لا يفعل لغرض، وهذا محل اتفاق بين جمهور علماء المذهب، وقد خالفهم بعض أئمة المذهب، فرأى أن بعض أفعال الله معللة بالأغراض .
حادي عشر: الأشعرية معدودة من فرق المرجئة؛ إذ إنهم يرون أن الإيمان هو تصديق القلب فقط، ومع ذلك فهم يرون زيادته ونقصانه، ويجوزون الاستثناء فيه، وبعض متكلميهم يرى عدم الزيادة والنقصان في الإيمان، وقلة من علمائهم من يوافق أهل الحديث في أن الإيمان هو تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
ثاني عشر: الأشعريون يوافقون أهل الحديث في أبواب السمعيات في جانب الإثبات، وإن كانوا يخالفونهم في طريقة الاستدلال لإثباتها؛ فهم يثبتون أشراط الساعة، وعذاب القبر، والميزان، والحوض، والصراط، والشفاعة... إلخ؛ لثبوت النص فيها، وعدم مخالفة هذا النص للعقل.
ثالث عشر: الأشعريون يوافقون أهل الحديث في أبواب الإمامة ومسائل الصحابة؛ حيث يقولون بإمامة الخلفاء الراشدين، ويجعلون طريق ثبوت إمامتهم: الاختيار، ولا يطعنون في الصحابة، ولا يفسقونهم، وإن كان قد ذكر بعض متكلميهم: أن من علمائهم من رأى أن القتال الواقع بين الصحابة يبلغ بهم إلى درجة الفسق! وإن كان عموم علماء الأشعرية يرون أن مسائل الإمامة ليست من مسائل علم العقيدة، وأنها أقرب إلى علم الفقه ؛ إلا أنهم اضطروا إلى بحثها؛ بسبب وقوع مخالفة شديدة من قبل بعض الفرق الأخرى في هذا الباب . لذا فنرى بعض المتون العقدية الأشعرية لا تذكر هذه المسألة.
هذه هي أهم الآراء الاعتقادية داخل المذهب الأشعري. كما وردت في كتاب (المصادر الأصلية المطبوعة للعقيدة الأشعرية) بشيء من التصرف، وقد تم الاستفادة بالنقل الحرفي من هذا الكتاب الجدير بالاطلاع والقراءة في جميع فقرات هذه الصفحة، وذلك لتميزه وثناء المتخصصين في الاعتقاد عليه إجمالًا.
وكتب المذهب الأشعري لم تقتصر على طرق هذه الآراء، بل تناولت غيرها من المسائل العقدية.