قبرص وفصول من العداء الصليبي للعالم الإسلامي (جزيرة قبرص بين الإسلام والنصرانية)مقالات

شريف عبدالعزيز

نبذة

قبرص وفصول من العداء الصليبي للعالم الإسلامي

(جزيرة قبرص بين الإسلام والنصرانية)

 

شريف عبدالعزيز

المصدر: ملتقى الخطباء، 12/ 10/ 2022.

تعتبر جزيرة قبرص أو قبرس من البقاع السحرية في العالم القديم والحديث، وذلك لموقعها الجغرافي الفريد الذي جعلها قنطرة بين الشرق والغرب، والإسلام والنصرانية، وتلعب أروع الأدوار في تاريخ الصراع الخالد بين العالم الإسلامي والعالم الصليبي.

تقع جزيرة قبرص وسط الركن الشمالي الشرقي من البحر المتوسط، بين خطي عرض 34°، 36° شمالاً، وخطي طول 32°، 35° شرقًا، وهي ثالثة جزر البحر المتوسط بعد صقلية وسردانية فمساحتها 3584 ميلاً مربعًا، وتقع على مسافة متعادلة بين آسيا الصغرى وبلاد الشام، وهذا يعني وقوع قبرص بين قارات العالم القديم الثلاث، وغير الموقع الجغرافي الخطير، تتمتع قبرص -أيضًا- بثروات طبيعية ضخمة خاصة معدن النحاس والغلات الزراعية المتنوعة مثل القطن وقصب السكر والزيتون.

تلك المميزات جعلت قبرص هدفًا للغزو الخارجي، بدأ بالاحتلال الفينيقي، ثم الإغريقي، ثم الفرعوني أيام تحتمس الثالث سنة 1500 ق.م، ثم الأشوريون، ثم المصريين مرة أخرى، ثم الفرس، فالمقدونيين فالبطالمة فالرومان وأخيرًا البيزنطيين، وقد أدرك المسلمون أهمية قبرص –مبكرًا- فغزاها معاوية -رضي الله عنه- سنة28هـ، وفتحها ولكن لم يستقربها؛ للحوادث المتقلبة في الدولة الإسلامية، فنكث أهلها عهدهم، فغزاهم مرةً أخرى سنة 34هـ، وأسكنها أهل بعلبك، واثني عشر ألفًا من أجناد الشام، فبنوا مدينة كبيرة، غير أن يزيد بن معاوية أجلى المسلمين منها سنة 62هـ بعد أن خاف عليهم من هجوم بيزنطي كبير، واكتفى أن يدفع أهلها الجزية، غير أن التجاذب الإسلامي البيزنطي على مصائر الجزيرة ظل محتدمًا لفترات طويلة، وأغار عليها المسلمون عدة مرات أيام هشام بن عبد الملك سنة 107هـ، وأيام الوليد بن يزيد سنة 125هـ، وأيام هارون الرشيد سنة 190هـ، وأيام المقتدر بالله سنة 297هـ، غير أن غزوات المسلمين المتكررة على قبرص لم يغير من علاقتها المضطربة بالدولة الإسلامية، ومع تولي الأسرة المقدونية لعرش الدولة البيزنطية؛ حدث تطور سريع على ساحة الأحداث، ونجح الإمبراطور نقفور الثاني في السيطرة على الجزيرة، واتبع سياسة محو أي أثر للوجود الإسلامي فيها، وذلك سنة 352هـ.

توقف المسلمون عن غزو قبرص، بل توقفوا عن غزو سواحل الدولة البيزنطية بوجه عام، ذلك أن الدولة الإسلامية لم تعد قادرة على القيام بمجهودات حربية كبرى بعد ظهور الدولة الفاطمية الخبيثة في المغرب ومصر، وسيطرة الدولة البويهية الخبيثة على مقاليد الخلافة في بغداد، وانتشار الصراع المذهبي بين السنة والرافضة، أما السلاجقة فرغم قوتهم وسلامة عقيدتهم؛ إلا إنهم كانوا قوة برية محضة لم يعرفوا ركوب البحر والمغامرة فيه، ورغم نجاح السلاجقة في إنزال الهزائم المدوية بالدولة البيزنطية، واقتطاعهم للعديد من أطرافها وأجزائها إلا إن قبرص ظلت في مأمن من فتوحاتهم الهائلة.

قبرص والحروب الصليبية:

ظلت قبرص تابعة للدولة البيزنطية حتى قدوم الحملات الصليبية المعروفة على بلاد الشام، ومنذ البداية وقف البيزنطيون موقفًا يغلب عليه الشك والعداء للصليبيين؛ لأسباب تتعلق بالخلاف المذهبي بين البيزنطيين الأرثوذكس والصليبيين الكاثوليك، وقد تأجج الصراع في أشد صورة بين الإمبراطور البيزنطي (مانويل كومنتين) والأمير الصليبي المشاغب (رينالد دي شاتيون) المشهور بأرناط، فقد أغار أرناط على قبرص؛ ليظهر بذلك قدرته على محاربة الإمبراطور، وارتكب مجازر فظيعة بحق القبارصة، وبالغ في التنكيل بهم حتى إنه كان يقطع أنوف القساوسة الأرثوذكس إمعانًا في التشفي والانتقام.

وفي سنة 580هـ، عين إمبراطور بيزنطة (أندرونيق الأول) حاكمًا على قبرص من أبناء عمومته اسم (إسحاق كومنتين) غير أن إسحاق لم يكد يصل إلى الجزيرة حتى استبد بالأمر، وقطع صلته بالقسطنطينية، وتلقب بإمبراطور قبرص، وخرجت قبرص من يد الدولة البيزنطية، في لطمة شديدة لهيبة الدولة الشرقية الكبرى، وكان إسحاق شديد الكراهية للصليبيين ومن أجل ذلك عمل على مد أواصر الصداقة مع صلاح الدين، بل خطا خطوات فعلية في عرقلة الحملة الصليبية الثالثة على عكا، وقطع عنها المؤن بصورة نهائية، ومنع نزول أي صليبي على أرض قبرص، وكان إسحاق يرمي من ذلك تكوين أسرة وراثية تحكم قبرص ويكون لها هيبتها ومكانتها بين الدول الكبرى، ولكن أحلام إسحاق تبخرت وذهبت أدراج الرياح عندما احتل ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد جزيرة قبرص سنة 586هـ في خلال حملته الصليبية على عكا، وقد اشترك في احتلال قبرص صاحب مملكة بيت المقدس الصليبية، وهي مملكة وهمية ،صارت لا وجود لها بعد تحرير صلاح الدين لبيت المقدس سنة 583هـ، واسم هذا الأمير (جاي لوزجيان) أو لوزينان.

وتقديرًا لمجهوداته في خدمة الحملة الصليبية الثالثة؛ قرر ريتشارد قلب الأسد منح حكم قبرص للأمير جاي لوزنيان، ويعتبر كثير من المؤرخين أن دخول قبرص دائرة الحروب الصليبية بعد استيلاء الصليبيين عليها هو أهم حدث وإنجاز حققته الحملة الثالثة، وبدأ تاريخ جديد للحركة الصليبية بعد أن كاد أن يطمسه بالكلية صلاح الدين، وذلك أن قبرص أصبحت -فيما بعد- أهم وأخطر بؤرة صليبية في البحر المتوسط، وستكون بمثابة الرافد الذي يرفد بقايا الوجود الصليبي بالشرق.

ملوك قبرص والعالم الإسلامي:

قامت دولة آل لونيان بجزيرة قبرص، وهي الدولة التي استمرت ما يقرب من قرنين ونصف (1192م – 1429م)-(588هـ -829هـ)، وأثرت في اتجاهات الحملات الصليبية تأثيرًا قويًا، وقامت قبرص بالمساعدات الكبيرة في الحملات الصليبية الخامسة والسادسة والسابعة، حتى إن ملك قبرص هنري الأول قد اشترك بنفسه في الحملة السابعة.

حدث تغير دولي كبير على ساحة الأحداث عقب الحملة الصليبية السابعة، تمثل في سقوط الدولة الأيوبية، وقيام الدولة المملوكية في مصر والشام كزعيمة للعالم الإسلامي المناضل ضد الحركة الصليبية، وتمثل أيضًا في انصراف ملوك أوروبا عن فكرة الحروب الصليبية وتخلي أغلب الدول والكيانات القديمة عن دعمها للحركة الصليبية، في حين بقيت قبرص وحدها تتزعم قوات الصليبيين، وتدعم مشروعاتهم وخططهم، لذلك فإن معظم الحملات الصليبية في العصور الوسطى المتأخرة لم تأت من أوروبا، بل قام بها ملوك قبرص من آل لوزنيان.

حاول سلطان المماليك "الظاهر بيبرس" فتح جزيرة قبرص؛ للقضاء على القلب النابض للحركة الصليبية، ولكنه لم يوفق، وعندما فتح الأشرف خليل عكا سنة 691هـ، وقضى على آخر وجود للصليبيين في الشام؛ حاول القبارصة الدفاع عن بقية الكيان الصليبي ولكنهم فشلوا في إيقاف السقوط النهائي، غير أن سقوط عكا قد جعل من قبرص قلعة البقايا الصليبية ومحطة التجارة للذين لا يريدون التجارة مع العالم الإسلامي مباشرة، وقد تولى ملوك قبرص ابتداءً من عهد هنري الثاني قيادة الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وقد وضع خطة باركها البابا (كليمنت الخامس) تقوم على فكرة إضعاف اقتصاديات دولة المماليك بحصارها تجاريًا وبحريًا تمهيدًا لغزوها واحتلالها، وبالتالي يسهل احتلال الشام والأماكن المقدسة.

غير أن أشهر ملوك قبرص وأشدهم صليبية وعداءً للعالم الإسلامي كان بطرس الأول حفيد هنري الثاني، وكان صاحب شخصية موغلة في العداء والكراهية للإسلام والمسلمين، مؤمنًا -لحد النخاع- بفكرة الحروب الصليبية، صمم منذ أوائل عهده أن يجعل من نفسه حامي المسيحية ضد الإسلام، وكان يخطط -منذ أمد بعيد- لمشروع صليبي ضخم؛ لذلك قام برحلة استغرقت نحوًا من ثلاث سنوات طاف خلالها على ملوك أوربا لإقناعهم بأهمية مشروعه، وضرورة الاشتراك فيها، وقد بارك البابا إربان الخامس هذه الجهود.

وفي سنة 767هـ؛ هجمت الحملة الصليبية التي يقودها بطرس الأول ملك قبرص على مدينة الإسكندرية في يوم جمعة والمسلمون في جوامعهم ودخلها بلا مدافع ولا ممانع وأوقع بأهلها مجزرة مروعة من جنس مجازر الصليبيين الأوائل في سواحل الشام، وظل طيلة أسبوع فيها يقتل ويأسر وينهب ويسلب، وكانت الإسكندرية ثغرًا كبيرًا عامرًا بالخيرات، وبلغت الوحشية بالقبارصة أنهم كانوا يقتلون المرأة ويذبحون ولدها على صدرها، وقد تناول المؤرخون تلك النكبة المروعة بمؤلفات منفردة وأطلقوا عليها ملحمة الإسكندرية، وارتجع العالم الإسلامي بأسره لهذه المذبحة المروعة، وكان لها ردود أفعال في كثير من دول العالم الإسلامي.

صمم المماليك على الانتقام من ملوك قبرص وتأديب هذه الجزيرة الصليبية وقطع دابر شرورها للأبد، وكان نظرًا لمقتل بطرس الأول سنة 770هـ على يد بعض رجاله، توقفت فكرة الانتقام قليلاً، ولكن سرعان ما اتضح أن مصرعه لم يغير من سياسة قبرص الصليبية تجاه العالم الإسلامي، غير أن كثرة الصراعات على كرسي الحكم بين أمراء المماليك جعل ساعة الانتقام تتأخر حتى سنة 827هـ حيث عهد السلطان المملوكي الأشرف برسباي.

 غزو المماليك لجزيرة قبرص:

لم يستطع المماليك أن يغفروا للقبارصة ما فعلوه بالإسكندرية، وأخذوا يترقبون الفرصة المواتية للانتقام، وقد أمر السلطان برسباي بإعداد الأساطيل اللازمة، حتى إنه قد أمر نائبه (يلبغا الخاصكي) بتشغيل كل من يعرف أن يمسك منشارًا في قطع الأخشاب وبناء السفن برسم غزو قبرص، ولما تكاملت الاستعدادات البحرية؛ أرسل برسباي ثلاث حملات متتابعة لغزو قبرص.

 الحملة الأولى: سنة 827هـ - 1434م:

وكانت على شكل سرية استطلاعية؛ لمعرفة مدى معاونة ملك قبرص (جانوس آل لوزنيان) للقراصنة المعتدين على السواحل المصرية والشامية، لذلك كان الأسطول المصري صغيراً، وقد اتجهت السرية إلى الشاطئ الجنوبي لقبرص بالقرب من ميناء (ليما سول)، واشتبكوا مع عدة سفن قبرصية وأغرقوها، ثم أغاروا على المدينة (ليما سول)، وهزموا حاميتها وتوغلوا في أنحائها، ثم عادوا إلى مصر، ومعهم قدر كبير من الغنائم والأسلاب، وكشفت هذه الحملة عن التعاون الوثيق بين قبرص وقراصنة البحر النصارى، وقد شاهد المسلمون بعض أوكارهم على سواحل قبرص، بل رأوا بضائع المسلمين المنهوبة، وعلى ضوء هذه المعلومات قرر برسباي إرسال حملته الثانية.

 الحملة الثانية: 828هـ/1425م:

وكانت أكبر من سابقتها عدة وعتادًا وأعدادًا، وبلغت قطع الأسطول أربعين قطعة معظمها من الحجم الكبير الذي يسمح بركوب الخيل والفرسان والجنود، وقد انطلقت الحملة من ميناء طرابلس في 30 يوليو، ووصلت إلى ميناء (كورباس) على الساحل الشمالي الشرقي لجزيرة قبرص، ثم تحركت الحملة إلى مدينة(فاماجوستا)، واستولوا عليها بسهولة، ورفعت الأعلام الإسلامية عليها، ثم أقلعت الحملة جنوبًا وفي الطريق اعترضها أسطول قبرصي أمام ساحل لارناكا حيث دارت معركة بحرية عنيفة انتهت بهزيمة القبارصة، بعدها نزل المسلمون إلى بر الملاحة وهزموا جيش ملك قبرص، ثم أبحروا إلى ميناء ليما سول جنوبًا؛ فاستولوا عليه، وقبل أن يواصل المسلمون زحفهم نحو العاصمة نيقوسيا، وصلت الأنباء إليهم بقدوم نجدة قوية من البندقية إلى قبرص؛ ففضل قائد الحملة الأمير سيف الدين جرياس الظاهري الرجوع إلى مصر بعد هذه الانتصارات الكثيرة والغنائم الضخمة تمهيدًا للجولة النهائية.

 الحملة الثالثة: 829هـ/1426م:

أعلن السلطان برسباي النفير العام في أنحاء دولته؛ للقضاء نهائيًا على قبرص الصليبية، واستجاب لندائه جم غفير من المسلمين حتى اضطر برسباي لرد الكثيرين منهم؛ لعدم وجود السفن اللازمة لحملهم، على الرغم من وجود أكثر من مائة سفينة حربية مجهزة من مختلف الأحجام والأنواع، واتجهت الحملة مباشرة إلى قبرص، واقتحموا مدينة ليما سول بعد قتال دموي عنيف، ثم توغلوا داخل الجزيرة باتجاه العاصمة نيقوسيا، وكان ملك قبرص (جانوس الأول) قد أعد جيشًا كبيرًا؛ للدفاع عن جزيرته وفي نفس التوقيت دار قتال بري وبحري في آن واحد، البري عند بلدة (خيروكتيا)، والبحري عند ساحل ليما سول، وكلاهما قد انتهى بانتصار حاسم للمسلمين.

اقتحم المسلمون العاصمة نيقوسيا ومن قصرها الملكي أعلن القائد العام للحملة الأمير تغري بروي المحمودي؛ أن جزيرة قبرص قد صارت من جملة بلاد السلطان الأشرف برسباي، وعادت الحملة إلى مصر ومعها ألوف الأسرى، وعلى رأسهم ملك قبرص (جانوس) وفي مشهد رائع بالبهجة والسرور والرضا والسعادة؛ اجتمع الناس من كل مكان؛ لمشاهدة أسرى قبرص وملكهم الذي قد أركب على بغل أعرج، وقد ألزموه أن يقبل الأرض عدة مرات بين يدي السلطان؛ لإذلاله، ومعاقبته من جنس عمله وعدوانه على المسلمين.

وهكذا انتقم المماليك مما جرى لأهل الإسكندرية وغيرها من سواحل العالم الإسلامي على يد القبارصة انتقامًا أكثر من رائع، وكان يومًا على الكافرين عسيرًا، وانتهت –للأبد- تلك الثورة الصليبية التي ظلت تحارب العالم الإسلامي وتحرض عليه لعدة قرون. 

 


  • مركز أصول