أيام في البرازيلمقالات

الشيخ حسين شعبان وهدان

المصدر: شبكة الألوكة، 28/ 8/ 2012م.

 

في بقعة نائية عن منازل الوحي المبارك وبلاد الإسلام، ترسو حضارةٌ قريبةُ العهد بالوجود، لا تربو على خمسة قرون إلا نزرًا يسيرًا، على أرض مفتوحة القلوب والأبواب لكل طارق بليل أو نهار.

بلاد يقول عنها قاطنوها: إنها جنة الله في الأرض؛ وذلك لأنها ملفوفة في عباءة من اللون الأخضر، الذي يكسوها طول العام، إضافة إلى وفرة أصناف النعيم.

إنها البرازيل التي تعِج بالمتناقضات من العادات، والألوان، والسلالات البشرية المتباينة، بل والأديان، والشرائع، والملل، التي تفصلها فواصل لا تعد في عالم الحقيقة شيئًا مذكورًا، فكلها -بعد الإسلام- قد جافت الحق، وضلَّت عن سواء السبيل.

بَيْدَ أن الشعب البرازيلي شعب ودود، له من الملامح العامة على المستوى الإنساني ما يتشابه به مع الشعب المصري إلى حد بعيد، إلا أن السلوك -بالطبع- متغير؛ لأثر التربية، والمعتقَد، والمناخ.

كانت لنا على هذه الأرضِ أيامٌ في الدعوة إلى الله -تعالى- بلغت ثلاثة أعوام على شاطئ الأطلسي في مدينة "سانتوس" الساحلية، المتجملة بأكبر وأطول حديقة في العالم، ولها من طرائف الجمال الطبيعي الموهوب من لدن الله الوهَّاب ما يَسحر الألبابَ.

وكم أفاض الله -تعالى- علينا من النعم والتكرمة، ما يجل عن الوصف؛ بحيث إن المُقِيم هناك كان يتقلب في النعيم والرغد إلى حد لا تعرفه عواصمُ كثيرة مشهورة في هذا العالم.

ورغم ذلك، فحامل الأمانة مشغول بها دائمًا، وكانت أمانتي مكلفة جدًّا على نفسي وكياني، إنها مسؤولية الدعوة، والهداية، والإفتاء، والتعليم، والتفاعل مع المجتمع؛ للقيام بالمهمة على قدر الطاقة، لمشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، ومحاولة جذب الوافدين إلى المركز الإسلامي "بسانتوس" للتعرف على الإسلام، وفوق هذا كله فالناس هناك يرون بلدي في محياي، وسمتي، ونطقي بسماحتها وثقافتها، وفهمها العميق للإسلام ومقاصده.

وأجمل الأشياء ذكرًا هو الحفاوة، والاحترام، والتقدير المكنون في قلوب أبناء الجالية هناك على العموم للداعية الأزهري؛ حيث إن دعاتنا لهم هناك بصمة وثيقة العهد بأول خطوات المسلمين هناك، وكان أشهر صادح بصوت الدعوة منذ سنين مضت، هو شيخنا وأستاذنا فضيلة الدكتور عبدالله عبدالشكور.. أثابه الله.

ومن صور المشهد العام البديعة هو أن المسلمين هناك يقدرون كلمة الدين وحكمه، تقديرًا لا يخطر بالبال، ولا يدور بالخيال، فترى الواحد منهم يسأل، ويستمع كأن على رأسه الطير، ثم لا يجادل، ولا يناقش، ولا يرد شيئًا مما علمه.

والداعية هناك ينوء بحمل أعباء ثقال، ولكنها من الوسائل التي تعينه على إبراز مواهبه، والتعرف على أنماط جديدة من المهارات الدعوية العملية، التي لا تفرض عليه غالبًا في وطنه؛ فقد كنا نعقد عقود الزواج والطلاق، ونغسل الموتى، ونشرف على دفنهم، ونقوم بالزيارة إلى منازل المسلمين في لقاءات منظمة، ونلتقي بهم في الأعياد والمناسبات الإسلامية، ونستقبل الوفود الزائرة من البرازيليين من المدارس، والجامعات، والهيئات، والأفراد، ونقوم بزيارتهم إذا طلبوا ذلك بعقد لقاءات مفتوحة عندهم؛ للحديث عن الإسلام، والرد عما يعتمل في أذهانهم من تساؤلات.

إضافة إلى ذلك، فالداعية في بلاد المهجر -بطبيعة عمله- متنقل بين المدن؛ إما للزيارة، أو الدعوة، أو لحضور المؤتمرات، أو لاستقبال شخصية كبيرة تزور البرازيل، أو للإشراف على شركات الذبح الحلال، وهذا كله -بالطبع- يستلزم شخصية فاعلة، متفاعلة، مؤثرة في المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه.

ومن الملاحظات الظاهرة في مدينة "سانتوس": أنك تلقى فيها كل الأخلاط من الجنسيات والأعراق المختلفة؛ كونها مدينة عالمية ساحلية، تأوي إليها السفن العملاقة لشحن السلع المسافرة إلى بلاد الشرق والغرب، وقد كان المسلمون من شتى بقاع العالم يؤمُّون المركز الإسلامي، فيرى الإمام في كل يوم وجوهًا جديدة ترتاد المسجد للصلاة، وخصوصًا في صلاة الجمعة والأعياد.

ومن يُمنِ الطالع للمسلمين في أرض البرازيل أنها أرض مفتوحة سهلة في المجال الدعوي، وطبيعة الشعب البرازيلي أنه شعب منفتح بطبعه، وعنده من الفضول الشيء الكثير، الذي يمكن به إقناعه والتأثير عليه، ثم إن الحرية الدينية مكفولة بامتياز هناك، ولا يتشابه أمرها مع أوروبا التي تتغنى بالحرية، وقوانينها تتناقض مع ذلك.

وبإمكان أي مسلم هناك أن يتحدث في الإذاعة المسموعة والمرئية، وللمسلمين والعرب ساعات معينة في البث الإذاعي ببرامج عربية ودينية، وبالفعل تقوم بعض الهيئات والمراكز الإسلامية بإصدار مجلات، أو عقد مؤتمرات، أو ندوات، أو حفلات، فالمناخ العام في الحرية الدينية مكفولٌ للجميع، وهذه فرصة ثمينة للمسلمين هناك يجب اغتنامُها قبل أن تتغلغل الأيادي المؤثِّرة عالميًّا، وتمكر مكرَها ضد المسلمين بالذات باستصدار قانون، أو فرض قيود، أو بصورة، أو بأخرى.

وعندما يصل الدعاة إلى هناك في أمثال هذه البلاد، كانت الدهشة تعقد ألسنتَهم من هذا الجو الجديد، واللغة الجديدة، والأنماط البشرية التي تميزها في عالم البشر؛ ثقافات، وعادات، وسلوكيات، ليس للداعية بها عهد من بعيد، أو قريب.

وكم كنت أتمنى أن ينتظم الدعاة المبتعثون -قبل بداية سفرهم- في معاهد لغات؛ لأخذ دورات سريعة ومعرفة شذرات تعينهم على التفاعل مع هذا الجو الجديد، مع دفعهم من قبل المسؤولين إلى مطالعة شيء عن ثقافة وجغرافية هذا القطر الذي سيكون سفيرًا للإسلام فيه، والحمد لله قد نما إلى العلم أن الوزارة قد بدأت ذاتيًّا في معالجة هذه المشاغل التي تربك المبعوثين طليعة أمرهم في هذه البلاد، وأرجو المزيد.

وهناك مجلات ودوريات معروفة، ولكنها نادرة جدًّا؛ مثل: "مجلة العروبة"، والتي كان يصدرها المركز الإسلامي بمدينة "سان باولو"، و"مجلة مكة"، التي يصدرها مركز الدعوة لأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي بمدينة "سان برناردو دو كامبو"، وسلسلة الكتاب الإسلامي من مدينة "سانتوس"، وبعض الدوريات المنشورة عبر دوائر الإنترنت: كمواقع مركز "التوباتيه"، ومركز "فوز دي جاسو"، و"برنا"، وقد اهتمت هذه المجلات والنشرات في مجملها في الفترة الأخيرة بالمنهج العلمي، وترك المجاملات، والاستغلال لها كمنابر موجَّهة فيما سبق، وخصوصًا أولئك الذين يستغلونها لمغازلة بعض الهيئات العاملة على أرض إسلامية؛ لإدراك بعض المآرب والمنافع التي لا تمت بأي نفع للمسلمين بصلة في أرض المهجر.

وأما المؤتمرات، فأمرُها عجب؛ حيث يستدعى إليها كلَّ عام نفسُ الوجوه تقريبًا؛ ليناقشوا عناوين علمية موغلة في التجافي عما يهم المسلمين المغتربين، وقد عاصرت على وجه المثال ثلاثة مؤتمرات: كان الأول عن: "الإسلام والآخر". والثاني عن: " الأنبياء في الإسلام". والثالث عن: "الغيب".

ويكاد السامع لهذه الأخبار يجزم أنها عقدت في عواصم إسلامية: كالقاهرة، أو الرباط، أو عمان، أو مكة المكرمة، ولم تعقد في بلاد الغربة.

وقد طالبت درج هذه المؤتمرات ممن يقومون ويشرفون على تنظيمها أن يهتموا بعناوين تفيد المسلمين، وتتدارك ما فات من حظ الدعوة ذاتها، وتعالج الأخطاء التي مرد عليها البعض دهورًا وهو لا يدري، أو البحث عن آلية تجمع بعثرةَ المسلمين الذين لا يجمعهم في البرازيل أيُّ رابط يرفع لهم في الناس صوتًا، أو يقيم لهم أودًا؛ فهم ناجحون أفرادًا، بينما هم فاشلون في تكوين مؤسسات قوية، أو آلية تزيح ركامَ الاتهامات المحفورة بأذهان الناس هناك عن العرب والمسلمين؛ من إرهاب، وتخلف، وامتهان قدر المرأة، وعدم التفاعل لتكوين نسيج عالمي يرسي قواعد الأمان المفقود على هذه الأرض، بدلاً من شهرة أهل العروبة هناك بأشياء لا وزن لها في عالم الفخر الحقيقي كبعض الأكلات والعادات الترفيهية.

هذا هو أميز ما يشتهر به العرب هناك، إضافة إلى أكثر ما يتميزون به من مواهبَ شخصية، وهي أنهم ذائعو الشهرة في التجارة.

طالبت بعقد مؤتمرات تبحث في تعيين مفتٍ عامٍّ للبرازيل التي تعادل جغرافيًّا نصف قارة إفريقيا كلها، يوحِّد كلمتهم، ويتحدِّث باسمهم، بدلاً من هذا التسابق المحموم بين المدَّعين والمنتفعين، وسعيت جاهدًا لهذا، وأقنعت بعض مديري المراكز الإسلامية هناك، ولكن الوقت لم يمهلني لإتمام الأمر.

مؤتمرات تبحث في حل مشاكل المتزوجين من برازيليات غير مسلمات، أو المسلمات المتزوجات من برازيليين غير مسلمين، أو تضع النواة الأولى لمدرسة إسلامية واضحةِ الملامح بالتعليم الإسلامي، على غرار المدارس الدينية غير المسلمة المبثوثة في عالمنا الإسلامي، وفي أكثر من قطر عربي مسلم.

مؤتمرات تضع اللبناتِ الأولى لتدشين قناة عربية في البرازيل؛ حيث إن الأغنياء العرب هناك لهم من الشهرة، والبريق، والجاه ما يمكِّنهم من ذلك، ولكن لا استجابة لهذا كله، بل وجدت من يبدي امتعاضًا واستغرابًا؛ لأن معظم القائمين برئاسة المراكز الإسلامية هناك تجار، وليس لهم من الرصيد للتخطيط للدعوة شيء؛ إنما هي خبرة اجتماعية وعصبية، وروابط تمكن من البقاء على رأس العمل الدعوى بلا موهبة ولا عطاء حقيقي، رغم أن ما ينفق على مركز واحد هناك يكفي لتنفيذ كل الخطط المنشودة للقطر كله في مجمله.

فمن يحمل مسؤوليةَ ذلك أمام الله -تعالى- يوم القيامة؟

وأكثر شيء طالبت به، وطرقت باب العديد من المسؤولين عندنا في مصر منذ سنوات، هو تكوين هيئة عالمية لوضع منهج عام لدعوة المغتربين، وتتكون هذه الهيئة -على سبيل المثال- من ثمانية علماء كبار مختارين من شتى أنحاء العالم الإسلامي، ولهم شأن وقدر وخبرة في المجال الدعوي بالذات، ومعهم لجان مختارةٌ بعناية وتدقيق، يضعون منهج الدعوة لكل قارة على حدة، أو على حسب رؤاهم.

ويكون منارًا ملزمًا يلتزم به الدعاة ورؤساء المراكز الإسلامية في الخارج، والسفراء، يبين لكل واحد منهم: صلاحياته، وشؤونه، ومآخذه، ومتاركه؛ لأن الصلاحيات بين كل هؤلاء المعنيين بالأمر متداخلة وغير واضحة المعالم، ثم إن الألوان والواجهات الدعوية تؤدي دورًا خطيرًا جدًّا في تشتيت المسلمين وغير المسلمين في الخارج، وواقعهم يعطي في بعض أحواله صورةً شوهاء، لا تعبِّر عن حقيقة الإسلام.

ومن جميل الأقدار على الكِنانة أنها بلد رائد، وكلمتها الفصل في أكثر الأحيان، وخصوصًا في جانب العلم الديني بأزهرها المصون، ووسطيتها المعهودة، ولبلدنا في ميدان المبادرات والإبداع الشيء الكثير؛ فلا غرو على مصر أن تتحمل مسؤولية قَدَرِها، وتنفق من حكمتها الدعوية بما حبا الله به رموزَها المسؤولين عن الدعوة في العالم، بحمل هذه الأمانة التي يفتقدها عالم الاغتراب بوضع منهج خاص للدعوة في بلاد الغربة.

ومن لطف المولى الكريم أنه أحاطني بعنايته، ودخل أكثر من أربعين نفسًا في الإسلام في مدة بقائي بمدينة "سانتوس"، ولي مع بعضهم اتصالات منتظمة حتى اليوم، وتعلم كثير من المسلمين والبرازيليين غير المسلمين اللغة العربية، منهم المدرسون، والمذيعون، والصحافيون، وطلبة الجامعات، وغيرهم.

والحمد لله في بدء وفي ختم.