أوزبكستان وحضارة الإسلام (2)مقالات


ترمذ:

مدينة مشهورة، على نهر جيحون، في أقصى جنوب "أوزبكستان" اليوم، وقد كانت "ترمذ" مدينة عظيمة زاخرة بمدارسها ومعاهدها وأسواقها، وصفها "ياقوت" في "معجم البلدان" بقوله: "ترمذ مدينة مشهورة من أمهات المدن، راكبة على نهر "جيحون"، من جانبه الشرقي، متصلة العمل بالصغانيان (وهي ولاية عظيمة في بلاد ما وراء النهر، متصلة الأعمال بترمذ) ولها قهندز (أي: قلعة عتيقة) وربض يحيط به سور، وأسواقها مفروشة بالآجر، ولهم شرب يجري من "الصغانيان"؛ لأن "جيحون" يستقل عن شرب قراهم"[1].

وقد كانت "ترمذ" تشتهر بصناعة السفن وصناعة الصابون.. وكانت تنافس مدينة "بلخ" في ذلك، وشاطرت "تِرمِذُ" بلادَ ما وراء النهر وخراسان تاريخَها السياسي حتى جاء التتار فدمَّرُوها تدميرًا كبيرًا.. وتحوَّل التتار بعد ذلك إلى الإسلام، واستعادت تِرْمذ مَجْدَها وبهاءها، وذكرها "ابن بطوطة" في "رحلته" وقال: إنها "مدينة جميلة كبيرة يعيش أهلها في رغد من العيش"[2]، وكان ذلك في القرن الثامن الهجري بعد التتار بقرن ونيف من الزمان.

ويُنسَب إليها الإمام الكبير "محمد بن عيسى بن سورة الترمذي" صاحب "السنن"، وقد تُوفي بترمذ سنة 279 هـ، أدرك كثيرًا من أئمة شيوخ الحديث وأخذ عنهم؛ كالبُخاري الذي قال له: "ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي"، وله أيضًا كتاب "الشمائل"، و"العِلل" في الحديث، وكتاب "الأسماء والكنى" في رجال الحديث، وكتاب "الزهد"، وكتاب "التاريخ".

 ومن علماء ترمذ "محمد بن علي بن الحسن الحكيم الترمذي" المتوفى سنة 320 هـ وله كتاب "نوادر الأصول في أحاديث الرسول"، وضريحه ما زال في "ترمذ" إلى يومنا هذا.

سمرقند:

مدينة ذات تاريخ ومجد قديم، كانت عاصمة مُلك "تيمور لنك" الذي كان يحكم أجزاء واسعة من العالم من خلالها، يقال: إنَّ ممن شارك في فتحها "قثم بن العباس" ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وضريحه بسمرقند حتى يومنا هذا، يسمونه (مزار شاه زندة)؛ أي: "مزار السلطان الحي"؛ لأن الشهداء أحياء عند ربِّهم يُرزَقُون[3].

ومعنى سمرقند: وجه الأرض، وكانت عاصمة إقليم الصغد على مرتفع تنصَبُّ إليها الجداول من نهر يُسمَّى "زرفشان"، وكان التنافس بينها وبين "بُخارى" عظيمًا حتى جاء "السامانيون"، وجعلوا عاصمتهم "بُخارى"؛ فغلبت "بُخارى" "سمرقند" في مظاهر الحضارة.

وقال "الحميري": "وهي كثيرة الخصب والنعم والفواكه... وفي المدينة ديار شامخة وقصور عظيمة، وقلما يكون فيها قصر ولا دار كبيرة إلا وفيها بستان ومياه متدفقة"[4].

وقد وصفها "ابن بطوطة" بقوله: "إنها من أكبر المدن، وأحسنها، وأتمها جمالًا، مبنية على شاطئ وادٍ يُعرَف بوادي القصارين، وكانت تضم قصورًا عظيمة وعمارة تنبئ عن هِمَم أهلِها"[5].

قال "القزويني": "وليس على وجه الأرض مدينة أطيب ولا أنزه ولا أحسن من سمرقند"[6].

ظلت سمرقند من حيث الرقعة وعدد السكان أولى مدن ما وراء النهر قاطبة حتى في تلك العهود التي كانت فيها بُخارى عاصمة للبلاد كما حدث في عهد السامانيين، وهذه المكانة التي نالتها سمرقند إنما ترجع قبل كل شيء إلى موقعها الجغرافي الفريد عند ملتقى الطرق التجارية الكبرى القادمة من الهند مارَّة ببلخ، ومن إيران مارَّة بمَرْو، ومن أراضي الترك، كما أن ما امتازت به المنطقة من خصب غير عادي جعل من الميسور لعددٍ هائلٍ من السُّكَّان أن يجتمعوا في بقعة واحدة.

أما عن علمائها فكُثُر، وهناك كتاب باقٍ إلى اليوم جزءٌ منه محقق اسمه "القند في ذكر علماء سمرقند"، ومؤلفه: نجم الدين عمر بن محمد النسفي (ت 537 هـ)، ذكر فيه المصنف تراجم لآلاف من علماء سمرقند![7]

ومن أهم أعلام سمرقند: "أبو منصور محمد بن أحمد السمرقندي": وهو فقيه حنفي له كتاب "تحفة الفقهاء"، و"أبو الليث نصر بن أحمد السمرقندي" المتوفى سنة 375 هـ صاحب كتاب "بستان العارفين وتنبيه الغافلين"، و"أبو منصور الماتريدي" المشهور.

ومن أعلامها "محمد بن عدي بن الفضل السمرقندي": نزيل مصر المُحدِّث المشهور، سمع من مُحدِّثي عصره في دمشق ومصر وغيرها، وانتفع به خَلْقٌ كثيرون، ومات عام 444 هـ.

وكذلك من أعلامها "أبو بكر أحمد بن عمر بن الأشعث السمرقندي": سكن دمشق مدة، وكان يكتب بها المصاحف من حفظه، واشتهر بقراءته للقرآن وتعليمه إياه، وسمع من مُحدِّثي دمشق، وتوفي سنة 489 هـ.

ومن أعلامها "شمس الدين السمرقندي": فيلسوف وأديب، ألَّف رسالةً في آداب البحث المعروفة بـ"آداب السمرقندي"، و"قسطاطس الميزان" في المنطق، توفي سنة 690 هـ.

ومن أعلامها "أبو الحسن علي بن الحسين الصغدي": أصله من إقليم "الصغد" الذي قصبته سمرقند، وهو فقيه حنفي، انتهت إليه رئاسة الحنفية، سكن "بُخارى" وولي بها القضاء، ومات بها سنة 461 هـ، وله "شرح الجامع الكبير" و"النتف" في الفتاوى.

ومن أعلام سمرقند الإمام "عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام التميمي الدارمي السمرقندي": أحد أعلام الحديث وحُفَّاظه، صاحب "سنن الدارمي" المشهورة، توفي سنة 255 هـ.

ومن أطبائها "بدر الدين محمد بن بهرام بن محمد القلانسي السمرقندي": وصفه "ابن أبي أصيبعة" في كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" بأنه مجيد في صناعة الطب، وله عناية بالنظر في معالجات الأمراض ومداواتها، وله من الكتب "كتاب الأقراباذين"[8].

وفي سمرقند آثار جليلة شُيِّد كثيرٌ منها في عهد "تيمورلنك"، ففيها ضريح الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وهو في ضاحية من ضواحي سمرقند، وفيها قبر "تيمورلنك" الذي يُعَدُّ آيةً في الفن المعماري الآسيوي.

واشتهرت سمرقند بصناعات كثيرة من أشهرها الكاغد، وهو الورق السمرقندي الذي انتقل سِرُّ صناعته من الصين، ثم من سمرقند شاع في العالم كله.

ومن مدارسها القديمة الباقية مدرسة "شيردار" وأُسِّسَت سنة 1619م، ومدرسة "طلا كاري" وأُسِّسَت سنة 1646م.

وفي المدينة مسجد جامع ضخم باسم "بيبي هانم" زوجة "تيمورلنك"، وقد بناه "تيمورلنك" تخليدًا لانتصاراته في الهند، وهو من أكبر مساجد العالم الإسلامي، وأكبر مسجد في آسيا الوسطى، وقد جلب "تيمورلنك" المعماريين والحرفيين المهرة من كل بلاد الشرق لإتمام بنائه، وجلب الأفيال من الهند لتساعد في النقل والحمل.

ومن أعظم من ملك سمرقند بعد "تيمورلنك" حفيده "أولوغ بيك"، وكان محبًّا للثقافة والفنون والعلوم والعمران، وأتى لها بالعلماء من كل حَدَبٍ وصَوْب، وكان هو نفسه عالمًا فلكيًّا ومدِّرسًا للرياضيات، وبنى مدرسة عليا للطلاب يدرسون فيها العلوم كافة، وبنى مرصدًا فلكيًّا ضخمًا ومُهِمًّا، اكتشف العلماء الروس ما تبقى منه سنة 1908 م، ورمَّمُوه بعد عام 1920 م، وبنوا بجواره متحفًا يحوي كتب الفلك النادرة.

وهي اليوم قد تغيَّرت بما استُحدِث فيها من مناطق صناعية ومبانٍ سكنية على نمط الطراز الروسي، وفيها صناعات متعددة، ومراكز للبحث العلمي، ومعاهد علمية وتجارية، وسكانها 400.000 بإحصاء سنة 1995 م، وهي ثاني مدن جمهورية أوزبكستان[9].

خِيْوَه (خوارزم):

وهو من البلدان العريقة، تنتمي غالبية أراضيه حاليًّا إلى "أوزبكستان"، ويطلق اسم "خوارزم" على المنطقة الواقعة على نهر "جيحون" وتجاورها شرقًا "بلاد الصغد" وقصبتها "سمرقند".

وكانت عاصمة "خوارزم" تُدْعى "الجرجانية" وهو تحريف عربي لاسمها التركي "كركانج"، وصفها "ياقوت الحموي" عندما زارها سنة 616 هـ بأنه لم يجد ولاية أكثر عمرانًا منها على الرغم من رداءة طقسها، وذكر أن أكثر ثمارها التوت الذي يتغذَّى عليه دود القز، ويستخرج منه الحرير الذي تشتهر به المدينة.

ومن مدن "خوارزم" الهامَّة "خِيْوَه" التي أصبحت أكبر مدن "خوارزم" في العصور المتأخرة، خاصةً بعد أن تحوَّل مجرى نهر "جيحون" عن "كركانج" في القرن السادس عشر الميلادي، فقامت "خيوه" عند مصَبِّ النهر الجديد، وعظُمَتْ مكانتُها حتى أصبحت هي العاصمة لهذا الإقليم.

ومن أهم علمائها: "محمد بن موسى الخوارزمي" واضع علم الجبر واللوغاريتمات، و"داود بن رشيد الخوارزمي" مُحدِّث شهير روى عنه الإمام البُخاري، ودرس علم الحديث على كبار علماء زمانه؛ مثل: الوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، وصالح بن عمرو، و"أبو الريحان البيروني" الباحث في الرياضيات والفلك، و"أبو بكر الخوارزمي" اشتهر بالأدب والشعر والكتابة، وانتقل إلى الشام وأقام بها، وخلَّد اسمه برسائله الأدبية المسجَّعة، وتُوفي بالشام عام 383 هـ.

ومن الأطباء "الشريف شرف الدين إسماعيل"، وكان الطبيب الخاص للسلطان "علاء الدين محمد خوارزم شاه" له "الذخيرة الخوارزم- شاهية" في الطب باللغة الفارسية في اثني عشر مجلدًا.

بلاد العلم:

وعمرت أوزبكستان - إلى جانب ما سبق - بالبلدان التي حفلت بالثروات الطبيعية والصناعات المختلفة والعلماء، ومنها "فِرَبْر" التي من أشهر علمائها "محمد بن يوسف الفِرَبْري" راوية صحيح الإمام البُخاري رحمة الله عليهما.

وأيضًا "خوجند" (خُجَنْدة) وهي من كُبْريات مدن ما وراء النهر، وتبعد عن سمرقند حاليًّا 184 ميلًا.

قال "السمعاني": "فتحت سنة ثلاث ومائة في خلافة "يزيد بن عبد الملك"، خرج منها جماعة من أهل العلم في كل فن، منهم "أبو زكريا يحيى بن الفضل الوراق الخجندي"، من كبار الناس، ممن جمع الآثار، وخرَّج كثيرًا، ورحل.."[10].

وكان بقرب سمرقند مدينة "كَش" (شهر سبز) كانت تُعَدُّ أعظم مدن الصَّغْد، وتدهورت على عهد السامانيين.

ومن مفاخرها "أبو إسحاق الكَشي" المشهور بالجود والكرم، ومن العجائب ما حُكِي عنه أن بعض أصدقائه شكا إليه سوء حاله وكثرة ديونه، فسأله أبو إسحاق عن مقدار دينه، ووزن في الحال، وقال: "اصرف هذا في دينك"، ثم وزن مثلها وقال: "اصرف هذا في مصالحة شأنك"، وجعل يعتذر إليه اعتذار المذنب، فلما ذهب الرجل بكى "أبو إسحاق الكَشي" بكاءً شديدًا، فسُئِلَ عن بكائه فقال: "بكائي على غفلتي عن حال صديقي حتى افتقر إلى رفع الحال إليَّ، والوقوف موقف السؤال!"[11].

 

[1] "معجم البلدان"، ياقوت الحموي، (2/ 26).

[2] "رحلة ابن بطوطة"، (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، ابن بطوطة، ط أكاديمية المملكة المغربية، 1417 هـ، (3/ 38).

[3] المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، د. محمد علي البار، صـ455.

[4] "الروض المعطار"، الحميري، صـ322، 323.

[5] "رحلة ابن بطوطة"، (3/ 35).

[6] "آثار البلاد وأخبار العباد"، القزويني، صـ535.

[7] علماء آسية الوسطى (التركستان) بين الماضي والحاضر، محمد بن موسى الشريف، ضـ68.

[8] المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، د. محمد علي البار، صـ 464.

[9] علماء آسية الوسطى (التركستان) بين الماضي والحاضر، محمد بن موسى الشريف، صـ67، 68.

[10] "الأنساب"، أبو سعد السمعاني، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، 1382 هـ - 1962 م، 2/ 327.

[11] "آثار البلاد وأخبار العباد"، القزويني، صـ55.