المصدر: موقع المسلم، 16 صفر 1425هـ.
سويسرا... مختبر التعايش بين الشعوب والثقافات، وبؤرة الثراء ومركز المال في أوروبا، البلد الذي لم يخض حرباً منذ ثلاثمائة عام تقريباً مما ساهم في ازدهاره وقوته واستقراره.
كل ذلك وغيره من الأسباب الأخرى، جعل الاتحاد السويسري يتمتع بجاذبية مميزة في عيون المسلمين المهاجرين إلى أوروبا.
وقد توجه العديد من المسلمين إلى الاستقرار في سويسرا لدوافع عديدة، فأكثر من نصفهم قصدها بحثاً عن فرص العمل، ثم كان اللجوء السياسي والإنساني دافعاً آخر، إذ إن واحداً على الأقل من كل ستة مسلمين في سويسرا لجأ إليها فراراً من معاناة تلاحقه في وطنه الأم، كما أن الجامعات السويسرية تمثل وجهة لآلاف الطلبة المسلمين، بالإضافة إلى الآلاف من رجال الأعمال القادمين من البلدان العربية والإسلامية.
أعداد المسلمين في سويسرا:
نتيجة تحول تيارات الهجرة إلى سويسرا تضاعف الوجود العددي للمسلمين فيها بشكل ملحوظ في العقود الثلاثة الماضية.
فبينما لم يتجاوز عددهم 16 ألفاً في عام 1970م، تطور بحلول عام 1980م إلى 56 ألفاً، ثم إلى 152 ألفاً كما أوضح التعداد العام للسكان في عام 1990م.
وتضم سويسرا حالياً حوالي 300 ألف مسلم، وهو ما يمثل 4.5 في المائة من مجموع السكان البالغ 7.250 مليون نسمة، ويشكل المسلمون بالتالي المجموعة الدينية الثالثة في سويسرا بعد الروم الكاثوليك والبروتستانت.
وإزاء التعددية العرقية واللغوية التي يتميز بها السويسريون، فإن مسلمي سويسرا يتوزعون أيضاً على أعراق ولغات وثقافات متعددة، فأقل من نصفهم ينحدرون أساساً من يوغسلافيا السابقة، ويمثل الأتراك والأكراد أكثر من ثلثهم، بينما يأتي المهاجرون من الوطن العربي وآسيا في المرتبة الثالثة من ناحية الحجم العددي، ويتوزع 60 في المائة من مسلمي سويسرا وخاصة من الأتراك على المقاطعات الناطقة بالألمانية، بينما يتوزع ثلثهم وخاصة من المغرب العربي على المقاطعات الناطقة بالفرنسية، وأما في المنطقة الناطقة بالإيطالية، فهناك 5 في المائة منهم.
ويرتبط الحضور الإسلامي بالمدن السويسرية الكبرى، ففي العاصمة بيرن يعيش 25 ألف مسلم، وهناك حوالي 17 ألفاً في زيورخ التي تعد أشهر مدينة في سويسرا، و11 ألفاً في لوزان التي أفتتح مركزها الإسلامي عام 1983م، وتستقطب جامعتها الكبرى عدداً كبيراً من الطلاب المسلمين، ويوجد قسم كبير من المسلمين في جنيف التي تعد مركز وجود الأفريقيين والعرب، وللسعودية خاصة حضور قوي في جنيف في مجال نشر الدعوة الإسلامية، كما يوجد المسلمون في مدينة شاف هاوزه على الحدود الألمانية، وفي لوغانو، وبال، ونيوشاتيل وغيرها.
المؤسسات الإسلامية في سويسرا:
رغم حداثة الوجود الإسلامي في أوروبا، إلا أن العلاقة بين سويسرا والإسلام قديمة، فقد كانت الدراسات الشرقية قناة هامة للاتصال بين المثقفين السويسريين والثقافة العربية والإسلامية، فأول ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم طبعت في مدينة بازل السويسرية عام 1543م، أي بعد أربعة قرون من إنجازها.
كما شهدت سويسرا إنشاء أول المراكز الإسلامية الحديثة في أوروبا، ففي عام 1961م أسس الداعية الإسلامي المصري سعيد رمضان مع العلامة محمد حميد الله، والشيخ أبو الحسن الندوي المركز الإسلامي بجنيف، والذي تحددت أهدافه الأولى في الاهتمام بالطلبة على وجه الخصوص على اعتبار أنهم نخبة المستقبل، حتى إذا ما عادوا إلى أوطانهم كانوا سفراء الصحوة ورواد الإصلاح والنهضة، ثم ركز المركز على الجالية المسلمة وأطفالها، فأنشأ مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس اللغة العربية، وترجم عدداً كبيراً من الكتب الإسلامية إلى لغات مختلفة، وأنشأ فريقاً رياضياً للجالية المسلمة أسماه نادي سلسبيل الرياضي، وأصدر المركز مجلة المسلمون التي ساهمت موضوعاتها في هداية العديد من الشباب إلى الإسلام، فكان المركز الإسلامي بجنيف نقطة إشعاع مؤثرة في سويسرا والبلدان المجاورة.
ومع حلول عام 1972م أقامت رابطة العالم الإسلامي المعهد الإسلامي الذي ضم ثاني المساجد البارزة في الاتحاد السويسري، وفي عام 1978م تم افتتاح منشأة جديدة هي المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف والمسجد الجامع التابع لها، وتقيم هذه المؤسسة مسابقة سنوية لحفظ القرآن الكريم هي الأولى من نوعها في أوروبا.
ومن المؤسسات الإسلامية الرائدة أيضاً في سويسرا، الجمعية الثقافية للنساء المسلمات، التي تعمل على توحيد المسلمات من أجل الارتقاء بعمل جماعي منظم، وتمثيلهن والدفاع عن مصالحهن، وتقديم صورة أحسن وفهم أقوم وأوسع للإسلام والمسلمين، وتقيم هذه المؤسسة العديد من النشاطات الهامة، كالمؤتمرات والندوات ومعارض الكتب واللباس الإسلامي، وهناك المؤسسة الثقافية للطفولة والشباب، التي تركز على بناء شخصية النشء المسلم، وتعليم الدين الإسلامي واللغة العربية، كما تعمل المؤسسة على مساعدة أبناء المسلمين على التفوق العلمي والمهني، وتسعى لتأهيل الشباب للقيام بدور إيجابي في مجتمعهم، ومن أجل تحقيق كل هذه الأهداف تنظم المؤسسة دورات تدريبية، ومحاضرات، ومخيمات صيفية، ومهرجانات، وعدا هذه المراكز والمؤسسات، ينتشر في سويسرا أكثر من مائة مسجد ومركز إسلامي بعد أن تعاظم الوجود الإسلامي فيها، ولم يعد المسلمون يعيشون في منطقة واحدة، وإنما ينتشرون في سائر المدن السويسرية.
المشاكل والتحديات:
لا تمثل النسبة العالية من الأجانب سمة تطبع المجتمع السويسري فحسب، وإنما مدعاة لقلق المواطنين أيضاً، فظاهرة الخوف من الأجانب حاضرة بقوة في سويسرا التي بدأت تشهد تفشي ظاهرة كراهية المهاجرين.
ولذلك فإن المسلمون يعانون من هذه النظرة السلبية إليهم بوصفهم أجانب، كما يعانون من التفرقة المبنية على خلفية دينية، وكان يمكن للأمر أن يظل مستتراً لولا أن دائرة رسمية سويسرية قد فضلت من جانبها التحدث بصوت مرتفع عما يجابه المسلمين في المجتمع الجديد.
ففي منتصف شهر يناير من عام 2000م، أطلقت المفوضية الاتحادية السويسرية المضادة للعنصرية تحذيرات مما وصفته بالتمييز الذي يمارس ضد المسلمين في سويسرا خلال بحثهم عن فرص العمل، أو في مواقع العمل، وانتقدت التفرقة التي تطغى على أسلوب التعامل مع الطلبات التي يتقدم بها المسلمون للحصول على المواطنة السويسرية.
وقد عانت بعض المعلمات والطالبات المتحجبات من مشاكل تتعلق بفصلهن من العمل بسبب لباسهن الإسلامي كما حصل مثلاً مع لوسيا دحلب المعلمة في إحدى مدارس جنيف، أو منعهن من الاشتراك في دورات تدريبية كما حصل مع ثلاث طالبات محجبات في إدارة المستشفيات الجامعية بـ جنيف أيضاً.
توحيد الجهود لمواجهة التحديات:
لمواجهة هذه التحديات وغيرها، كان لزاماً على المسلمين توحيد جهودهم في مؤسسات ترتقي بهم، عقيدة وسلوكاً، في واقع الحياة من خلال التفاعل الإيجابي مع المجتمع السويسري، وتعريفه بالإسلام، قيمه ومبادئه.
ولذلك فقد ظهرت في سويسرا مؤسستان إسلاميتان كبيرتان لتوحيد جهود المسلمين: الأولى، رابطة مسلمي سويسرا التي أسست عام 1994م، وهي منظمة ثقافية اجتماعية إسلامية جامعة، تهدف بصورة رئيسة إلى مساعدة المسلمين على ممارسة واجباتهم الدينية والحفاظ على هويتهم الإسلامية ورعاية شؤونهم الاجتماعية، ولذلك فهي تقيم المساجد والمدارس والأندية الرياضية والاجتماعية، كما تعرف بالإسلام ومبادئه.
وتعقد الرابطة مؤتمراً سنوياً يعنى بالجالية الإسلامية يتم خلاله تنظيم عدد من المحاضرات الدينية والندوات الهادفة التي تعرف المسلمين بدينهم وتذكرهم بواجباتهم نحو المجتمع الذي يعيشون فيه، وإضافة إلى ما سبق تقوم رابطة مسلمي سويسرا بتنظيم عدد من الدورات التربوية والشرعية من أجل تنمية الثقافة الإسلامية لدى أفراد الجالية الإسلامية، وتتبنى الدفاع عن حقوق المسلمين وقضاياهم، وتصدر الرابطة مجلة الوفاق ونشرة حصاد الإنترنت بشكل دوري.
أما المؤسسة الوحدوية الثانية، فهي اتحاد الجمعيات الإسلامية في سويسرا الذي أسس عام 1998م من أجل وضع كل المؤسسات والجمعيات الإسلامية العاملة في سويسرا تحت إطار موحد يساعد على تحقيق وحدة المسلمين وأهدافهم، وقد وضع الاتحاد أمامه مجموعة من الأهداف أبرزها: السعي إلى الاعتراف الرسمي بحقوق المسلمين، وتكثيف الاتصالات بالحكومة والتفاهم معها حول شؤون الجالية، والمطالبة بتدريس الإسلام في المدارس الحكومية، والتركيز على المناهج التعليمية والتربوية للناشئة.
المكاسب والإنجازات:
لقد سجلت الجالية الإسلامية في سويسرا عدداً من المكاسب الهامة في مجال الحقوق المدنية يتوقع المراقبون أن تؤدي إلى تعزيز الوجود الإسلامي في سويسرا في المدة القادمة تمهيداً لنيل الاعتراف الرسمي بالإسلام كأحد الأديان الرئيسة في البلاد، فقد نجحت الجالية الإسلامية في الحصول على موافقة رسمية من السلطات الاتحادية بتخصيص مقابر خاصة لها، وهو ما يعني أنه صار بإمكان المسلمين للمرة الأولى في تاريخ وجودهم بسويسرا، دفن موتاهم داخل البلاد دون اللجوء إلى إرسالهم إلى بلادهم الإسلامية أو إلى دول أوروبية مجاورة فيها مقابر للمسلمين، وهو ما كان يكبدهم أعباء وتكاليف كبيرة.
كما وافقت سلطات مقاطعة بيرن على السماح للجالية الإسلامية بأداء صلاة العيد في تجمعات عامة خارج المراكز والمصليات الخاصة التي كانت تقام فيها صلوات الأعياد.
فيما نجحت الجالية في إدخال مقررات من الدين الإسلامي في عدد كبير من المدارس ودور الحضانة بما يسمح للطلاب المسلمين بدراسة دينهم والتعرف على أحكامه وتعاليمه السمحاء، كما ساندت مطالب المسلمين بأحقيتهم في الحصول على إجازات من العمل أثناء الأعياد الإسلامية، وأصبح ذبح الحيوانات طبقا للشريعة الإسلامية مسموحاً به في عدة مناطق سويسرية.
إن المجتمع السويسري، مجتمع ناضج يتميز بطبيعته الجبلية المحافظة، وهو بالتالي يمكن أن يتجاوب مع مطالب الجالية الإسلامية التي تحرص على المحافظة على مجتمعها السويسري كحرصها على دينها وعقيدتها، فالمسلمون في سويسرا هم مواطنون ينشرون دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويساهمون في تحقيق المزيد من الأمن الاجتماعي، ولذلك فإن الاعتراف الرسمي بالإسلام هو مطلب عادل للجالية الإسلامية التي يتجاوز عدد أفرادها 300 ألف مواطن، والتي تعد نشاطاتها مصدر فخر لسويسرا وإشعاع نور يشرق على أوروبا كلها، فهل يصبح الإسلام ديناً رسمياً في سويسرا قريباً؟... هذا ما نتمناه.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.