الاحتلال الهولندي لإندونيسيامقالات

أحمد الظرافي

المصدر: مجلة البيان، ع 393، 29 ديسمبر 2019م.

 

«إن تبسُّط الأمة الهولندية في المشرق، لم يكن المقصود منه مجرد المكاسب المادية، بل أكثر ما قصدته هولندا بذلك، هو نشر فضائل النصرانية». (ناظر المعارف الهولندية في مؤتمر المستشرقين في ليدن عام 1931م).

أولاً: إندونيسيا الأرض والإنسان:

عرفها العربُ المسلمون بعد الإسلام، وكانوا يطلقون عليها (جزر المهراج)، أو (الجاوي). وعرفت في زمن الكشوف الجغرافية الصليبية، باسم (جزر الهند الشرقية). كما عرفت بأسماء أخرى، قبل أن تُعرَف في منتصف القرن 19، باسمها الحالي (إندونيسيا) الذي يتكون من مقطعين): (إندو): وتعني الهند، و (نيسيا): وتعني جزر، وعليه فإن (إندونيسيا)، تعني: جزر الهند. وهي عبارة عن أرخبيل عظيم في جنوب شرقي آسيا، يتكون من13677) ) جزيرة، منها (6044) جزيرة مأهولة. وهذه الجزر تتناثر على سطح المحيطين الهادي والهندي، على امتداد خط الاستواء، وتشكل جسراً بين المحيطين طوله 5100 كم. كما أنها تشكل جسراً آخر، بين قارتي آسيا شمالاً، وأستراليا جنوباً، لمسافة 1900 كم. وتبلغ المساحة الكلية لهذه الجزر زهاء مليوني كم2. ويحدها من الشمال بحر الصين الجنوبي، ومن الشمال والشرق المحيط الهادي، ومن الجنوب والغرب المحيط الهندي. وأقرب البلاد إليها سنغافورة وماليزيا في شمالها، والفلبين في شمالها الشرقي، وأستراليا في جنوبها الشرقي. وتعتبر إندونيسيا أكثر دول العالم الإسلامي سكاناً، حيث يبلغ عددهم في وقتنا الحاضر، زهاء 270 مليون نسمة، منهم 86% مسلمون، 10% نصارى (بروتستانت وكاثوليك)، 2% هندوس وهم يتركزون في جزيرة بالي، 1% بوذيون، والنسبة الباقية وثنيون. وهناك أيضاً جالية عربية، وأغلبها حضرمية، وأيضاً أقلية أوروبية، وبخاصة في جاوة.

وأهم جزر إندونيسيا:

جاوة: وتبلغ مساحتها 131500 كم2، ويعيش فيها 65% من السكان، وهي (أجمل بلاد الله وأغناها، ربيع دائم، وخصب عميم، وخضرة لا بداية لها ولا نهاية)، وأهم مدنها جاكارتا (العاصمة)، وسورابايا، وباندونج، وكوكجاكرتا (كوكجا)، وسمارانغ، وغيرها.

وسومطرة: وتبلغ مساحتها 430000 كم2، وهي الثانية من حيث عددُ السكان، وإن كان سكانها قليلين مقارنة بمساحتها، وفيها قامت سلطنة (أتشيه)، المجاهدة الشهيرة، التي زارها الرحالة الطنجي ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري، وما تزال (أتشيه) محافظة على تراثها، واستقلالها الذاتي، وهي اليوم، أكبر مركز لتجمع المسلمين في إندونيسيا، وإن كانت تطالب بالانفصال عنها، وأهم مدن سومطرة، ميدان، بالمبانغ، بادنغ.

وجزيرة بورنيو (كيليمنتان): وهي أكبر جزر الأرخبيل، وتبلغ مساحتها 746000 كم2، تحتل المنطقة الإندونيسية، منها 532000 كم2.

وسولاويزي (سيلبس): ومساحتها 185000 كم2. ويعود سكان إندونيسيا في أصولهم العرقية، إلى الجنس الملاوي، الذي ينتشر في الجزر المجاورة أيضاً، كجزر الفلبين، والملايو، وحتى مدغشقر في جنوب شرقي إفريقيا، وهذا الجنس يتميز بشكل عام بالطيبة، والتواضع، والشعور المرهف، والنظافة، والمثابرة، وهو أكثر شعوب الأرض إقبالاً على الإسلام وحباً له وحماسة. ويتحدث سكان إندونيسيا بحوالي 300 لهجة، واللغة الرسمية الحالية هي (باجاسا إندونيسيا)، وهي فرع من اللغة الملاوية، وفيها ألفاظ عربية كثيرة. وتتميز جزر إندونيسيا بغزارة الأمطار، والرطوبة العالية، والحرارة المرتفعة، والتربية الخصبة، وكثرة الأنهار والغابات والجبال والبراكين والزلازل. وهي أغنى بلاد الله بالثروات والموارد الطبيعية كالمطاط، والشاي، والسكر، والبن، وزيت النخيل، وجوز الهند، وفول الصويا، والكتان، وغيرها. وفيها جميع أنواع البهارات، والعطـور، وما لا يحصى من أنواع الفواكه والخضروات، ولذلك كانت محط أطماع القوى الأوروبية الاستعمارية، منذ بداية العصر الحديث وحتى اليوم، وكان الصراع عليها شديداً بين البرتغاليين، والإسبان، والهولنديين، والإنجليز، قبل أن تظفر هولندا بهذا الصيد الثمين وحدها. علماً بأن مساحة هولندا تساوي 1/50 من مساحة إندونيسيا، وشعبها لا يساوي 4% من شعب إندونيسيا.  

ثانياً: الإسلام في إندونيسيا:

لا يعرف بالتحديد تاريخ انتشار الإسلام في إندونيسيا، وهناك عدة نظريات حول وصوله إليها، أقربها للصحة أن الإسلام وصل إلى شواطئ سومطرة في القرن الأول الهجري؛ فقد كانت هذه الجزيرة حلقة وصل في تجارة ذلك العصر، بين الهند، وفارس، والجزيرة العربية، وبين الصين، التي كانت تتردد إليها سفن العرب المسلمين التجارية في العصر الأموي، حيث كانت تربطهم علاقات تجارية مع الصينيين، وكان يقيم في (كانتون) جالية عربية مسلمة، قوامها زهاء مائة ألف شخص وقتذاك، وقد استطاع الإسلام أن يشق طريقه في باقي أنحاء الجزيرة، التي كانت تغلب على أهلها الصبغة البرهمية الهندوسية، عن طريق الحكمة، والموعظة الحسنة، وحسن المعاملة، والعلاقات الاجتماعية، وقامت في شمال سومطرة أول سلطنة إسلامية في إندونيسيا، بل في جنوب شرقي آسيا كله، في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وهي مملكة (بيرلاك). وفي مطلع القرن السابع الهجري قامت مملكة (آتشيه) الإسلامية القوية في شمالي سومطرة، وكان أول حكامها هو السلطان جيهان شاه، وكان قد قدم إلى سواحل آتشيه داعية إلى الإسلام، فاستجاب له الكثيرون، ولقي منهم تقديراً عظيماً، فتزوج أميرة من بنات أمرائهم، ونصبوه ملكاً عليهم، وتلقَّب بلقب «سري بدوكا (أو بدوحا) سلطان»، وعن طريق هذه المملكة انتشر الإسلام ومعه اللغة العربية بصورة كثيفة ومنظمة، وعمَّ أنحاء كثيرة من جزيرة سومطرة، وأصبحت حصناً حصيناً للمسلمين بعد سقوط ملقة بأيدي البرتغاليين عام 1511م. وفي القرن 15، ظهرت مملكة (مينانجكابو) وسيطرت على جزء من الجزيرة. وبرغم أن هذه العشائر كانت معقلاً للهندوكية، إلا أن الإسلام لقي تجاوباً عظيماً من قبل كثير من أهلها، واستطاع أن يواجه مختلف التحديات التي واجهته، وتأصل في قلوب هذه العشائر بقوة، ولذلك كانت مقاومتها لجهود المستعمرين والمبشرين، عنيفة شديدة. ومن جزيرة سومطرة انتقل الإسلام إلى جاوة في القرن 13 على أيدي الدعاة الذين اشتهروا بلقب (أولياء الله التسعة)، والذين استقروا في بداية الأمر في مدينة ديماك الواقعة في شمال شرقي سمارانج، وكان هؤلاء الدعاة يبدؤون مهمتهم الدعوية ببناء المساجد، وكان أولها مسجد ديماك، الذي ما يزال قائماً. وتأسست في هذه المدينة، أول سلطنة عربية في جاوة، وهي سلطنة (ديماك)، وأول ملوكها رادين باتاه (عبـد الفتاح). وفي القرن 16، وصل المد الإسلامي في جاوة ذروته بتحالف سلاطين المدن الساحلية للقضاء على مملكة (ماجاياهيت) الهندوسية في الداخل، فتم القضاء عليها تماماً عام 1526م، واعتنق العديد من أمرائها الإسلام، وقامت على أنقاضها عدة سلطنات إسلامية، أشهرها سلطنة (متارام) في وسط جاوة، وسلطنة (بانتام) في غربها. هكذا انتشر الإسلام (الصوفي) في جزيرتي سومطرة وجاوة، وترسخت تعاليمه في نفوس الملايين. ومن جزيرتي جاوة وسومطرة انتقل إلى بقية جزر الأرخبيل الإندونيسي عن طريق التجار، وبخاصة الحضارم، وعن طريق الجهاد بعد ظهور الممالك الإسلامية، حيث قامت في جزيرتي بورنيو وسولاويزي وغيرهما من الجزر، العشرات من السلطنات الإسلامية المستقلة عن بعضها بعضاً، والتي قضى الهولنديون على نفوذها السياسي فيما بعد، فيما قضوا عليه من السلطنات الإسلامية في إندونيسيا.              

ثالثاً: الاحتلال الهولندي لإندونيسيا

هولندا دولة صغيرة في غرب أوروبا، لا تتجاوز مساحتها 41.500 ألف كم2، كانت جزءاً من الإمبراطورية الإسبانية، وبعد ظهور حركات الإصلاح الديني في أوروبا في القرن 16، اعتنق الهولنديون البروتستانتية الكالفينية، وأعلنوا الثورة ضد الإسبان الكاثوليك، وتوَّجوا ثورتهم بإعلان استقلالهم عام 1581م، وبعد ذلك صارت البحـار ميـداناً للحـروب بين الكاثوليك (الإسبان والبرتغاليين)، والبروتستانت (الإنجليز والهولنديين)، واستطاع الإنجليز أن يحطموا الأسطول الإسباني الشهير (الأرمادا)، عام 1588م في بحر الشمال بمساعدة السفن الهولندية، وهو ما فتح المجال أمام الأسطول الهولندي لشق طريقه، في البحار الجنوبية والشرقية للعالم الإسلامي، والوصول إلى شواطئ جاوة، عام 1596م، ونظراً لجشع التجار الهولنديين، فقد تم تأسيس (شركة الهند الشرقية الهولندية) الاستعمارية عام 1605م. «ولا يغرك لفظ (شركة)، فإنه في الحقيقة جيشٌ غازٍ مسلح، مهمته السلب والنهب». وقد منحت الحكومة الهولندية لهذه الشركة حق عقد اتفاقيات مع الملوك والسلاطين، ومنها اتفاقيات الحرب والسلام، وإقامة القلاع، وإنزال العقوبات، وتعيين المحافظين وقواد الجيش والمسؤولين، فكانت الهيئة الإدارية للشركة، تتمتع بصلاحيات دولة. وكان وصول الهولنديين إلى المنطقة، بعد وصول البرتغاليين إليها بحوالي تسعين عاماً، وكان البرتغاليون آنذاك قد طغوا وبغوا، ومثَّلوا الحقد الصليبي على أصوله، وبخاصة في معاملتهم للمسلمين، فنفرت منهم قلوب العباد، واستثاروا المسلمين ضدهم، وعند وصول الهولنديين إلى المنطقة لعبوا دور المخلِّص، فقاتلوا البرتغاليين، واستطاعوا أن يهزموهم، وأن يخرجوهم من جزر الهند الشرقية، والسيطرة على قلاعهم، بمساعدة أهالي المنطقة، ومن ثَمَّ الاستئثار بهذا الصيد الثمين، وأخذت شركة الهند الشرقية الهولندية تمارس سلب ونهب الثروات الإندونيسية، وتمتلك الأراضي، وتقيم القلاع، وتقود الجيوش والأساطيل باسم التجارة، حتى عام 1800م عندما أخذت الحكومة الهولندية بزمام الأمور بنفسها.

وقد جوبه الغزو البرتغالي ثم الهولندي لإندونيسيا بمقاومة شرسة من قبل المسلمين منذ وصولهم إلى شواطئ هذه الجزر، وكانت سلطنة (آتشيه) في سومطرة هي التي رفعت راية الجهاد ضد البرتغاليين، بعد أن قضوا على سلطنة ملقة الإسلامية عام 1511م، وكان شأنها كذلك إزاء الهولنديين الغزاة، فقد ردتهم على أعقابهم مراراً، ولكن الهولنديين استطاعوا في نهاية المطاف أن يخضعوا كل السلطنات الإسلامية في إندونيسيا واحدة بعد الأخرى، تارة عن طريق القوة، وتارة عن طريق الغدر والمكر والدهاء، وتارة عن طريق ضرب السلطنات بعضها ببعض، وتارة عن طريق عقد معاهدات الصداقة مع السلطنات القائمة، والتي كانت تنتهي عادة بالاحتلال. وبعد ذلك تخلل الاحتلال الهولندي للبلاد نشوب ثورات عديدة ضدهم، قادها علماء المسلمين السنة، أشهرها ثورة الشيخ (تورونو جويو) في جاوة عام 1676م، التي أقضت مضاجع الهولنديين وسلطان ماتارام الخائن (منكورات). وثورة الشيخ (ديبونجورو) في جاوة أيضاً عام 1825م، التي كبدتهم خسائر فادحة، ولم يتمكنوا من إخمادها إلا عام 1830م بعد اعتقال الشيخ أثناء المفاوضات. وتزامنت هذه الثورة، مع ثورة قوم بدري (أي الجمعية البيضاء) في سومطرة، بقيادة الشيخ مصطفى سحاب، التي استمرت من عام 1821م إلى عام 1837م. ولم تكد هذه الثورة تنتهي حتى استأنفت سلطنة (آتشيه) الجهاد ضد الهولنديين، بقيادة إبراهيم منصور شاه حتى عام 1874م، ثم رفع الراية تنكو عمر، حتى قتل عام 1899م، ولكن المقاومة استمرت حتى عام 1904م، عندما دخلت (آتشيه) تحت الحماية الهولندية، وهنا فقط استكملت هولندا السيطرة على الأرخبيل الإندونيسي.

رابعاً: السياسة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا:

لم يكن الغزو الهولندي لإندونيسيا لأجل نهب الموارد والثروات فحسب، ولكنه كان أيضاً غزواً صليبياً لتحويل المسلمين إلى النصرانية، ولذلك فقد قامت السياسة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا، على الآتي:

الاستغلال الاقتصادي والاستبداد السياسي:

عمد الهولنديون إلى نهب ثروات إندونيسيا الضخمة، وأنشؤوا مزارع أداروها بأنفسهم لزراعة المحاصيل التي تحتاجها أوروبا، كالبن، والمطاط، والشاي، والقرفة، وفرضوا العمل القسري على السكان، الذين كانوا ينظرون إليهم كالبهائم، وكانوا يسمونهم الأقزام احتقاراً لهم، وتسببت سياستهم الاقتصادية المجحفة في حدوث مجاعات، مات في إحداها 100.000 نسمة بسيمارانج وحدها، بين عامي 1849 - 1850م.      

وعلى حساب بؤس ودماء عشرات الملايين من هؤلاء السكان، صنعت هولندا الرفاهية لشعبها، الذي لم يكن يتجاوز 2.000.000 نسمة، فكانت أمستردام، ونوتردام خلال الفترة (1600 - 1800م) الأغنى، والأجمل، أوروبياً. وقد عمل الاحتلال الهولندي على تركيز جهوده في جاوة، ذات الثقل السكاني الكبير، وقلب الإسلام النابض بالمقاومة، وجعل قلعة (بتافيا) مركزاً له، عام 1619م، وترك باقي الجزر تحت حكم السلاطين المحليين المرتبطين به بمعاهدات، وقطع علاقة المسلمين بسائر الحكومات الإسلامية.

واعتمد الاحتلال في تثبيت أقدامه على الأقليات البوذية، والهندوسية، والوثنية، والباطنية، واتخذ منها أنصاراً، وكوَّن منها جيشاً لقمع المقاومة في البلاد، فصارت هناك شريحة متنصرة تحتضن الاحتلال وتتحدث بلغته، وأطلقت أسماء هولندية على مواليدها، وطبعتهم بطابع هولندي صرف. كما عمل الاحتلال على إذكاء نيران العصبية بين القبائل الإندونيسية، عملاً بمبدأ (فرق تسد). واستفحل هذا الداء العضال، حتى في صفوف الجالية الحضرمية؛ فقد تشظت إلى أحزاب عنصرية (السادة)، وقبلية، ومناطقية، فصارت تمالئ المحتل نكاية ببعضها بعضاً. وبعد ظهور الأحزاب أفسح الاحتلال المجال للشيوعيين والعلمانيين، للتواصل مع الجماهير الطلابية والعمالية، في حين تمَّ اعتقال الزعماء المسلمين وسجنهم، فتصدر الشيوعيون والعلمانيون الواجهة السياسية الإندونيسية، وأخذوا يكيلون الوعود، ويبيعون الأوهام للبسطاء، المتطلعين للاستقلال.

الغزو الفكري والاستلاب الثقافي:

قامت هولندا بفرض ثقافتها ولغتها على الإندونيسيين، وأنشأت أول مدرسة هولندية في إندونيسيا عام 1617م، وفتحت باب الهجرة للهولنديين، فأصبحت لغتها هي الأولى في البلاد، وهي لغة الدراسة من الحضانة وحتى الجامعة، ومع ذلك فقد كان التعليم الحكومي مقتصراً على أبناء الطبقة العليا، وعلى أبناء عملاء الاستعمار، ليكونوا موظفين في دواوينه، بعد أن يتم غسل أدمغتهم، وتشريبهم لثقافته، وقام الهولنـديون بمحاربة التعليم الأهلي الذي كان مزدهراً عند احتلالهم للبلاد، بحيث إن غالبية أهلها كانوا يعرفون القراءة والكتابة، وأغلقوا أغلب المدارس، وغيروا مناهج الباقي منها، وغيروا حروف اللغة الإندونيسية من العربية إلى اللاتينية. وتضمنت سياستهم التعليمية إرسال البعثات الطلابية للدراسة بجامعات هولندا، لتغريبهم وتكوينهم مادياً وروحياً، حتى يكونوا فيما بعد رواداً للفكر الغربي، في بلادهم. ومن هنا فقد غلبت المدنية الأجنبية واللغة الهولندية، وظهر جيل من المسلمين يجهل أغلبه هويته الحقيقية. وقامت السياسة الهولندية على إبعاد النشء عن دينه، وعلى أحياء اللهجات الإقليمية المختلفة، لتفريق الأمة عن بعضها. وكان هناك تكامل بين المدارس الحكومية الهولندية، والمدارس التبشيرية في محاربة الإسلام، فكانت الأولى تخرج الذين يجهلون دينهم الإسلامي جهلاً تامّاً، بينما تعمل مدارس الإرساليات على تنصير المنتسبين إليها. كما قامت هولندا بإطلاق العنان للحركات الباطنية كي تعمل على أحياء ما اندثر من العادات الهندوسية، والبوذية، والوثنية، وعملت على تشجيع التصوف القبوري، الذي يُسقط فريضة الجهاد، ويدعو لتأييد سلطة الاحتلال الصليبية الغاشمة، على اعتبار أن الاحتلال صار أمراً واقعاً، وقام المستشرق الهولندي الصليبي هورغرونية (1857 - 1936م) مستشار السلطات الاستعمارية، بدور خبيث في هذا الصدد.

الهجمة التنصيرية الشرسة:

قامت السلطات الاستعمارية الهولندية بتأسيس أول كنيسة في إندونيسيا عام 1624م، وعمدت إلى إطلاق العِنان للبعثات التبشيرية لتنصير المسلمين وغير المسلمين بحرية، وتولت دعمها مادياً ومعنوياً، وكانت تلك البعثات تتكون من جحافل جرارة من المبشرين الذين قَدِموا من دول شتى من غرب أوروبا، والذين انتشروا في مختلف أنحاء البلاد، وكان تركيزهم على تنصير المسلمين، أملاً في استغلال فقرهم وبؤسهم، لردتهم عن دينهم، وسلخهم عن هويتهم، أكثر من تركيزهم على تنصير بقايا الجماعات الوثنية والبدائية. وكان هناك تنافس محموم بين البعثات التنصيرية البروتستانتية والكاثوليكية في هذا المجال، وقد ساعدهم على ذلك سماحة المسلمين الملاويين، فاستغلوا تلك السماحة أسوأ استغلال في ممارسة أنشطتهم التبشيرية المتنوعة، فراحوا يشيِّدون الكنائس الضخمة، والملاجئ، والمستشفيات، ودور الأيتام والعجزة والمسنين، في أحياء المسلمين، وبخاصة المدن والأحياء الآهلة بالسكان. وقد انتشرت مدارس الإرساليات التبشيرية في مختلف الأرجاء، وفتحت أبوابها على مصاريعها أمام الشباب الإندونيسي الفقير، واستطاعت أن تستقطب أعداداً هائلة منهم، وتضمهم إلى صفوفها نظراً لعجز البلاد عن إنشاء مدارس بسبب سياسة التفقير التي اتبعتها هولندا، وقبل ذلك استئثار الأمراء بكل شيء. وكانت تلك الإرساليات تتوفر على موارد مالية ضخمة؛ فقد كانت تتلقى مساعدات خارجية من بلدان غربية عديدة، غير هولندا، ومنها كندا، وفرنسا، والفاتيكان، وأمريكا، وألمانيا، ولذلك كان المبشرون يدفعون بسخاء لشراء الأراضي الواقعة في إحياء المسلمين لإقامة المؤسسات والمراكز التبشيرية عليها، ونتيجة لذلك صارت إندونيسيا المسلمة التي لفظت البوذية، والهندوكية، تواجه منافسة خطيرة من قبل البعثات النصرانية، التي استطاعت استغلال الظروف، في غزو القلوب، وشراء ولاء ضعفاء النفوس.

خامساً: الحركة الوطنية والاستقلال:

وفي أوائل القرن العشرين ظهرت العديد من المنظمات الإسلامية في إندونيسيا؛ كشركة إسلامي، وجمعية الخير، وحركة كل المسلمين، داعية إلى يقظة المسلمين، وتزعمت الكفاح السياسي ضد الهولنديين، فعمدت هولندا إلى ضرب هذه المنظمات بالتيارين القومي والماركسي، فظهرت عدة أحزاب قومية وماركسية، كالحزب الوطني بزعامة أحمد سوكارنو (1901 - 1970م) الباطني، والحزب الشيوعي الماركسي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وكان الشغل الشاغل لهذه الأحزاب، هو تحطيم طموحات المسلمين، في إقامة دولة إسلامية في هذه الجزر. وحين انعقدت (لجنة الاستقلال) لمناقشة هوية الدولة القادمة عام 1945م، بذل ممثلو هذه الأحزاب والباطنية كل ما في وسعهم، لكي لا تكون الدولة القادمة (إسلامية)، واقترحوا قيام دولة على أساس (البانتشاسيلا)، وهددوا برفض الاستقلال جملة إذا أصرَّ مملثو التيارات الإسلامية على أن يكون الإسلام ديناً للدولة، لدرجة أنه تم حذف الفقرة التي تؤكد على أهمية الشريعة الإسلامية في الدستور الإندونيسي في ميثاق جاكرتا، الذي تم اعتماده مقدمةً للدستور عام 1945م، فوافق ممثلو التيارات الإسلامية مضطرين على هذا المقترح، وبرروا ذلك بأنه بالإمكان تعديل الدستور عبر التصويت بالبرلمان، الذي سيكون من نصيبهم حتماً عندما تُجرى الانتخابات. وتقوم (البانتشاسيلا) على خمسة مبادئ براقة، هي: (الربانية المتفردة، الإنسانية العادلة، الوحدة التي لا تتجزأ، المشاركة الشعبية، العدالة الاجتماعية). وكان سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا، هو من فرض هذه المبادئ، لتسير عليها الدولة الوليدة، بدلاً من العقيـدة الإسلامية، وتدخَّـل سوكارنو عام 1957م وألغى الحياة النيابية في البلاد بسبب تصدُّر حزب (ماشومي) الإسلامي واجهة الحياة السياسية، وحلَّ هذا الحزب، وألقى بزعمائه في السجون، وأسس نظاماً على مقاسه، سماه (الديمقراطية الموجهة)، وأصدرت حكومته قراراً يحظر ممارسة الدعوة إلى أي دين، لدى أشخاص يعتنقون ديناً آخر، واتضح لاحقاً أن المقصود بهذا القرار هو تكميم أفواه المسلمين عن الدعوة، لأن النشاط التنصيري استفحل في إندونيسيا بعد ذلك. وفي عهد الجنرال سوهارتو (1967 - 1998م) حليف أمريكا، ازداد نفوذ النصارى في البلاد، وسيطروا على الإعلام، والمرافق الحيوية في الدولة، وتدفقت على البلاد جحافل جرارة من المبشرين من أمريكا، وأستراليا، ودول أوروبا، بروتستانت وكاثوليك، ولكل طائفة منهما إذاعات ومراكز تبشيرية، وعشرات الطائرات العمـودية التي تنقلهم من جزيرة إلى جزيرة، ووسائل إعلام لا تعد ولا تحصى، وشهدت جاكرتا عام 1975م أحد مؤتمرات التنصير المهمة، الذي اشترك فيه 3000 مبشر نصراني، ولهذا ارتفعت نسبة النصارى من 3% عام 1933 إلى 9% عام 1981م، وتوجت الجمعيات التبشيرية أنشطتها في هذا البلد بفصل تيمور الشرقية عنها عام 1999م. وبعد قيام الثورة الرافضية عام 1979م كانت إندونيسيا مركزاً مهمّاً لتصدير الثورة، ويتخرج من إيران سنويّاً آلافُ الطلاب الإندونيسيين، وصار للروافض فيها جامعات، ووسائل إعلام عديدة. وسياسة التفقير مستمرة حتى اليوم، إزاء هذا الشعب المسلم الطيب، الذي يتكالب عليه الصليبيون، والهندوس، والبوذيون، والروافض، والباطنيون، واليهود، والعلمانيون، بصورة أشد مما كان عليه الحال في عهد الاستعمار، وتم تحطيم اقتصاد إندونيسيا، وضرب نهضتها الصناعية عام 1996م. ناهيك عن الحرب التي تُشَنُّ على الإسلام، باسم الإسلام نفسه، من قبل الصوفية القبوريين الذين يشكلون القسم الأعظم من مسلمي إندونيسيا، ويسيطر الصينيون على70% من اقتصاد البلاد، وهناك 65% من أصل 42 وحدة اقتصادية يملكها غير المسلمين.