النيجر بلد الأعراق المتعددة (1)مقالات

مجلة الكوثر

المصدر: مجلة الكوثر – السنة الثالثة – العدد 45 - جمادى الأولى جمادى الآخرة 1424 ه – يوليو 2002 م. – (ص6 – 11)

 

النيجر بلاد عريقة وهذا ليس من قبيل الشعار الدعائي، بل هو الواقع.

فصـخـورهـا تـحـفـل بـالـنـقـوش الجدارية، وحكاياتها الشعبية، وعاداتها اليومية، تحمل بصمات الهجرات الكثيرة التي تعاقبت عليها: كان الصيادون ورعاة المواشي، والطوارق، والبول، والـجـرامـا - سـونـغـي، والـهـاوسا. يـأتـونها من كل حدب وصوب، فأحسنت استقبالهم وصهرتهم ضمن جماعة واحدة، وتحت لواء واحد، دون أن تنزع عن كل قوم أصالته.

إن حسن الضيـافـة هـذا يعتبر في النيجر من قـبـيـل الواجب. فالشروط المناخية التي أملتها الكثافات الصحراوية قد صهرت جميع هذه الشعوب ضمن بوتقة التضامن: فليس هناك من يرفض تـقـديـم الماء والظل. والأيام التي يقضيها المرء في النيجر حافلة بمظاهر الود التي تنعش فؤاد الزائر الغريب: فهذا موظف الفندق يزودك بعناوين لأقربائه على الضفة الأخرى من نهر النيجر، وذلك سائق التاكسي يعرفك إلى معالم مدينته بلطف، وذلك أحد رجال الأمن يتولى تفتيش حقائبك، فإذا بك تشاركه احتساء الشاي بالنعناع.

 

أصالة الشعب:

تطالعك «الأصالة» أينما كنت، سواء في إحـدى الـدوائـر الـحـكـومية حيث يستقبلك مـحـدثـوك بـألـبـسـتـهـم الـتقليدية الظريفة (الـبـابـو الـتـقـلـيـدي) أو كـنـت فـي أقاصي الأراضي النيجرية، حيث ما زال الرعاة يـزرعـون الـسـهـوب السـهـلـيـة الـواسـعـة، يسـوقـون أمـامـهـم، كـعـهـدهـم مـنذ آلاف السنين، قطعانا من الأبقار ذات القرون الـمـعـقـوفـة. وقـد يـتـأثـر المرء لحمية هذا الشعب وورعه عندما يشاهد أفراده أيام الـجـمـعـة، يـرتـدون ثيـابـا خـاصـة لأداء الصلاة.

 

آفاق واسعة:

بالإضافة إلى طبيعتها المضيافة، تتمتع النيجر بميزة رئيسية هي جمال مناظرها التي تتصف، قبل كل شيء، باتساع الأفق. فمساحة النيجر تساوي ضعفي مساحة فرنسا مثلا، رغم أن عـدد سـكـانـهـا لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة. ما زال هناك مكان إذا! وسواء كان الزائرون على وعي أو غير وعي بهذه المسألة، فإنهم سيسـتـأنـسـون وهـم يـتـجولون بين هذه الأصـقـاع، حب الـطـبـيـعـة وتقديرها في الوقت الذي ينتابهم فيه شعور بتحرير صدورهم وانفاسهم مما كانت تنوء تحته من عبء، إن هذا كله لا ينبغي أن يجعلنا نتصور النيجر وكأنها مساحة شاسعة مسطحة! فهناك أيضا جبال (في منطقة عير مـثـلا ذات الـتضـاريس والـسـفـوح الشديدة الانحدار). غير أن هذه الجبال لا تسد الأفق بأحجامها، بل تضفي شيئا من المفارقة على السهول التي تحيط بها، وفوهات البراكين التي تطوقها من بعيد، ومـجـاري الأنـهـار الـواسعة التي تجري تحت أقدامها. منذ لحظة الوصول إلى الاراضـي الـنـيـجـريـة. في «نيامي» تبدأ عملية العودة إلى الآفاق الواسعة. فوادي النيجر ينفتح ويمتد بكل عظمته وبهائه على طول 500 كلم، من حدود (مالي) إلى حدود (بنين) فضلا عن الأنهار التي تروي الـهـضـاب والـوهـاد والأكام المخضوضرة في «انزورو» في بلاد «جرما»، وفي «لیـبـتـاکو» «بلاد السـونـغـاي والبول والغور منتشي» وفي «دندي» التي تكثر فيها الوديان الاحفورية القديمة «بلاد الـدالـول». في حواضر حوض النيجر هذه، تتم يومياً معجزة المياه: فالأراضي المحيطة بالنهر تـحـفـل بـحـقـول الأرز وقصب السكر. وفي ظـل أشـجـار الـمـانـغـا، تـقـوم قرى البانكو الـجـمـيـلـة، ذات الأشكال المكعبة والقباب الـمـكـورة أو الـبـيـضـاويـة، فيعيش أهلوها على ضفاف النهر حياة رغيدة، ينصرفون فيهـا إلى الـزراعـة وتـربـيـة الـمـواشـي، وأحـيـانـا الـي صـيـد الأسـمـاك، بـانـتـظـار الأسواق الأسبوعية الكبيرة (أسواق تقوم في قرى باليارا، ايورو، تيابري، دوسو، الخ.) حيث ما زالت المقايضة تنظم حتى الآن جزءا كبيرا من التبادلات بين البدو والحضر، وإلى الجنوب من «ساي» يفقد هـذا الـنـهـر اتـزانـه الـهـادئ، فتكثر فيه الأفـراس الـنـهـريـة، والـجـزر الـحـافـلـة بـالـطـيـور، بـعـد أن يـجـتـاز الـحاجز الذي تشكله حصون سلسلة (أتاكورا). وفي ذلك الـمـوضـع يـؤلـف الـنـهـر تـعرجات عجيبة بشكل W، ما لبثت أن أصبحت جزءا من تـراث الـمـنـطـقـة الـتـي أطـلـق عـلـيـهـا اسم دوبلفي» W. كـمـا اسـتـخـدم هذا الحرف المستورد من أجل تسمية أحد أهم المراكز الاحـتـيـاطـيـة لـلـحيوانات في افريقيا.

إن «حديقة دوبلفي الوطنية» المشتركة بين ثلاثة بلدان، النيجر وبنين وفولتا العليا، تمتد على مساحة قدرها أكثر من مليون هکتار (منها 344000 في الأراضي النيجرية). وقد أنشئت هذه الحديقة عام 1926، لكنها لم تمهد وتصبح صالحة الا عام 1954. ويستطيع المرء أن يرى فيها، أثناء موسم فتحها أمام العموم (ابتداء من شهر ديسمبر) كل أصناف الحيوانات التي تعيش في سهوب افريقيا، ليتلقى درسا بليغا في العلوم الطبيعية، حيث يتعرف على أنواع عديدة من السنوريات (فهود، نـمـور، الـخ..) ومـن الـفـيـلـة وأفراس النهر، فضـلا عـن الـتـمـاسـيـح، وطائفة شتى من الـظـبـاء، وأنـواع مـخـتـلـفـة مـن الـقـرود والسعادين.

 

نواعير الشلالات:

وهنا وهناك في النواحي الصخرية توجد مجموعة رائعة لصور حيوانية نقشتها على الصخور حضارة منقرضة. وتتخلل هذه الهضاب جميعا وديان عميقة، تقوم فيها بعض جـنـائـن الـنـخيل أو بعض الـواحـات الأنيسـة (كـتـيميا أو انفروان). وخـلال بضع كيلومترات من الأراضي الـوعـرة، يـعـبـر الـمـرء فـورا وبدون فترة انتقالية من أرض جرداء معزولة، إلى أرض مـلـؤهـا الـوفـرة، تـزخـر بـالـقـرى التقـلـيـديـة، حـيث يـنـصـرف الـبـدو المتـحـضـرون إلى أعمال البستنة ضمن قطع متفرقة من الأراضـي الـمـحـاطة بأسيجة بدائية. هنا تعمل مياه النواعير علـى إحـيـاء حـقـول الـطماطم والخضار والبطاطس، وحتى الفجل. وعندما يأتي مـوسـم الأمـطـار فـي شهر يوليو، تمتلئ مـجـاري الأنـهـار الـرمـلـيـة بـالـميـاه، في غضـون سـاعـات قلائل، وتتكفل مساقط الـمـيـاه والشلالات الصـغـيـرة بإحياء طوائف مختلفة من النباتات في ثنايا الصخور وبين الرمال، كما تساعد على اعطاء موسم غزير من القمح في الأراضي الخصبة.

 

رحلات لا تحصى:

ومن العير، حيث تنطلق الرحلات بأعداد كبيرة، تـجـري الـطريق الرئيسية باتجاه الشـمـال، عـبـر مـكـي، وتـيـمـيـا، واسـوده وايفروان، وصولا إلى جبل غريبون.

وعلى امتداد هذا المحور بأسره، يلتقي المسافر بالقوافل وبخيام البدو، وتطالعه الواحات والـجـبـال الأخـاذة والـحـيـوانـات الـنـادرة (كـالـنـعـام والـظـبـاء) والرمال، والصخور الـمـنـحـوتـة والـنقوش الجدارية والمواقع التي تعود إلى ما قبل التاريخ.. إنه عبارة عـن كـوكـتـيـل صـحـراوي حـافـل. ومـن (اغـادس) يسـتـطـيـع الـمـرء أن يـواجه كل المنطقة الغربية: فيكتشف أولى الملاحات في تغيدا النتسوم) والتجمعات البدوية الـواسـعـة الـمـتـاخـمـة لـهـا، إذا أراد أن يسـتـشـفـي بـالـمـيـاه الـمـالحة، ثم يكتشف نيـجـر الـمـسـتـقـبـل مـن خـلال تـعرفه إلى الـمـديـنـتـيـن الـلـتـيـن ولـدتـا مـع اكتشاف الـيـورانـيـوم فـي هـذه البلاد: وهما مدينة (ارليت)ومدينة «اكوكان».

ومما يسهل الـقـيـام بـهـذه الـرحـلات هـو شـق «طريق الـيـورانـيـوم» الـجـمـيـلـة الـتـي استخدمت مؤخرا.

وأخيـرا، وبشكل خاص، فإن «اغادس» هـي الـمـنـطـلـق بـاتـجـاه «تینیره» والـواحـات الـبـعـيـدة الـكـائـنـة في «جادو» و «کعوار».

 

نيامي العاصمة:

تقول الأسطورة: إن اسم نيامي أطلق على ذلك الموضع من قبل أحد سكانه الأوائل، وهو أحد أشراف قبيلة «كالي» التي تنتمي إلى بني زرما. وكان هذا الرجل قد أمر عبيـده بـاحـتـلال ذلك الـمـكـان الشـاغـر نـاطـبـاً إيـاهـم مـخـاطـبـا ايـاهـم بـهـذه الـكـلـمـات «اوا نياماني» أي ما معناه «تناولوا شيئا من هنا وشيئا من هـنـاك»، ثـم ما لبثت نياماني أن أصبحت نياما ثم تحولت إلى نـيـامـي، وكـان بـنـو كـالـي أول مـن سكن نيامي وأطلقوا اسمهم على حي كالي. أما غاو (الذي أصبح بعد ذلك غاويوي) فقـد سـكـنـه بـالأصل أناس كانوا يسمون حي «أهل غاو».

وأمـا «زونـغـو» فهو يدل عـادة على «طائفة من الأكواخ»، أي على الحي الذي يسـكـنـه الأجـانـب خـلافـا للأهالي الذين يسكنون في «البرني» (أي ضمن أسوار المدينة). ويجد المرء في كل مكان من النيجر أحياء تسمى «زونغو» يسكنها في معظم الأحيان تجار الهاوسا الذين أصلهم من نيجيريا، وهي «ما عوري غانداتشي» فإنه يعني «الماعوري الذين يقيمون في الحي الواطئ».