آداب الطب في التراث العربي الإسلاميمقالات

سليم عمار

المصدر: مجلة آفاق الثقافة والتراث- رقم العدد: 2 تاريخ الإصدار:1 سبتمبر 1993

 

بقلم: الأستاذ الدكتور سليم عمار أستاذ شرفي للطب النفسي

الجامعة التونسية

 

قبل ذكر التوجيهات التي سطرها الأطباء العرب حول آداب الطب والأخلاقيات التي ينبغي أن يتحلى بها الطبيب لابد من التذكير بوجهة النظر الإسلامية في هذا الصدد حيث إن الطب العربي الإسلامي لم يقتصر على الأخذ بتعاليم أبقراط أو بتعاليم الفرس والهنود والصينيين فحسب، بل كان مشبعا بالقيم الأخلاقية والدينية السامية التي تغذَّى بثمارها مثل كل النشاطات التي ميزت الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية.

فكان الطبيب الذي يحمل أمانة الإسلام وأمانة المحافظة على صحة البشر في آن واحد هو أولى الناس أن تكون تربيته سليمة ويكون سلوكه مستقیماً والتزامه بالأخلاقيات جزءا لا يتجزأ من طبعه وشخصيته، وهذه القاعدة الأساسية تندرج تحتها أمهات الفضائل: منها الصبر والاحتمال، والقناعة والاعتدال، وفعل البر والإحسان، والمغفرة والسلوان، ومنها الحياء والصدق، والرحمة والرفق، والكلام الطيب والابتسام واجتناب العيب والاحتشام والتسامح والتواضع، والرصانة في كل المواضع، وغير ذلك من الجوانب الأخلاقية التي تمس عمل الطبيب أكثر من غيره في علاقته مع المرضی المساكين والأغنياء سواء أكانوا كبارا أم صغاراً على اختلاف الأجناس والأعمار.

هذا ويمكن إجمالا تحديد أربعة أبواب في مجال آداب الطب وأخلاقيات الطبيب العربي المسلم.

1) الشهادة الطبية والقسم الطبي:

فإجازة ممارسة المهنة كانت من الالتزامات المطلوبة كي يكون الطبيب قادراً على مزاولة صناعته من الوجهة العلمية والعملية حيث كانت تسحب منه إن وجد منه تقصير، فكان أول من اشترط هذه الإجازة هو سنان بن ثابت في زمان الخليفة المقتدر سنة 311 هـ/ 923 م ببغداد. وبقيت هذه الإجازة شرطا أساسيا لمباشرة الطب حتى نسج على هذا المنوال روجير الثاني، ثم فريدريك الثاني بصقلية في القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين إلى أن عممت هذه القاعدة كلّ الربوع فيما بعد.

هذا ولقد اشترط أيضا على كل من يريد ممارسة الطب أن يؤدي قَسَما طبيا يقطع به عهدا على نفسه وهذا القَسَم يشمل أغلب فقرات قسم أبقراط مع بعض التعديل والتحوير لجعله أكثر ملاءمة للمفاهيم الإسلامية الداعية لمواقف الفضيلة والطهارة وللأخلاق الجميلة والمهارة ولم يلتزم الأطباء العرب بقَسَم واحد بل نرى في كتبهم أنماطا عديدة تدور جميعا حول المفهوم الأخلاقي نفسه والذي يجعل قدسية المهنة الطبية فوق كل الاعتبارات والمعلوم أن مبادئ قَسم الطبيب ترجع إلى قيم أصيلة وعريقة، نجدها في المجتمعات الحضارية القديمة من حضارة ما بين النهرين إلى حضارات مصر العتيقة وفارس والهند والصين.

 حيث إن الأبحاث تدل اليوم على أن قَسم أبقراط ليس بقَسم يوناني محض بل ينبثق من أصول صناعة الطب في مجتمعات الشرق الأوسط والشرق الأقصى على السواء.

 كما هو معروف أن قَسم أبقراط قد ترجمه وكيّفه من اليونانية إلى العربية العالم العراقي حبيش ابن الأعصم (الذي يعد من أنجب تلاميذ حنين ابن إسحاق وأقاربه).

وقد نجد لهذا القَسم فصلا وافيا عند ابن أبي أصيبعة (القرن الثالث عشر الميلادي) في كتابه عيون الأنباء لطبقات الأطباء وقد دخل هذا القسم فيما بعد إلى اللاتينية ثم إلى اللغات العالمية الحية، ورجع إلينا في صيغته الإنكليزية أو الفرنسية بعد بعض التغييرات. وقد وقع والحمد الله تكييفه وتعريبه من جديد في غالب البلدان العربية.

هذا مع العلم أن الطب يتطور اليوم خاصة مع الاكتشافات المهولة التي أدت بها العلوم الحياتية والكيمياء الحيوية وعلم الجينات وأن ضرورة تعديل وإقرار قسم دولي موحد أصبحت من مشكلات الساعة في آداب الطب وخاصة في الأقطار العربية الإسلامية، هذا ومن جهة أخرى ومهما كان الحال فإن الطبيب لا يمكنه أن يؤدي وظيفته إن لم يجتهد طيلة حياته.

2) إتقان العمل ومتابعة التحصيل العلمي:

 حيث كتب في ذلك أبو الحسن بن سهل الطبري الذي يقال إن الرازي تتلمذ له، قال: "إن طول التجارب زيادة في العقل"، كما يقول أبو بكر الرازي في هذا المضمار "الحقيقة في الطب غاية لا تدرك والعلاج بما تنصه الكتب دون أعمال الماهر الحكيم برأيه خطر "مضيفاً هذا القول الرصين والذي يجوز في كل زمان ومكان: "الأطباء الأمّيون والمقلدون والأحداث الذين لا تجربة لهم ومن قلَّت عنايته وكثرت شهواته قتّالون"، وكان الرازي يقول في الاستشارة بين الأطباء وتنسيق الآراء بينهم: "من تطبب عند كثير من الأطباء أوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم".

ولقد اتسم الرازي بالذكاء والفطنة والهدوء والرصانة وبحب الرحمة والعدل وبالإقلال من محاكمة الناس بالإضافة إلى الرفق بالفقراء والمرضى وحسن تعهده للطلاب.

أما الشيخ الرئیس ابن سينا فهو يقول في مقدمة كتاب النجاة "إن أفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأرفع البر الصدقة، وأزكى السير الاحتمال، ولن تخلص النفس عن الدرن ما التفتت إلى قيل وقال، ومناقشة وجدال. وانفعلت بحال من الأحوال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أم الفضائل ومعرفة الله أول الأوائل" كما أن من وصايا رشيد الدين علي بن خليفة قوله: "بأن الأمراض لها أعمار. والعلاج يحتاج إلى مساعدة الأقدار، وأكثر صناعة الطب حدس وتخمين، وقلما فيه اليقين، وجزاها القياس والتجربة، لا السفسطة وحب الغلبة، ونتيجتها حفظ الصحة إذا كانت موجودة، وردها إذا كانت مفقودة، فيها يتبين سلامة النظر ودقة الفكر، ويتميز الفاعل عن الجاهل، والمجدّ في الطبّ عن المتكاسل والعامل بمقتضى القياس والتجربة، عن المحتال عن اغتناء المال وعلو المرتبة.

أما عبد اللطيف البغدادي (575 هـ / 1161 م) ذلك العلّامة الشهير المعاصر لموسی بن میمون القرطبي فيقول: "ومن لم يتحمل ألم التعليم لم يذق لذّة العلم، ومن لم يكدح لم يفلح".

ولقد جدّد القلقشندي بدوره في بلاد الشام في القرن السابع الهجري أركان تعليم الطب وأثبتها بمزيد من الحكمة، ولقد كان يشترط في الطبيب "أن يتحلى بالإيمان وشرعة التقوى"، وفي رئيس الأطباء العلم والمعرفة والدراية بالإضافة إلى الأمانة والعناية.

۳) حسن الهيئة والأخلاق:

يقول في ذلك ثابت بن قرة الحراني وهو العالم الفلكي البارع في الرياضيات والطب والفلسفة الذي نبغ في زمان المعتضد العباسي: "إن راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام".

كما يقول علي بن العباس في كتابه "كامل الصناعة"، في نفس الصدد: "ينبغي لمن أراد أن يكون طبيباً فاضلاً أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة وأن لا يتهاون فيها، فإنه إن فعل ذلك كانت مداواته للمرضى مداواة صوابه".

هذا وبعد زمان الرازي بقليل كان في تونس أحمد ابن الجزّار الذي اتسمت شخصيته بالاستقامة والعفّة والتواضع وبالرحمة في كل المواضع، فكتب في الأطفال والفقراء وفي الشيوخ والبؤساء. وكانت سيرته الذاتية كما هو معلوم مثلا اقتدت به أجيال الأطباء في الديار التونسية مثل الأطباء الصقليين الذين أشرفوا على صناعة الطب بتونس طيلة قرنین متواليين، فكانوا بدورهم محل التقدير والإكبار، من الكبار والصغار، كما كان الشأن لأعلام حكماء المغرب والأندلس أمثال الزهراوي وبني زهر وابن طفيل وابن رشد وغيرهم.

هذا وفي المشرق العربي بينَّ علي بن رضوان المصري رئيس أطباء القاهرة زمان الفاطميين كافة الصفات المثلى الجسدية والنفسية للطبيب فأكد بدوره على التزام الطبيب بحسن الهيئة واللباس والاستقامة أمام جميع الناس، وكان يضع الطبيب في منزلة قد تساوي أو تفوق منزلة الأمراء والملوك إذ يقول: "إذا كان الطبيب الفاضل يعالج الفقراء احتسابا، والأغنياء اكتسابا، وكان حاذقا في صناعته بارعة فيما يتولاه متواضعا للناس فأحبوه وعظموه ورفعوه ومجدّوه".

 وكانت نظرة ابن رضوان إلى الطب تتميز بالمثالية المطلقة، لذا نجده في كتابه "في شرف الطب"، يعدّ الطبيب ولياً من أولياء الله الصالحين وفي المجال نفسه يقول الحكيم أبو الخير في كتابه "امتحان الأطباء": "إنه يجب أن يكون الطبيب حسن القدّ، صحيح الأعضاء، معتدل المزاج، جيد التصوير، قوي الحدس، صبوراً على التعب والنصب، كتوماً، متحمّلا ما يسمعه من المرضی".

كما أن إسماعيل الجرجاني (القرن السادس الهجري) صاحب موسوعة "ذخيرة خوارزم شاه"، التي كتبها بالفارسية وقد وضعها بعضهم في مكانة كتاب "القانون" لابن سینا كان يقول بالعربية لصديق له: "إن الجسد هو أخبث مسكن للنفس، صعب المقادة عَسر الإجابة لقوّتك العاقلة التي تؤديك جنّة الماوي، وترقيك الدرجة العليا".

 ويعدّ داود الأنطاكي (القرن العاشر الهجري) من أواخر أطباء العرب العظام. وكان ينصح الطبيب بالقناعة والعفة وترك الملذات "لتكون نسبته إلى الناس بالسواء"، خلّي القلب من الهوى، لا يقبل الارتشاء، ولا يفعل حيث يشاء ليجتنب الخطأ، وتستريح إليه النفوس من العناء.

والآن وبعد عرض الواجبات والالتزامات نصل إلى الباب الرابع والأخير المتمثل في الحقوق والمراعاة وفي الحظوظ والالتباسات التي تعلقت سابقا وتتعلق اليوم بالطبيب من عديد الصفات.

4) حقوق الطبيب ونظرة المجتمع إليه:

وقد يستنتج في هذا المجال من دراسة تراجم الأطباء العرب والمسلمين أنهم تمتعوا إجمالا بالمكانة اللائقة بهم، فنالوا الاحترام من الأمراء والأدباء والفقهاء ومن عامة الناس، وبلغوا مراتب سامية حتى غير المسلمين منهم. وقد قدّر القوم الأطباء حق قدرهم لأنهم كما يقول ابن أبي أصيبعة: "إذا التزموا لما يجب من حقوق صناعة الطب يكونون مبجلين في الدنيا ولهم الدرجة العليا في الآخرة".

ومع هذا فإن البعض من أعلامهم تعرض إلى نكبات الدهر ومكائد الزمان وإلى المضايقة والطغيان، فهذا قد حُرقت كتبه وذا قد عرف المنفى والسجون، هناك من تَعَاطى في الشوارع التنجيم قصد المعاش، وهناك من نبغ ولم يحظ بالمنية على الفراش، يل مات شنقا أو مسموماً أو في الاحتياج ولم يجد الرحمة والانفراج مثل أبي بكر الرازي وعلي ابن رضوان المصري والحسن بن الهيثم بالنسبة للصنف الأول وإسحاق ابن عمران ولسان الدين ابن الخطيب وابن ماجه ونجيب الدين السمرقندي بالنسبة الصنف الثاني.

ومع هذا فقد بقي هؤلاء الأعلام أحياء عند ربهم وعبر الأجيال يرزقون وبالمدح والإجلال يتمتّعون، هذا وقد تناوبت الأجيال في تاريخ الأمة العربية الإسلامية تتقهقر فيها القيم الفاضلة وتتسرب إليها الرذائل الشرسة من حين لآخر عبر الزمان والمكان ولم تخل الأمة من الشعوذة والتدجيل، ومن المغالطة والتزوير، منذ أوج الحضارة الإسلامية حتى العصور الحالكة. ذلك أن صناعة الطب من أخطر الوظائف، تضبطها حدود الاجتهاد البشري وما فيه من نقصان وقصور، ومن نسيان وفتور، ومقصودها الجوهري هو إنقاذ الأرواح البشرية وكأنما يُطلب من الطبيب أن يصبح من طائفة الملائكة، بل حتّى من صفّ الآلهة أحيانا إلى حدّ أنه كان ولا يزال يتأرجح بين صفات الخير والشر مثل "جانوس"، الذي اشتُهِر عند الروم بوجهين وجه الخبث والعدوان، ووجه العفّة والإحسان.

فإن ابتعد الطبيب عن صفات الاستبشار والكمال وإذا انزلق في هاوية الاستهتار والإغفال فسرعان ما يتجلى وجهه الشرير، ويسقط في أسفل المعايير، إلى أن يُرمی به في المأزق المرير.

وختاما فلا يسعنا إلا أن نذكّر بأن الطبّ لا ينفع دون أخلاق ثابتة، حيث إن الطبيب لن يكون ماهراً وحكيما، إن لم يكن أساسا طاهراً ورحيماً، لذا ولكي يصبح شهيراً بحكمته، عليه أن يكون غفوراً برحمته،كما أن النشاط العلمي ينبغي أن يتحلى بالصدق والعفة وبالتفاني والرحمة، ومهما تقدّم العلم فينبغي دوما أن نميز بين ضرورة البحث العلمي والاكتشافات من جهة وضرورة تطبيق هذه الاكتشافات لصالح المجموعة من جهة أخرى لا المسّ بسلامتها وتعريضها للأخطار، أو لإصابتها بالتشويه والدّمار.

وعلى كلّ حال وفي نطاق آفاقه الواسعة وحدوده الراسخة فإن الأطباء العرب ليجدون في تعاليم تراثهم التليد أثمن الأحكام والعبر الاجتناب الزلة والضرر انطلاقا من مأثور أعلام اجدادهم الأمجاد، الذين سطّروا وأناروا لهم طريق الحكمة والرّشاد، كما فتحوا لهم أوسع المناهج والسبل، وأروع المكاسب والمثل، فعليهم اليوم أن يواجهوا تحديات الساعة بكل دراية وشجاعة، كي يوفروا لأفراد أمتهم العزّة والمناعة.


المراجع:

1) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء لطبقات الأطباء- دار مكتبة الحياة بيروت 1965: ص 45/46

2) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء لطبقات الأطباء ص 351

3) عبد اللطيف محمد العبد: رسالة في أخلاق الطبيب أبي بكر الرازي/ مكتبة دار التراث القاهرة 1977

4) نفس المصدر: لابن أبي أصيبعة: عدد 1 ج 3/ ص 413

 5) عبد اللطيف البغدادي: مقالتان في الحواس/ تحقیق د. بول غليونجي ومحمد عبده ص 169 مطبعة حكومة الكويت 1973

6) عمر موسى باشا: آداب الطب عند العرب في العصر الوسيط/ أبحاث المؤتمر السنوي الثالث للجمعية السورية لتاريخ العلوم/ معهد التراث العربي/ جامعة حلب 1980 من ص : 140 إلى 149- انظر كذلك القلقشندي صبح الأعشى  ص 378

7) أحمد عيسى بك: المأثور من كلام الأطباء/ مطبعة جامعة فؤاد الأول 1951 ص 12

8) علي بن عباس المجوسي: كامل الصناعة ص8

 9) أحمد بن ميلاد: تاريخ الطب العربي التونسي/ شركة ديميتر 8 شارع خير الدين باشا تونس 1980 10) سلمان قطاية: الطبيب العربي علي بن رضوان - المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم/ تونس 1984

11) ابن جلجل: طبقات الحكماء/ تحقيق: فؤاد السيّد - مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة 1955 ص 158

12) أحمد عيسى بك: نفس المصدر عدد 5 ص 84

13) داود الأنطاكي: التذكرة في الطب - ص 8