المسلمون في أستراليا (3)مقالات

علي الحديدي

المصدر: مجلة المجلة: العدد: 113، 1 مايو 1966 م

 

وفد إلى أستراليا الذين خلفتهم الحرب بلا مأوى ولا وطن، واستوطنها كثيرون من دول البلطيق والبلقان وبولندا والمجر وإيطاليا والشرق الأوسط، وفي موجات هذا المد جاءها فريق من المسلمين من لبنان وقبرص وفلسطين وسوريا، وألمانيا ومصر، ويوغوسلافيا وترکیا. وأولئك هم الموجة المعاصرة من الهجرة الإسلامية ويمثلون مرحلتها الثالثة وهي أغنى المراحل وأقواها، ولا أتجاوز الحقيقة حين أقول أنها نقطة التحول في تاريخ الإسلام في القارة السادسة، فقد أنقذت مصيره، وحولت قدره، وغيرت طريقه من الاختفاء والزوال إلى القوة والانتشار.

أدركت موجة الهجرة المعاصرة هذه بعض أحفاد المرحلة الأولى من المسلمين الذين تاهوا في ظلمات الجهل بالدين، فأنقذتهم من ضياع دیني محقق، وبعثت فيهم الروح من جديد، وغذت أهل المرحلة الثانية بدمائها الشابة وثقافتها الإسلامية المعاصرة فردت إليهم الحياة، وبدأ بها عصر البعث لتاريخ الهجرة الإسلامية إلى أستراليا.

جاءت وفود هذه الموجة من المسلمين تملؤهم الحماسية والثقة في دينهم، وتدفعهم عناصر الاستجابة للتطور الذي طرأ على العقلية المسلمة إلى فهم الدين فهمًا صحيحا خاليا من الشوائب والبدع التي ألحقتها به عصور الظلام الفكري، وهم يمثلون السواد الأعظم الذي يسود الجاليات الإسلامية في الولايات الأسترالية اليوم.

وهناك تیار آخر يدخل الإسلام عن طريقه إلى أستراليا ويتمثل في الطلبة الآسيويين المسلمين الذين يأتون طلبا للعلم في معاهد أستراليا وجامعاتها، من الهند وباكستان والملايو والفلبين وأندونيسيا وتايلاند والدول الآسيوية الأخرى، يأتون على منح دراسية تقدمها لهم أستراليا أو المنظمات الدولية، أو على حسابهم الخاص. ودخولهم أستراليا مشروط بمدة محددة، يجبرون على العودة بعدها إلى أوطانهم، ولا يسمح لهم بالإقامة الدائمة.

هؤلاء الطلبة يمثلون ركنا مهما من الحياة الإسلامية في أستراليا. فهم يحتفلون بالمناسبات الدينية الإسلامية ويشركون معهم زملاءهم الأستراليين ويحيون شعائر الدين وسط الأسر الأسترالية التي يعيشون بينها، ويشترکون في النشاط الثقافي والديني والاجتماعي مع الجاليات الإسلامية.

وفريق آخر من المسلمين يعيش في أقصى شمال القارة، قرب مدينة داروين وفي الجزر المجاورة لها کجزر کوکوز ونارو، وأكثر المسلمين فيها من جنس الملايو ويعملون في صيد اللؤلؤ، وقد هاجروا بدينهم من زمن بعيد إلى هذه الجزر والمناطق النائية البعيدة عن الحضارة وانقطعت صلتهم بالعالم الإسلامي، ونضب معين الثقافة الإسلامية عندهم، فتحولت الحياة الدينية في بعض هذه الجاليات إلى خليط من تعاليم الإسلام وبقايا من الوثنية، فالصلاة عندهم مجرد قیام وقعود، دون قراءة أو نظام وترتيب، وليس لها وقت محدد أو عدد معروف من الركعات، ولم يعد للصوم الحقيقي أثر، وإنما الصوم هو الامتناع عن الأكل دون الشرب والتدخين. أما الزواج فقد اتخذ الصبغة القبلية الموغلة في القدم، أو البقايا المتخلفة من العهود الأولى للإنسانية. فالمرأة تكون زوجة للأخ الأكبر، ومع ذلك، ولقلة النساء، فهي تعاشر الإخوة جميعا وينسب البنون إلى زوجها الشرعي.

ولعل أكثر ما أدهشني في هذه المنطقة جزيرة فیجي، وهي إحدى الجزر التابعة للوصاية الأسترالية، فجاليتها المسلمة أقرب الجاليات إلى الإسلام الصحيح، وأكثرها شبها بالعرب في ملامح أفرادها العربية الواضحة وفي قامتهم الفارعة وأسمائهم العربية واعتزازهم بأنفسهم وبالإسلام.

وما أشد حاجة هذه الجاليات إلى يد العون من الهيئات الإسلامية في العالم الإسلامي تنقذهم من ظلمات الجهل، وتحميهم من حملات التبشير وتبصرهم بالدين الصحيح، وتقيمهم على الطريق المستقيم.

 تلك هي تيارات الهجرة الإسلامية إلى أستراليا في مراحلها الثلاث، وحتى تكمل الصورة الحقيقية للحياة الإسلامية في هذه القارة سوف أتحدث بإيجاز عن جالية كل ولاية على حدة في إطار متكامل.

ولاية جنوب أستراليا:

استقبلت "أديليد"، عاصمة هذه الولاية أول المسلمين الذين جاءوا إلى القارة عام 1841. وبعد أن استقروا في الوطن الجديد، وأحسوا بالقوة والقدرة على الحياة أثبتوا وجودهم ببناء مسجد يقيمون فيه شعائر دينهم، وفي 31 يوليو 1889 اشترى الحاج مولاه موربین قطعة أرض ليبني عليها مسجدا وسط مدينة أديليد وهي وقتئذ لم تكن قد خرجت إلى عالم الوجود کمدينة، بل كانت وليدة بها عدة منازل وبضعة أكواخ. وكان عدد المسلمين بها نحو أربعمائة، يتزعمهم الحاج مولاه موربین الذي جمع إلى سمعته الطيبة بين المسلمين ثروة كبيرة من اشتغاله بقوافل الجمال.

واكتتب المسلمون فيما بينهم وأتموا بناء المسجد عام 1896 وكان أول مسجد في أستراليا يذكر فيه اسم الله، وبنوا كذلك مسكنا ملحقا بالمسجد لكبار السن والعاجزين منهم.

ولم تكن أديليد هي وحدها مقر المسلمين في هذه الولاية، فقد انتشروا في أنحائها يقيمون مع جمالهم حول الآبار ومصادر المياه، وفي منطقة «ماري» بنی المسلمون مسجدا آخر ثم هجروه فتداعى على مر الأيام وتهدَّم، وقد بلغ عدد المسلمين في هذه الولاية عام 1844 سبعة وخمسين مسلما، ووصلوا عام 1861 إلى 472 مسلما، ثم قفزوا عام 1881 إلى 4762 مسلما. وبعد أن اكتشف الذهب في غرب أستراليا وفي فيكتوريا، وبعد أن عرف المسلمون الطريق إلى الولايات الأخرى والسبيل إلى المهن الأخرى غير قوافل الجمال، وبعد أن منعت هجرة الآسيويين وأدركت الجالية في ولاية جنوب أستراليا فترة ركود فأخذ عدد المسلمين بها يتناقص حتى وصل عام 1945 إلى 620 مسلما.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية هاجر إلى هذه الولاية عدد من المسلمين الأوربيين وأكثرهم من يوغوسلافيا وقليل من ألمانيا وقبرص ولبنان، وكونوا جمعية إسلامية ترعى شؤونهم، وتنفق على المسجد وبيت الضيافة لكبار السن والعجزة غير القادرين، واستقدمت الجالية إماما متفقها في الدين من يوغوسلافيا، فنشر الوعي الديني بينهم وافتتح مدرسة تعلم الصغار والكبار أمور دينهم، وأصدرت الجمعية مجلة "المنارة" وهي مجلة فصلية باللغتين الإنجليزية واليوغوسلافية تشرح مبادئ الدين وتعنى بتفسير القرآن الكريم، وقد استطاعت الجالية وإمامها أن تجتذب إليها قِسّيساً أستراليا جاءهم أول أمره ليبشر بينهم بدينه، ولكنه ما لبث حتى خلع مسوح الرهبان، وأعلن إسلامه!! وتعتبر الجالية الإسلامية بجنوب أستراليا من أنشط الجاليات وأحسنها تنظيما وأكثرها غيرة على الدين.

ولاية غرب أستراليا:

دخل الإسلام هذه الولاية في أوائل القرن العشرين مع القوافل التي جاءت لتجتاز بسهول مولابور Mulabor. وفي نوفمبر 1905 وضع حجر الأساس لمسجد "بيرث"، عاصمة الولاية، وألحق بالمسجد مسكن يأوي المسلمين الذين لم يقبل الأستراليون الأوربيون أن يساكنوهم من أجل لون بشرتهم، وأعد المسكن ليستقبل ستين شخصا.

وتكونت في بيرث جمعية ترعى شؤون المسلمين في الولاية، وكان يرأسها إلى عهد قريب إنجليزي مسلم يدعي الشيخ محمد علي. وبعد أن تفرق أفراد الجالية في الولايات الأخرى توقف نشاط الجمعية، وخيّم الركود على الحياة الإسلامية هناك ولبثت كذلك حتى بدأت الروح تدب فيها من جديد بالهجرة المعاصرة من أوربا، ولكنها لم تصل إلى قوة إخوانهم في ولاية جنوب أستراليا.

وتذكر وثائق تسجيل المباني في هذه الولاية أن المسلمين أقاموا مسجدا آخر قرب "كالجورلي" Kalgoorlie، ولكنه أهمل حتى تهدم فصدر قرار بالاستيلاء عليه وضمه إلى سلاح الطيران الأسترالي لتبنى على أرضه مساكن لموظفي السلاح، وزال بذلك إلى الأبد مركز من مراكز الدعوة الإسلامية بأستراليا.

ولاية كوينزلاند:

تقع هذه الولاية في أعلى شرق القارة وعاصمتها «بریزبین»، والمسلمون المستوطنون فيها في منطقتين في بريزبين ويمثلون الغالبية، والفريق الثاني يعيش في منطقة «ماريبا» Marreeba وهم الألبان الذين جاءوا بعد الحرب العالمية الأولى واشتغلوا بزراعة الطباق وصناعة الأطعمة.

وقد دخل المسلمون أول ما دخلوا هذه الولاية عن الطريق التقليدي مع قوافل الجمال، ثم اشتغلوا بعد ذلك بزراعة المحاصيل، وفواكه المناطق الحارة وزراعة القصب، وبنوا لهم مسجدا عام 1908. وفي فترة الركود التي مرت بالجالية الإسلامية كان المسجد معمورا بالمصلين من غير أهل القارة، وخلال الحربين العالميتين كانت منطقة بريزبين معسكرا لجنود الحلفاء، يفدون إليه للتدريب وإعادة التنظيم. وكثير من جنود الحلفاء كانوا

من مسلمي آسيا وأفريقيا، فأم هؤلاء الجنود المسجد، وأقاموا الصلاة فيه.

وقد غذت الهجرة المعاصرة الحياة الإسلامية في هذه الولاية بدم جديد من القبارصة الأتراك، واليوغوسلاف والألبان ومن عهد قريب اكتتب الألبان في منطقة "ماريبا"، واستقدموا إماما ألبانيا تعلم في الأزهر ليؤمهم ويبصرهم بالدين.

ولاية نيوساوث ويلز:

 يكوّن المسلمون في هذه الولاية أكبر جالية إسلامية في أستراليا، ويسكن أكثرهم في سيدني عاصمة نيوساوث ويلز، وفريق منهم يسكن بروکن هيل وليز مور، منطقتي المناجم، وهم بقايا الأفغان والهنود.

  وعلى الرغم من كثرة المسلمين الذين يعيشون في سيدني وتعدد مواطنهم الأصلية، وتشمل تركيا وقبرص وباكستان وأندونيسيا وألبانيا ولبنان، وعلى الرغم من التأييد الأدبي والمادي الذي تقدمه لهم البعثات الدبلوماسية المسلمة في أستراليا، وكان مقرها سيدني قبل أن تنقل إلى کانبرا، ورغم اليسر والرخاء الذي يعيش فيه كثير من أعضاء الجالية المسلمين - فلم يفكروا في بناء مسجد يقيمون فيه شعائر الإسلام. ولعل ذلك أثر من آثار العزلة التي تعيشها كل فئة عن الأخرى وأكثر الجاليات نشاطا هم اللبنانيون المسلمون ويتزعمهم السيد على عويضه، وقد افتتح على نفقته مدرسة لتعليم اللغة العربية والقرآن والدین. وأهدت الجمهورية العربية المتحدة لهذه المدرسة الكتب الدينية والدراسية، وأهدت كلا من الجالية اللبنانية والباكستانية مجموعة أسطوانات القرآن المرتل.. وقد استقدمت الجالية اللبنانية بسيدني على نفقتها إماما متفقها يسمى الشيخ عبد الحميد حدارة وهو شاب لبناني تخرج في كلية أصول الدين بالجامع الأزهر عام 1965، ويتولى الآن تعليم الكبار والصغار اللغة والدين.

 والمسجد الوحيد في هذه الولاية هو مسجد صغير قديم في منطقة بروکن هیل. وقد أهمل حتى كادت تتداعى جدرانه، وإذا لم تدرکه رعاية المسلمين فسوف يصدر قرار بالاستيلاء عليه كما صدر على أخ له من قبل.

ولاية فيكتوريا:

دخل الإسلام هذه الولاية عام 1854 مع قوافل الجمال أيضا؛ ومع أن المسلمين الأول وفدوا بكثرة على هذه الولاية وخاصة وقت اكتشاف الذهب، إلا أنهم تفرقوا في مناطق عديدة كبنديجو، وأرارات ویالورن وريبون وبیرك، ولم يتركوا أثرا يثبت وجودهم، وذابوا في المجتمع الأسترالي، ولم يبق لهم من صلة بأصلهم سوى اللون.

وبعد الحرب الأولى جاء فريق من الألبان المسلمين فسكنوا منطقة شبيرتون، وهي تبعد نحو مائة میل من العاصمة ملبورن، واشتغل هؤلاء الألبان بالزراعة، وبنوا مسجدا يحيون فيه شعائر الدين وقد استطاع بعضهم أن يحصل على ثروات كبيرة من عمله بالزراعة.

وبعد الحرب الثانية وفد إلى فيكتوريا عدد من اليوغسلاف، وهم في أستراليا أكثر المسلمين نشاطا وإخلاصا للدعوة، وعدد آخر من القبارصة الأتراك. واللبنانيون يمثلون رکناً مهما في جالية فيكتوريا وتقع على زعيمهم الشيخ فهمي إمام مسؤولية التعليم الديني للجالية كلها والتعليم العربي لأبناء اللبنانيين المسلمين، ويبلغ تعداد الجالية المسلمة في فيكتوريا نحو ثلاثة آلاف مسلم.

وقد أسهمت الجمهورية العربية المتحدة في الدعوة إلى حركة جديدة تسعى إلى تنظيم الجالية في هذه الولاية وجمعهم في صف واحد، فتكونت من جمعية ترعى شؤونهم، وتقوم بمهمة نشر الدعوة والثقافة بينهم.  واكتتبت الجالية واشترت من عهد قریب مبنى اتخذته مصلى ومكانا للاجتماع، وقد أهدت الجمهورية العربية المتحدة هذه الجمعية مجموعة أسطوانات القرآن المرتل ومجموعة من الكتب العربية والإسلامية.

وفي مارس 1964 عقد بملبورن مؤتمر عام الجمعيات الإسلامية بأستراليا، اشتركت فيه سفارات الجمهورية العربية المتحدة وباكستان وماليزيا وأندونيسيا. وأسفر المؤتمر عن تكوين اتحاد عام للجمعيات الإسلامية مهمته تنظیم الجمعيات الفرعية وتوجيهها ونشر الدعوة بين المسلمين، كما أسفر المؤتمر عن إصدار مجلة إسلامية تسمى "المنارة"، تهدف إلى التثقيف الدیني ونشر أنباء العالم الإسلامي، وعن افتتاح مدرسة في كل ولاية تعلم الدين والقرآن.

ويعد هذا المؤتمر خطوة محمودة موفقة إذا وجدت التوجيه السليم، وإذا وجهت عنایتها إلى تحرير بعض المسلمين هنالك من التعصب المقيت والمغالاة في التزمت الذي ليس من الدين في شيء، وإلى تخليص فئة منهم من الانحراف بالانسياق الأعمى لنظم الحياة الأوربية وعاداتها.

وحقیق بأبناء العالم الإسلامي أن يمدوا يد العون لإخوانهم في أستراليا أدبيا وثقافيا، حتى يثبت کیانهم في هذه البلاد البعيدة، وحتى يشتد عودهم وتقوی عزائمهم، وتعلو بهم هناك كلمة الحق وترتفع منارة الإسلام.

0 شخص قام بالإعجاب



شاهد أيضاً