المسلمون في أستراليا (1)مقالات

علي الحديدي

المصدر: مجلة المجلة: العدد: 113، 1 مايو 1966 م

 

علي الحديدي[1]

قصة الإسلام في أستراليا حدث ينبض بالحياة والقوة، فقد عاصر مراحل التطور في هذه القارة منذ اكتشافها ودَخَلها مع الرواد الأُول الذين هاجروا إليها ليتخذوها موطنا. ولم يكن دخول الإسلام أستراليا عرضا أو بالصدفة، أو بمجرد هجرة بعض المسلمين إليها مع أمواج البشر الذين يرحلون إليها من أواخر القرن الثامن عشر، بل كان ضرورة من ضرورات الحياة في القارة الجديدة، وعاملا مهما من عوامل إعدادها لتكون وطنا ومقرا لسكانها الجدد.

وأستراليا، كما هو معروف، أحدث قارات العالم اكتشافاً، أو هي القارة الجديدة القديمة. الجديدة بالنسبة للإنسان الحديث، لأنها لم تكتشف إلا في القرن السابع عشر، ولم تبدأ المدنية في غزوها وتعميرها إلا في القرن الثامن عشر. ومع جدتها وحداثتها، فهي قديمة قدم الزمن، فقد كانت تتصل بآسيا أو أمريكا الجنوبية، ثم فصلتها البراكين من ملايين السنين، وعزلها المحيط الهندي من ناحية والمحيط الهادي من ناحية أخرى فتوارت عن الأنظار.

ولم يكن وجود أستراليا مجهولا تماما لدى جيرانها من جنس الملايو والبولونیز، بل كانت معروفة لديهم معرفة غير محددة. وقد حدثت زيارات متعددة على مر الزمن لساحل أستراليا الشمالي قام بها بعض سكان أندونيسيا والملايو، وهي زیارات تقليدية ما زالت تحدث حتى اليوم، وسواء كانت هذه الزيارات اختيارية لصيد السمك واللؤلؤ من شاطئ أستراليا الشمالي - وهو غني بهما - أم اضطرارية حين تدفع الريح والأنواء قواربهم فتضل طريقها حتى تصل إليها، فقد وجد العلماء آثارا ومخلفات لزيارات قصيرة أجنبية أثبت البحث العلمي أنها تنسب إلى جنس الملايو وحتی جنس الأبوريجينيز، وهو الشعب الأصلي لأستراليا وجد بعض أفراده مخلطين بدم جيرانهم من جنس الملايو.

وكأن الشاطىء الشمالي للقارة، وهو الصحراوي القاحل الخالي من المياه والزرع والحياة، وقف ليصد عنها غزو جيرانها الآسيويين. فلم يكن عنوانها جذابا لأستراليا، فيغري باستيطانها أو بالهجرة إليها من البلاد المجاورة الآسيوية التي تفيض خيرا ونعمة، فانصرفوا عنها، واعتقدوا أن القارة كلها على هذه الوتيرة من الجفاف والقحط فتجنبوها، وأطلقوا عليها اسم "الأرض المجهولة"، وساد الاعتقاد بينهم في الزمن القديم أنها إنما وجدت لتقوم بمهمة التوازن بين نصف العالم الشمالي المليء بالسكان، ونصفه الجنوبي بسكانه القليلين.

كان الهولنديون أول من اكتشف أستراليا من الأوربيين عام 1606، وأطلقوا عليها اسم "هولندا الجديدة" ولكنهم كانوا في شغل عنها بمستعمراتهم الواسعة الثراء، كأندونيسيا وجزر الهند، فلم يولوها اهتماما وإن أبقوا نبأ اکتشافها سراً، حتى لا تسبقهم إليها دولة من الدول الأوربية وكانت كلها وقتذاك مصابة بحمى التوسع والاستعمار. وظلت القارة مهملة حتى عام 1770 حين وفد إليها جيمس كوك، الإنجليزي، فطاف بها، وعرف شواطئها الأخرى واکتشف صلاحيتها للحياة والزراعة فأعلنها مستعمرة بريطانية.

وفي عام 1788 اتخذتها بريطانيا مهجرا ومنفی للمجرمين الذين اكتظت بهم سجونها وظلت القارة سجناً کبیرا للذين لفظهم المجتمع لجرائمهم وللمضطهدين سياسيا من أسكتلاندا وإيرلاندا، ولمن فروا من التعصب الديني من الكاثوليك حتى عام 1840، ثم زالت عن القارة هذه الوصمة وأعلنت مستعمرة مدنية، وفتحت أبواب الهجرة إليها لمن شاء من المواطنين، ومنذ ذلك التاريخ بدأت أستراليا تأخذ نصيبها من الحياة الحرة الكريمة وفي السنة التالية لهذا القرار أي في عام 1841 بدأ دخول الإسلام والمسلمين إليها.

ومحاولة البحث والدراسة والاستقصاء للهجرة الإسلامية إلى أستراليا محاولة يكتنفها كثير من الصعوبات، فليس هناك من المصادر المكتوبة عن هذه الهجرة ما يمكن للباحث الاعتماد عليها عدا سطور هنا وهناك في السجلات الرسمية الأسترالية. ولم ينكر أحد من المسلمين الأول الذين قادوا هذه الهجرة، أو حتى من الأجيال التالية لهم في تاريخ دخولهم أستراليا، كما فعل غیرهم من المهاجرين - ومن ثم فلا أدعي حين أتعرض لهذا البحث أنني وصلت فيه إلى درجة الإحاطة الكاملة أو الاستقراء التام، وإنما هي محاولة أولى أرجو أن تتبعها محاولات أخر وقد اعتمدت في هذا البحث على مصادر ثلاثة:

 أولها: السجلات الرسمية الأسترالية.

والثاني: المشافهة والنقل من المسلمين المعمرين من أولاد الرواد الأول في الولايات الأسترالية المختلفة، وهم منتشرون في طول البلاد وعرضها رغم قلة عددهم وما أطول البلاد وما أعرضها وما أبعد الشقة بين كل ولاية وولاية.

والثالث : التعرف بالمسلمين المعاصرين في أستراليا، والاشتراك في نشاط جالياتهم، والوقوف على مشكلاتهم مدة عامين قضيتهما في جامعة ملبورن بأستراليا ولو نظرنا إلى الخط البياني للهجرة الإسلامية إلى أستراليا، منذ بدأت عام 1841 حتى الآن - وقد قاربت أن يصل عمرها قرنا وربع قرن - لأمكن تقسيمها إلى مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى للهجرة وأسميها بعصر الرواد، فبعد أن سمح بالهجرة للمدنيين العاديين وفد إلى أستراليا طلاب الثروة والباحثون عن المغامرات، وهاجر إليها ألوان شتی کونت خليطاً عجبيا من أصحاب المصالح منهم المكتشف والعالم والنفعي والأفّاق، ثم الهارب من الاضطهاد الديني والمضطهد السياسي.

وسكن القادمون الجدد ومن عفي عنه من المسجونين القدامى سواحل القارة الشرقية والجنوبية والغربية، وذلك لوفرة المياه فيها وصلاحية أرضها للزراعة، ولسهولة المواصلات البحرية بين هذه السواحل من ناحية وبينها وبين الوطن الأم - إنجلترا - من ناحية أخرى. ثم أخذت أنظارهم تتجه إلى قلب القارة الغني بأرضه الزراعية، وثرواته، ولكن السبل وقفت بهم دون التوغل داخلها، وعاقتهم مشكلة المواصلات عن اقتحام مجاهلها ولم يستطيعوا اختراق المساحات الواسعة من الغابات الكثيفة التي تغطي السهول والجبال، وعجزوا عن عبور الآفاق المترامية من الصحراء في شمال القارة ووسطها وغربها، ولكنهم لم يستسلموا. فقد هداهم تفكيرهم إلى الاستعانة بقوافل الجمال، فكانت الحل العملي للمشكلة والوسيلة الموفقة لاكتشاف المجاهل الداخلية في وقت لم تكن المواصلات الآلية قد ظهرت في العالم.

واستقدم الأستراليون قوافل الجمال من سهول الهند وجبال أفغانستان، وكان الجمّالون الذين وقع عليهم الاختيار لحسن الحظ مسلمين، وذلك لسمعتهم الطيبة من الناحية الخلقية، ومن ناحية حسن أدائهم للعمل الذي يوكل إليهم.

نقلت قوافل الجمال حملات الاستكشاف والتجارة وحملت المعدات والأجهزة والبضائع والأغذية، واقتحم الجمّالون المسلمون القارة المستعصية على الأوربي الأبيض، ووصلت الجمال بين أطرافها واكتشفت المجهول منها، وشقت الطرق في أدغالها وصحاريها وسهولها، ثم سعت بالقوت والتجارة للذين وجدوا مستقبلهم في استغلال قلب القارة البكر.

ومع هذه القوافل، ومع الجمّالين الذين قادوها دخل الإسلام أستراليا، وكان الأستراليون الذين استوطنوا داخل القارة ينتظرون القوافل بصبر نافد، فهي الصلة بينهم وبين العالم، تحمل إليهم البريد والطعام والصحف، وتزودهم بالحاجيات والمطالب، وقد كانوا يهرعون لاستقبالها، وكان منظرا مألوفا لديهم أن يروا قواد القوافل وحراسها من المسلمين وقد افترشوا مصلاتهم وأذنوا للصلاة وأقاموا شعيرة الله.

حملت القوافل الدين الإسلامي معها في حلها وترحالها، حملته إلى كل بلد سافرت إليه، وإلى كل واد سارت فيه، وإلى كل بقعة اكتشفتها من "أديليد" جنوبا إلى "داروين" شمالا، ومن "بيرث" غربا إلى "سيدني" شرقا، ومن "بريزبين" في أعلى القارة إلى "ملبورن"، في أدناها، وقرئ القرآن في "أليس سبرنج"، وصحراء "فيكتوريا" قبل أن يقرأ فيهما إنجيل المسيح وارتفع صوت المؤذن بالدعوة الكبرى "حي على الصلاة" وفي مجاهل "كوينزلاند"، وفي الصحراء الغربية قبل أن يدق فيهما ناقوس الكنيسة.

وأخذت الحياة في القارة الجديدة تتطور مسرعة وأسهم المسلمون الوافدون إليها مع قوافل جمالهم من الهند وأفغانستان بقدر كبير في هذا التطوير وشاركوا في الأحداث التي مرت بها، كان لهم جهد مشکور في إنشاء المزارع ومراعي الأغنام والأبقار داخل القارة، وحملوا إليها المعدات والآلات ومواد البناء، ونقلوا المصانع الخفيفة لتصنيع المنتجات الزراعية والحيوانية، واشتركوا في حملات البحث عن الذهب والتنقيب عن المعادن. ولم تمض سنوات قليلة حتى كانت هذه القوافل تمثل جزءا مهما من مقومات الحياة التجارية والمدنية على السواحل.

وأدرك الأستراليون المستوطنون هذه الحقيقة، وفطنوا إلى ضرورة هذه القوافل لحياتهم الجديدة، بعد أن أصبحت كالشرايين تحمل الحياة بين أطراف القارة البعيدة، وغدت خيط النور يربط الذين يعيشون في قلب الأدغال المظلمة البعيدة بالعالم والمدنية على السواحل.

أدرك الأستراليون الأوربيون كل ذلك فأغرَوا قواد القوافل باستقدام أسرهم من الهند وأفغانستان ليستقروا معهم، وليشارکوهم الحياة الرغدة والرزق الموفور في الوطن الجديد. وكانت أسر هؤلاء الرواد هي الطلائع الأولى للحياة الإسلامية المستقرة، ونواة الجالية الإسلامية في أستراليا.

وعلى خريطة أستراليا ترك هؤلاء الرواد من المسلمين علامات وأسماء تخلد ذكراهم وترمز إلى جهودهم في اكتشاف القارة وإعدادها للحياة.. فهناك أماكن ما زالت تحمل أسماء إسلامية، أطلقها قواد القوافل المسلمون عليها حين اكتشفوها ومنها تل بیجاه، وخليف، وقنطرة، وکیب جافا ويطلق على خط السكة الحديدية الذي يصل بين اديلید وأليس سبرنج حتى الآن أسم "غان" - هو اختصار لكلمة أفغان - الاسم القديم للقافلة الأفغانية التي كانت تقطع هذا الطريق بجِمالها تحمل الحياة والزاد للذين يعيشون في قلب القارة قبل أن تدخلها السكة الحديدية والمواصلات الحديثة.

 ويسجل تاريخ أستراليا لقواد هذه القوافل من المسلمين فضلهم على كثير من مكتشفي مجاهل القارة الأوربيين، الذين دانوا لهم بحياتهم بعد أن أنقذوهم من موت محقق حين ضلوا وسط متاهات الصحراء وفي قلب الأدغال المترامية الأطراف، وحين لم تغن عنهم الوسائل الحديثة لمعرفة الاتجاهات شيئا، قادهم الجمّالون عندئذ بحاستهم الطبيعية إلى الأمل بعد اليأس وإلى السلامة بعد الخطر. والحياة بعد الموت.

 ومن هؤلاء الأعلام بيجاه درویش، وكان رئیس الجمّالين في حملة كالفيرت Calvert الاستكشافية المشهورة، وكانت تحت قيادة مستر ويلز. وقد كتب مستر ويلز في مذكراته يقول:

شیخ بيجاه أظهر قدرة فائقة على الاحتمال. وأنا مدين له ومن بقي من رجال الحملة بحياتنا، فقد أنقذنا من هلاك محقق. وأذكر عندما وصلت حالة الرحلة إلى أسوأ مراحلها وبعد أن أمضت الجمال سبعة وعشرين يوما من غير ماء، أخبرته والألم يحز في نفسي أن الجمال سوف تضطر إلى الصوم عن الطعام أيضا، لننقذ بغذائها الآدميين، فلم تتغير تعبيرات وجهه وإنما ومضت عيناه بوميض العزم والتصميم، ولم يزد عن قوله: وأنا معها سوف أصوم!!

وأراد اثنان من أعضاء الحملة البحث عن بئر في طريق جانبي، ولكن بیجاه حذرهما وأراد أن يمنعهما بالقوة، ولكنهما تغلبا عليه، ولم يستمعا لنصحه وذهبا، وبعد خمسة أيام تبعهما بيجاه، ثم عاد والأسى ينطق على وجهه بنهايتهما، ووضع أمامي بعض حاجياتهما وساعتيهما، وانصرف ليخفي دمعة ترقرقت في عينيه الجامدتين.

ومضى مستر ويلز في مذكراته يقول:

 "وأشرکتُ بیجاه معي في قيادة الحملة، فسار بنا في دروب ما كان ليخطر ببال أحد أنها طرق مأمونة، ولم يسبق لبشر أن سلكها قبلنا ولكنا بعد أيام قليلة لم ندر إلا ومشارف مدينة أديليد تظهر في الأفق، وانتابتنا موجة من الضحك والبكاء وأخذنا نحتضن بیجاه ونقبله. ولم أشأ أن ندخل المدينة على صورتنا المزرية المتهالكة، خاصة وقد حققنا نصرا عظيما لم يتحقق من قبل فقد قطعنا القارة من شمالها إلى جنوبها، وأمرت بحط الرحال وبعثت من يأتينا بطعام وشراب، ويخبر الناس بنجاتنا وبدور بيجاه في هذه النجاة، وقضيت طوال الليل أفكر في المصير الذي كان ينتظرنا وفيمن أنقذنا، أهو إله بيجاه الذي يولي وجهه إليه في مكة؟ أم هي حاسته الفطرية بمسالك الأرض وطرقها؟ ویخرجني بیجاه من حيرتي حين سألته بقوله: إنه ربي أسلمت إليه وجهي فهداني إلى الطريق!! وفي الصباح استقبلت أديليا بيجاه استقبال البطل، وأقام له مندوب الملكة مأدبة ملكية احتفاء به، ومنحه وساما اعترافا بفضله وجهوده".


* أوفدت الجمهورية العربية المتحدة الدكتور علي الحديدي أستاذا زائرا للدراسات العربية والإسلامية بجامعة ملبورن بأستراليا من فبراير 1963 إلى مارس 1965.

0 شخص قام بالإعجاب