البلغار المسلمونمقالات

عبدالوهاب عزام

المصدر: مجلة الثقافة، العدد 261، 28 ديسمبر 1943م.

 

أقدم ما يعي التاريخ من أخبار الإسلام في أوروبا الشرقية يرجع إلى بلاد البلغار، وهي ثانية البقاع الأوروبية استنارة بالإسلام، وأولاه الأندلس.

ولا يسبقن إلى الوهم أننا نعني بلاد البلغار المعروفة بهذا الاسم اليوم، وهي البلاد التي تقع جنوب نهر الطونة، فإننا نعني بلادًا أخرى كانت تسمى بهذا الاسم، وهو اسم القوم الذين استوطنوها ويجمعهم وبلغار هذا العصر أصول مشتركة، وأصولهم ترجع إلى أقوام من الجنس التركي مثل الجواش، وقد ذكر شمس الدين الدمشقي أن جماعة من البلغر مروا ببغداد في طريقهم إلى الحج فأقيم لهم من الديوان الإقامات الوافرة وما استعانوا به، وسألهم سائل: من أي الأمم أنتم؟ وما البلغر؟ فقالوا: قوم مستولدون بين الترك والصقالبة وليس بعيدًا أن يكونوا خالطوا الصقالبة حين جاوروهم.

وقد ميز مؤرخو العرب بين هؤلاء البلغار المسلمين وبين بلغار الطونة: قال ابن الأثير بعد ذكر حوادث وقعت بين الروم والبلغار في حدود سنة أربعمائة من الهجرة: (وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة، فإن هؤلاء أقرب إلى الروم من المسلمين بنحو شهرين، وكلاهما يسمى بلغارًا)، ولكن وقع الخلط بين أخبار المملكتين في كثير من الروايات الإسلامية.

وبلغار الطونة هم الذين ذكرهم المتنبي في قصائد سيف الدولة، كقوله عن ملك الروم:

يجمع الروس والصقالب والبلـ ** ـغر فيها وتجمع الآجالا

وكلمة بلغار اسم للقوم وللموطن الذي استوطنوه وللمدينة الكبرى في ذلك الوطن، ونجدها في بعض الروايات: بُلغر بغير ألف، وبرغر براءين، وبلار بإسقاط الغين، وبلكار.

***

كانت مملكة البلغار القديمة تمتد من جبال أورال في الشرق إلى مجرى نهر ولفا ونهر أورفا في الغرب، ونهر ولفا هو قلجا الذي يتردد ذكره في أنباء العالم كل حين، ويسمى في الكتب العربية والتركية نهر إِتل أو إدِل، وحدودها الجنوبية تمتد إلى البحر القزويني، أو ما يقرب منه، وقد اختلف على مر الزمان.

وأما الحدود الشمالية فكانت تنتهي إلى البلاد التي سماها القدماء أرض الظلمة يعون آخر المعمور المعروف في تلك العصور.

وقال ابن بطوطة بعد ذكر وصوله إلى البلغار: ((وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة، والدخول إليها من بلغار، وبينهما أربعون يومًا، ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤنة فيه وقلة الجدوى، والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار، فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا يثبت قدم الآدمي ولا حافرة الدابة فيها)).

وقد ذكر البلغار كثير من المؤرخين والجغرافيين والرحالين المسلمين، قال المسعودي: ((ومدينة برغر على ساحل بحر مانطس، وهو بحر متصل بخليج القسطنطينية وأرى أنهم في الإقليم السابع، وهم نوع من الترك والقوافل متصلة منهم إلى بلاد خوارزم وأرض خراسان ومن بلاد خوارزم إليهم، إلا أن ذلك بين بوادي غيرهم من الترك)). ولكن المسعودي خلط هؤلاء البلغار ببلغار البلقان حين قال: ((إن ملك البرغر يغزو بلاد القسطنطينية))، وحين قال: ((والبرغر أمة عظيمة في البأس ينقاد إليها من جاورها ولا تمتنع القسطنطينية منهم إلا بأسوار)).

كما أخطأ المسعودي حين قال: إن مدينة البرغر على بحر مانطس، أي البحر الأسود وقد استدرك عليه هذا الخطأ ياقوت في معجم البلدان، وتابع المسعودي في هذا الخلط.

وقال ابن رستة: وبلكار متاحة لبلاد برداس وهم نزول على حافة النهر الذي يصب في بحر الخزر والذي يسمى آتيل، وهم بين الخزر والصقالبة. وملكهم يسمى ألمس، وهو ينتحل الإسلام، وأرضوهم فياض ومشاجر ملتفة، والخزر تتاجرهم وتبايعهم.

وكذلك الروسية إليهم بصيرون بتجاراتهم، وهم قوم لهم زرع وحراثة يزرعون كل الحبوب من الحنطة والشعير والدخن وغير ذلك، وأكثرهم ينتحلون دين الإسلام، وفي محالهم مساجد ومكاتب ولهم مؤذنون وأئمة، وإذا جاءتهم سفن المسلمين للتجارة أخذوا منهم العشر، وملابسهم شبيهة بملابس المسلمين ولهم مقابر مثل مقابر المسلمين إلخ...)).

وقال أبو عبدالله الغرناطي: ((لسان الخزر والبلغار واحدة ولكن لسان البرطاس والروس مغايرة)).

***

وكانت مدينة بلغار حاضرة المملكة شرقي نهر آتيل (القلجا) على نصف فرسخ منه حيث الدرجة خمسة وخمسون من العرض الشمالي، والدرجة ست وستون من الطول الشرقي.

وقال ياقوت: بلغار مدينة الصقالبة ضاربة في الشمال، شديدة البرد لا يكاد يقلع الثلج عن أرضهم صيفًا ولا شتاء، وقلما يرى أهلها أرضًا ناشفة، وبناؤهم بالخشب وحده بأن يركبوا أعوادًا فوق عود ويسمروها بأوتاد من خشب أيضًا محكمة، والفواكه والخيرات بأرضهم لا تنجب.

وبين إتيل مدينة الخزر (وهي حاجطرخان أو أستراخان) وبلغار على طريق المفاوز نحو شهر، ويصعد إليها في نهر إتل نحو شهرين، وفي الحدود نحو عشرين يومًا.

ويقول أبو الفداء: (إن مدينة بُلار -ويقال لها بالعربية بلغار- بلدة في نهاية العمارة الشمالية، وهي قريبة من شط إتل من البر الشمالي الشرقي، وهي وسراي في بر واحد، وبينهما فوق عشرين مرحلة، وهي في وطأة من الأرض، والجبال منها على أقل من يوم).

ولا تزال آثار مدينة بلغار ظاهرة، بقايا مساجد وقصور، ورسوم خنادق ونحوها، وتدل الكتابة التي على بعض القبور هناك أنها ترجع إلى القرنين السابع والثامن بعد الهجرة.

وقد زار هذه الآثار الشيح محمود الداغستاني المتوفى في مدينة حاجطرخان (أستراخان) فأنشأ أبياتًا بالتركية منها:

شهر بلغاره كوكل شويله أو لبدر مشتاق ** همه بلغار كورينو ركوز مره ياقين يراق

شهر بلغاره كوكل قيامه برابر أصلا ** مصر وشام ويمن وشهر خراسان وعراق

((إن القلب يشتاق إلى مدينة بلغار شوقًا يقربها إلى أعينينا، أيها القلب لا تسوّ بمدينة بلغار مصر والشام وخراسان والعراق)).

وكذلك زارها سنة 1325ه محمد الرمزي مؤلف ((تلفيق الأخبار وتلقيح الآثار في وقائع قزان وبلغار وملوك التتار))، وتمثل فيها بأبيات عربية منها:

إن كنت مثلي للأحبة فاقدًا ** أو في فؤادك لوعة وغرامُ

قف في ديار الظاعنين ونادها ** يا دار ما فعلت بك الأيامُ؟

***

وأما دخول البلغار في الإسلام فقد روي أنه كان أيام المأمون العباسي والواثق، ولا يبعد أن يكون الإسلام عرف بينهم في ذلك الزمان، ولكن أكثر المؤرخين يؤرخون إسلامهم في عهد الخليفة المقتدر، وسندهم أن هؤلاء القوم أرسلوا وفدًا إلى بغداد سائلين الخليفة أن يرسل إليهم من يعلمهم الإسلام، فأرسل ابن فضلان في جماعة، وكتب هذا الرسول رسالة وصف رحلته منذ فارق بغداد إلى أن عاد إليها، ويؤخذ من هذه الرسالة أن الملك الذي استقبل رسول الخليفة كان أول ملك مسلم في بلغار، وهذه نُبَذٌ من رسالة ابن فضلان منقولة عن معجم البلدان:

قال ابن فضلان: ولما وصل كتاب ألمش بن بلكوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله العباسي وسأله فيها أن يبعث إليه من يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدًا، وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة في جميع بلده وأقطار مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له أجيب إلى ذلك ... ثم يقول ابن فضلان: ((فرحلنا من مدينة السلام لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة 309)) (وذلك 21 يونية سنة 921)، يقول ياقوت: ثم ذكر ما مر به في الطريق إلى خوارزم، ثم منها إلى بلاد الصقالبة مما يطول شرحه، ثم ينقل قول ابن فضلان:

ولما كنا من ملك الصقالبة، وهو الذي قصدنا له، على مسيرة يوم وليلة، وجه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده، وإخوته وأولاده، فاستقبلونا ومعهم الخبز واللحم والجادرس وساروا معنا، فلما صرنا منه على فرسخين تلقانا هو نفسه، فلما رآنا نزل وخر ساجدًا لله شكرًا، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قبابًا فنزلناها، وكان وصولنا إليه يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من المحرم سنة 340هـ (وذلك 12 مايو سنة 922).

يتبين من هذا أن رسول الخليفة قطع المسافة من بغداد إلى مدينة بلغار في سنة شمسية إلا عشرين يومًا، ويتبين كذلك أنه سار إلى خوارزم في طريقه، ويقول هو إنه قطع المسافة من الجرجانية مدينة خوارزم إلى غايته في سبعين يومًا، ويقول المستشرق الروسي بارتولد: نستدل من عدد الأيام التي أمضاها الوفد في رحلته أنه أتى من خوارزم إلى المجرى الأدنى لنهر إتل (قلجا)، ثم دخل منه إلى بلاد البلغار مخترقًا أرض الخزر والبرطاس.

يقول ابن فضلان: قأقمنا إلى يوم الأربعاء في القباب التي ضربت لنا حتى اجتمع ملوك أرضه وخواصه ليسمعوا قراءة الكتاب، فلما كان يوم الخميس نشرنا المطرزَين اللذَين كانا معنا (يظهر أنهما لواءان)، وأسرجنا الدابة بالسرج الموجهة إليه، وألبسناها السواد وعممناه، وأخرجت كتاب الخليفة فقرأته وهو قائم على قدميه، ثم قرأت كتاب الوزير حامد بن العباس، وهو قائم أيضًا وكان بدينًا، ونثر أصحابه علينا الدراهم وأخرجنا الهدايا وعرضناها عليه، ثم خلعنا على امرأته وكانت جالسة بجانبه، وهذه سنتهم ودأبهم، ثم وجه إلينا فحضرنا قبته، وعنده الملوك عن يمينه، وأمرنا أن نجلس على يساره، وأولاده جلوس بين يديه، وهو وحده على سرير مغشى بالديباج الرومي، فدعا بالمائدة فقدمت إليه وعليها لحم مشوي، فأبتدأ الملك وأخذ سكينًا وقطع لقمة فأكلها وثانية وثالثة، ثم قطع قطعة فدفعها إلى سوسن الرسول (رسوله إلى الخليفة)، فلما تناولها جاءته مائدة صغيرة فجعلت بين يده -وكذلك رسمهم، لا يمد أحد يده إلى أكل حتى يتناوله الملك، فإذا تناولها جاءته مائدة- ثم قطع قطعة وناولها الملك الذي عن يمينه فجاءته مائدة، ثم ناول الملك الثاني فجاءته مائدة، وكذلك حتى قدم إلى كل واحد من الذين بين يديه مائدة، وأكل كل واحد منا من مائدته لا يشاركه فيها أحد، ولا يتناول من مائدة غيره شيئًا، فإذا فرغ من الأكل حمل كل واحد منا ما بقي من مائدته إلى منزله، فلما فرغنا دعا بشراب العسل، وهم يسمونه السجو، فشرب وشربنا.

وهناك ينتهي ابن فضلان من وصف رحلته الطويلة المفيدة من بغداد إلى بلغار، ووصف استقبال الملك وخواصه إياه.