الإسلام دين ودنيامقالات

محمد الصادق عرجون

الإسلام شريعة الله الخالدة التي ختم الله بها شرائعه السماوية، ودستوره الأعظم وهو القرآن الكريم، والسنة الصحيحة الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهو في هذين الأصلين العظيمين – القرآن والسنة – نراه دينًا عمليًا، ينظر إلى الحياة نظرة اجتماعية، تثير في الناس عوامل التسابق إلى الخير والتنافس فيه.

والعمل للدنيا إذا قام على أصول الهداية الشرعية – يراه الإسلام تدينًا وعبادة، يحث عليه حثًا شديدًا، ويطلبه طلبًا مؤكدًا، ولم يقيد الإسلام الناس في طلبهم الدنيا والعمل لها بأكثر من أن تكون حلالًا طيبة، ولم يقيد العمل لها بأكثر من الإخلاص وحسن النية.

وقد فهم المسلمون الأولون من الصحابة والتابعين الذين كانوا يُحكِّمون الإسلام في حياتهم وكان الإسلام يعيش معهم ممثلًا في أعمالهم – الدين هذا الفهم الواعي، فلم يعطلوا سنن الله في الحياة، ولم يقعدوا عن العمل لإصلاح دنياهم، منقطعين في صوامع التعبد، تاركين السعي فيما ينفعهم، وينفع أمتهم، بل شمروا عن سواعد الجد في العمل للدين والدنيا، وكانوا يرون أن في العمل للدنيا عصمة للدين وعدة المجاهدين، فاستثاروا خزائن الأرض، وضربوا في أرجائها، ومشوا في مناكبها يبتغون من فضل الله استجابة لداعي إرشاده في قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) وعملًا على تقدير إنعامه، وشكرًا لمننه في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) وتمجيدًا لنعمة تسخير قوى الطبيعة لمنافع الناس وحاجاتهم، مما امتن به القرآن الكريم على الإنسان تحقيقًا لخلافة الله في الأرض في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً).

وفي هاتين الآيتين من الحث على العمل للدنيا ما لو عمل به المسلمون لكانوا اليوم في الرعيل الأول، وطليعة الأمم الراقية علمًا وقوة وكمالًا.

وليتأمل القارئ من الآيتين قوله تعالى "خلق لكم" وقوله "سخر لكم" ليرى بنافذ بصيرته أن الله الذي خلق الطبيعة، وأودع فيها من القوى والأسلال ما حير العقول، وأدهش العلماء قد بسط سلطان السيادة عليها للإنسان، وجعلها مخلوقة لأجله، ومسخرة له، ليكشف عن سرائرها، ويستخدم قواها فيما ينفعه ويرفع شأنه ويرفه عيشه، وفي هذا من أسرار المعارف الإنسانية، ومطارحات الأفكار ومدارك العقول ما يعد في نظر العلم من أعظم معجزات القرآن الكريم – ولكن المسلمين منذ أعرضوا عن العمل للدنيا، وانقمع سلطانهم عن خلافة الله في الأرض، فتقوضت دولتهم الموحدة لم يفهموا من أسرار القرآن العلمية وبارع حكمه في آياته الآفاقية ما كان يفهمه الصدر الأول من أسلافهم الذين لم يضيعوا الدين للدنيا، ولم يطرحوا الدنيا للدين.

وقد كان صفوة أصحاب رسل الله صلى الله عليه وسلم يشتغلون بالتجارة والزراعة، ويحترفون شتى الصناعات، وكانت أموال نامية، وثروات طائلة، يؤدون فيها حق الله تعالى حق القرابة، وحق الجار والصديق، وحق الوطن وأخوة الإسلام.

 

النشاط الإسلامي ينهض بالمجتمع:

وقد تولى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الخلافة وهو يحترف التجارة.

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف فيه للمسلمين. وروى ابن سعد قال! لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنهما، فقالا: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا: نفرض لك، ففرضوا له شطر شاة.

وكذلك كان عمر بن الخطاب تاجرًا يعمل في التجارة عمل المجتهد القوي حتى كان يقول: الهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج للتجارة، ولما تولى الخلافة أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إني كنت أمرا تاجرًا، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أنه يصلح لي من هذا المال؟ فقالوا: لك ما يصلحك، ويصلح عيالك بالمعروف. ليس لك من هذا الأمر غيره.

وكان عثمان بن عفان، وعبدالرحمن ابن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله من أكثر تجار المسلمين في الصدر الأول أموالًا، وأوسعهم ثراء حتى قيل أن ربع الثُّمُنِ في تركة بعضهم بلغ ثمانين ألفًا.

وكان الأنصار أهل غرس وزراعة، يعملون في حوائطهم ومزارعهم بأنفسهم فكثرت منها أرزاقهم واتسع ثراؤهم، فواسوا إخوانهم المهاجرين، وأيدوا دعوة الإسلام، وأنفقوا في سبيل الله. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل من تبوك استقبله معاذ بن جبل، فصافحه فأحس النبي صلى الله عليه وسلم في كفه خشونة، فقال معاذ: نعم أحترث بالمسحاة، أنفقه على عيالي، فقبله وقال ي لا تمسها النار. روي البخاري عن أبي هريرة قال يقولون: أن أبا هريرة يكثر الحديث، والموعد الله، ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وأن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت أمرأ مسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون واعي حين ينسون.

ومن عظيم عناية الإسلام التي تجعل العمل للدنيا من الدين أننا نجد القرآن الكريم يحث على الأخذ بأسباب الرزق والمرابحة في مواطن العبادة ومواسم الطاعة، قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) قال ابن عباس أي في مواسم الحج روى البخاري في سبب نزولها عنه قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجرا الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك – فنزلت الآية.

 

العمل للدنيا من الدين

وليس أدل على تقدير الإسلام للعمل للدنيا من أن الله تعالى جعل التجارة باعثًا من بواعث الحج، وحكمة من حكمه فقال: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) قال مجاهد: المنافع هنا هي التجارة، وجعلها من فضل الله فقال جلت حكمته: (وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة التاجر الصدوق فقال: "التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين".

وكما عني الإسلام بالتجارة – وهي من أهم أعمال الدنيا – عني بالزراعة وحض عليها، ورغب فيها روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يغرس مسلم غرسًا ولا زرعًا، فيأكل منه سبع أو طائر أو شيء إلا كان له في أجر) وذكرها القرآن في معرض الامتنان والتدليل على بديع صنع الله تعالى فقال: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) ؟.

وكذلك عظم الإسلام شأن سائر الصناعات والحرف على اختلاف فنونها. روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى رجل يقال له أبو رافع يحترف الصياغة، فوجده يقرأ ويصوغ فقال له: يا أبا رافع أنت خير مني، تؤدي حق الله تعالى، وحق مواليك – وروى أن وفد عبدالقيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سألهم: ما المروءة فيكم؟ قالوا العفة والحرفة، وكان عمر بن الخطاب إذا نظر للرجل فأعجبه سأل: أله حرفة؟ فإذا قالوا: لا سقط من عينه.

ومن تعظيم الإسلام لمرافق الأرزاق ومجامع الأموال، واعتبار العمل للدنيا من الدين أنه جعل التجارة والزراعة، وسائر أصناف الصناعات من فروض الكفاية التي يجب على الأمة القيام بها، والتي لا بد أن يوجد في أبنائها من يسد حاجتها، ويكفيها أمرها حسبما يقضي به عصرها، ولا سيما الصناعات العلمية وصناعات الدفاع وحماية الأوطان. قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) – ونحن في عصر تتسابق فيه الأمم لترقية صناعاتها، وتنمية تجاراتها وإكثار مزروعاتها، ولا يمكننا اللحاق بها إلا إذا نافسناها في طرائقها، وأعمالها في حدود تعاليم ديننا وشريعتنا.

وقد كان المسلمون الأولون في عصر الصحابة والتابعين من أحرص الناس على استصلاح أموالهم وما خوّلهم الله من نعمة الدنيا، لعرفانهم قدرها في حفظ الدين والكرامة وعزة الأوطان، ومواساة الإخوان، وأداء الحقوق والواجبات، واكتساب المودات. قال سعيد بن المسيب وكان يتجر في الزيت – ولأن عتبة بن أبي سفيان ماله بالحجاز فقال: تعهد صغير مالي يكبر، ولا تجف كبيره فيصغر فإنه ليس يمنعني كثير ما في يدي من إصلاح قليل مالي ولا يشغلني قليل ما في يدي عن الصبر على كثير ما ينوبني.

وكان زياد بن أبي سفيان يقول: لو أن لي ألف ألف درهم ولي بعير أجرب لقمت به قيام من لا يملك غيره. وقال عمر بن الخطاب: أصلحوا أرزاقكم، فإن في الأمر متنفسًا، ويروى أن قومًا أتوا قيس بن سعد الأنصاري يسألونه حَمَالة (أي دية يحملها عنهم) – وكان أحد أجواد الإسلام، فصادفوه في حائط له يتتبع ما يسقط من الثمر، فيعزل جيده ورديئه، فقاموا حتى فرغ، فكلموه في الذي جاءوا له، فبذل لهم قيس رضي الله عنه: بما رأيتم فعلي أمكنني أن أقضي حاجتكم.

فليتأمل أبناء وطننا وإخواننا في أقطار الإسلام صنيع أسلافنا الأماجد وما كانوا عليه من العمل للدنيا مع العمل للدين، وقد ملكوا الدنيا وسادوها، وما يطالعنا به تاريخهم من الحرص الموفق في مباشرة تثمير ديارهم وإصلاح أموالهم، ليؤوا فيها الحقوق والواجبات، ويرفعوا بها شأن أمتهم وأوطانهم.

 

كلكم خير منه

والإسلام حارب البطالة والكسل، وطارد الاستجداء والتعطل، وحث على الجد والعمل، بل جعل العمل للدنيا في سبيل الكرامة والعزة أفضل من أمهات العبادات في التطوع.

روى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قومًا قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن فلانًا يصوم النهار، ويقوم الليل ويكثر الذكر: فقال أيكم كان يكفيه طعامه وشرابه فقالوا: كلنا. قال كلكم خير منه. روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود علي السلام كان يأكل من عمل يده). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه، أو يمنعه".

روى أبو داود في سننه قال: أتى رجل من الأنصار يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أما في بيتك شيء؟ قال: بل حِلْس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقَعب نشرب فيه الماء، فقال ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما بدرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثًا قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، فأعطاهما للأنصاري، وقال له اشتر بأحدهما طعامًا، فانبذه لأهلك، واشتر بالآخر قدومًا فأتني به، فأتاه، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال له اذهب، واحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا، ففعل، ثم جاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضهما طعامًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، أن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع.

 

الفراغ مفسدة

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أحذركم عاقبة الفراغ فإنه أجمع للمكروه. ويقول: إن كان الشغل مجهدة فالفراغ مفسدة. ويقول: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن الله تعالى يرزق الناس بعضهم من بعض، وكان عمر يحب القوة في العمل ويكره التماوت والاستضعاف. روى أن نظر إلى رجل يتخاشع، ويتماوت ويظهر نسكًا وتعبدًا، فخفقه بالدرة وقال: لا تمِتْ علينا ديننا – أمانك الله، وكان يقول: يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم، لا يزيد الخضوع على ما في القلب. وكان ينصح المسلمين بعلو الهمة فيقول: اجتهد ألا تكون دَنيء الهمة، فأنى ما رأيت شيئًا اسقط لقوم من تدانى الهمة، ويقول: ليس خيركم من عمل للآخرة وترك الدنيا أو عمل للدنيا وترك الآخرة – ولكن خيركم من أخذ من هذه ومن هذه.

1 شخص قام بالإعجاب