إن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى حكمة وتخطيط بعيدًا عن الارتجالية والعشوائية؛ ليكون الناتج مدعوًّا سويًّا يعلم كيف يسير على طريق الصلاح، وكيف يصعد سلَّم الالتزام بقيم الإسلام دون اضطراب.
فحتى ينجح الداعية في دعوته ويبلِّغ رسالة ربه؛ عليه أن يعرف ما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها، فيعرف ماذا يقدِّم وماذا يؤخِّر للمدعوِّين؛ فمن حكمة الداعية أن يعلم من أين يبدأ دعوته، وكيف يتدرَّج فيها من حيث الأولوياتُ في عرض دعوته التي تختلف من شخص لآخر، ومن بيئة لأخرى، فعليه ترتيب الأولويات والبَدْء بها، والتتابع فيها وَفْقًا لأهميتها ولمناسبتها للمدعوِّين وظروفهم والأنفع لهم في الدعوة، وعرض الأمور بحكمة في وقتها المناسب، فلا يقدِّم الْمُهِمَّ على الأهمِّ، ولا يقدِّم القضايا الفرعية على القضايا الأساسية والأصول، أو يقدِّم عرض المندوب على الواجب والفرض، أو ينهى عن مكروه قبل المحرَّمات والكبائر، فتتزاحم الأمور وتكثر أو تتعارض على المدعوِّين، فعلى الدعية أن يبدأ بعرض ما يراه أهمَّ وأَوْلى بالنسبة للمدعوِّ على غيره من الأقلِّ أهميةً، فيضع كل أمر في وقته ووضعه الملائم للمدعوِّين؛ فذلك أدعى لقبول المدعوِّين للدعوة والحقِّ، وحدوث النتيجة المرجوَّة من الدعوة.
إن عدم مراعاة الأولويات في الدعوة يصيبها بالاضطراب والخلل، فتَضيع أوقات كثيرة من الدعاة، وتُهدَر الجهود والطاقات دون الفائدة والنتائج المرجوَّة، وربما تأتي بنتائج عكسية أو لا تأتي بثمرة أصلاً.
وإن فقه الأولويات يحتاج من الداعية إلى بصيرة وحكمة في دعوته، ورؤية واضحة لنهجه في الدعوة إلى الله تعالى، فيحفظ وقته وجهده، ويكون أدعى لقبول المدعوين؛ فعلى الداعية أن يجزِّئ الدعوة للمدعوين، لا يَعرِضها جملة واحدة، فتصير ثقيلة على نفوسهم مع تجاذبات نفسية وتشويش؛ إذ لكل شيء بداية ومدخل ومفتاح؛ فليبدأ بعرض عقيدة التوحيد بأسلوب سهل ميسَّر يأسر القلب، ويلامس الروح، ويخاطب العقل، ويثير الأحاسيس والعواطف الوِجدانية والإنسانية، ويسمو بها، فيشرح للمدعوِّين معنى التوحيد بأنواعه: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ومعنى الشهادتين ولوازمهما، ولماذا خلق الله الإنسان؟ وكيف يعبد الله تعالى ويستجيب له ويطيع أوامر الله ورسوله ويجتنب كل النواهي؟
أي: إنه عليه بالبَدء بالدعوة إلى التوحيد قبل العبادات، وإلى الإيمان قبل الأحكام، والخوف من الله ومراقبته ومحبَّته قبل النهي عن النواهي والمحرَّمات.
وإن الشريعة الإسلامية - بما جاء في القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة - قد وضعت معايير لبيان الأَوْلى والأحب إلى الله تعالى من الشرائع والأحكام والأعمال والقيم والتكاليف، وكذلك الأعمال الخاطئة والسيئة، فبيَّنت التفاوت فيها عند الله؛ من فرائضَ وواجباتٍ ومستحبَّات، وكبائر وصغائر ومكروهات، وغير ذلك.
والداعية في ذلك يتأسَّى بهَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإن أول ما بدأ به دعوته أهل مكة بعد الجهر بها أنه دعاهم لتوحيد الله وإزالة الأوثان التي صنعوها ووضعوها حول الكعبة؛ لتثبيت العقيدة وإزالة أوهام الشرك من قلوبهم وعقولهم، ظلَّ يدعو قومه ثلاثَ عشْرةَ سنةً إلى العقائد وبعض العبادات حتى وقرت في قلوبهم، وتَشَرَّبتها نفوسهم، وسارت بها حياتهم، وبعد أن ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا"[1].
قال ابن حجر - رحمه الله -: "أَشَارَتْ إِلَى الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ الدُّعَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّبْشِيرُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُطِيعِ بِالْجَنَّةِ وَلِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي بِالنَّار،ِ فَلَمَّا اطْمَأَنَّتِ النُّفُوسُ عَلَى ذَلِكَ، أُنْزِلَتِ الْأَحْكَامُ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا: لَا نَدَعُهَا؛ وَذَلِكَ لِمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْ تَرْكِ الْمَأْلُوفِ"[2].
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه رضوان الله عليهم باتِّباع فقه الأولويات في دعوتهم وتبليغ رسالة ربهم؛ مثلما أوصى معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن؛ فعن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ))[3].
قال ابن حجر – رحمه الله -: "بَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَذَلِكَ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَالَبَهُمْ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْمَنِ النُّفْرَة"[4].
فعلى الداعية مراعاة حال المدعو ومستواه العقليِّ، فما يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر، وما يفهمه أحد المدعوِّين قد لا يفهمه مدعوٌّ آخَرُ؛ قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!"[5].
ومن هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يسأله بعض الصحابة السؤال نفسه بمعناه في مواقفَ مختلفةٍ، فتختلف إجاباته باختلاف شخصية السائل؛ ومن ثم اختلاف حال السائل وما يحتاجه ومستوى فَهْمِه، وهاك مثلاً:
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: ((تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ))[6].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ))، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((حَجٌّ مَبْرُورٌ))[7].
وعن عَبْدِاللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا))، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ))، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي[8].
وغيرها من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب.
قال ابن حجر – رحمه الله -: "قَالَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافُ الْأَجْوِبَةِ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَاحْتِيَاجِ الْمُخَاطَبِينَ وَذَكَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ السَّائِلُ وَالسَّامِعُونَ وَتَرَكَ مَا عَلِمُوهُ"[9].
وثمة أولويات أخرى على الداعية أن يراعيَها؛ مثل البَدء بدعوة الأقربين، فلا ينبغي أن يجتهد الداعية في دعوة الناس ويهمل أهله وأقرباءه؛ قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، ثم البَدء بدعوة من يتوسَّم فيهم الداعية أنهم من أهل الخير ومحبِّيه؛ كما وجَّه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عندما اهتمَّ بدعوة كفَّار قريش من سادتها المستكبرين المعرِضين وأقبل عليهم، وتلهَّى عن ابن أم مكتوم الأعمى الذي أقبل عليه؛ قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10].
هذا وإن ترتيب الأولويات في الدعوة إلى الله هو من حكمة الداعية وبصيرته، وليس قواعدَ صمَّاءَ؛ فلا مانع أن يقدِّم الداعية المهمَّ على الأهمِّ والأَوْلى في بعض الحالات إذا رأى مصلحة في ذلك؛ ففي بعض الأحوال يترجَّح المفضول على الفاضل، ويتعيَّن الدعوة إليه لحاجة أو ضرورة.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.