العصاة

الملفات الدعوية ذات العلاقة
  • التعريف

هم مَن كان عندهم أصل الإيمان الشرعي وهو التصديق والانقياد، لكنهم يخالفون بعض أوامر الشرع ويرتكبون بعض نواهيه، ومنهم المكثِر من المعاصي، ومنهم المقِلّ، ومنهم بين ذلك على درجات كثيرة جدًّا ومتنوعة جدًّا، لا يحصيها إلّا الله تعالى. وهم الغالبية العظمى من المسلمين.

والفاسق الملي العاصي عند أهل السنة والجماعة لا يُنفَى عنه مطلق الإيمان، ولا يأخذ اسم الإيمان المطلق، وبقدر ما فيه من المعصية ينقص إيمانه، ولا يقال بخلوده في نار جهنم، بل هو تحت مشيئة الإله جل جلاله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء آخذه.

  • السمات و الخصائص

1- العصاة تغلبهم شهوتهم: فهم يحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويكرهون المعاصي لكن تغلبهم شهوتهم، فالعاصي لا يقدم على المعصية إلا مع غلبة الشهوة، ويكون مبغضًا لها، كارهًا لها.

فالمسلم قد تغلبه شهوته، ويقبل إغراء الشيطان فيرتكب المعصية؛ لأنّ العقاب على الذنوب شيء موعود به في الآخرة، ولذائذ الدنيا المحرَّمة شيء حاضر، والنفس مجبولة على التأثُّر بالحاضر لا بالغائب، وإن كانت عاقبة الحاضر مُرَّة وعاقبة الغائب حلوة، ولا يمنعها من هذا التأثير إلّا الإيمان القوي المنير الذي يجعل الغائب كالحاضر، فيكون التأثر به لا بالحاضر المحسوس فعلًا، قال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا﴾، فالإنسان بطبيعته يؤثر اللذة العاجلة -وإن كانت تافهة- على اللذة الآجلة -وإن كانت جسيمة، ومع ضعف الإيمان يقوى هذا الطبع وهذه الجِبّلة في الإنسان، فيستسهل ارتكاب المخالفة ابتغاء اللذة العاجلة، أو دفع المشقة العاجلة، لا سيما مع أمل البقاء والتوبة في المستقبل وتسكين النفس بأمل عفو الله تعالى.

2- العصاة جهلة: فلولا جهل العاصي لما عصى الله تعالى، قال ربنا -: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ، قال مجاهد وغير واحد من أهل العلم: كل من عصى الله خطأً أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع من الذنب. وقال قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدِّث أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وعن مجاهد أيضًا قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عمله. وعن ابن عباس: من جهالته عمل السوء.

ووجه جهل العاصي أنّه يجهل قدر ربه، وما يجب له من طاعة لحق ربوبيته وألوهيته وعظمته وكمال إنعامه على عبده، وكمال فقر العبد له، وعدم خفاء شيء على الله تعالى مِمّا عمل الخلق، وأنهم مجزيون على أعمالهم.

ومن جهل العاصي جهله بضرر الذنوب، وكان ينبغي أن ينفر منها أشد من نفرته من الحيات والعقارب، ولا يلامسها ولا يضعها على جسمه، ولكنَّ العاصي من جهله يقبل عليها ويباشرها.

ومن جهله أن يؤثر العاجلة على الآخرة، وما نسبة العاجلة وما فيها من لذائذ إلى نعيم الآخرة إلّا كنسبة ما يعلق بالأصبع إذا غمستها في البحر إلى مائه.

ومن جهله التسويف وطول الأمل وتأجيل التوبة، ولم يعلم أن الموت أقرب إلى الإنسان من شراك نعله، وأنه لا يستأذنه إذا حان الأجل.

ومن جهله أنّه يتعب كثيرًا، ويترك لذائذ كثيرة في سبيل ظفره بربحٍ آجل في الدنيا، ولو عقل لفعل للآخرة ما يفعله لنوال هذا الربح.

ألا ترى الطالب يحبس نفسه في بيته يقرأ ويدرس أيامًا وأسابيع لينجح في الامتحان، وإن فاتته بعض اللذات، والتاجر يركب الأخطار ويفارق أهله ويقطع الفيافي والقفار ليربح شيئًا من المال، فلماذا لا يعمل للآخرة كما يعمل في هذه الأحوال، ثم أليس من جهل العاصي أنّه إذا سمع قول طبيب يخبره أنّه إذا شرب كذا أو أكل كذا مات، أو كان على خطر شديد، فإنه يتَّبِع نصيحة الطبيب، ويفطم نفسه مما نهاه عنه، مع أنّ قول الطبيب يحتمل الخطأ، بينما ما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم من وعيد الله وعذابه لمن تخطّى حدوده هو خبر صدق ويقين قطعًا، فلماذا لا يأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ويأخذ بقول الطبيب، لولا جهله وجهالته؟

ومن جهل العاصي اتكاله على عفو الله ورحمته، ونسي أنّ رحمة الله قريب من المحسنين، وأنّ العارفين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم، وأنّ الراجي حقًّا من قام بالأسباب وانتظر رحمة العليم العلّام، كالذي يحرث الأرض ويلقي البذر ويقوم بالسقي ويتعَهَّد الزرع، ويرجوا أن يحفظ الله زرعه ويجنِّبه الآفات. أمّا الأحمق المغرور فهو الذي يترك أرضه تملأها الأشواك والأدغال، ولا يلقي فيها بذرًا، ويرجو أن ينبتها الله له.

  • توجيهات دعوية

وظيفة حملة الرسالة بالنسبة لهذا الصنف: تثبيت عقائد أفراده وتعميقها، وتكميل معارفهم بمفهومات الإسلام وأحكامه وشرائعه، والأخذ بأيديهم برفق، ومساعدتهم على نفوسهم بالتعليم والموعظة والتدريبات التطبيقية العملية، ارتقاءً بهم علمًا وعملًا، في درجات مرتبة التقوى، فدرجات مرتبة البر، فدرجات مرتبة الإحسان.

ولا بد في التدريب على السلوك الإسلامي من العناية دومًا بنوعي السلوك الباطن والظاهر معًا، لئلا يكون الظاهر عامرًا، والباطن خربًا، فيقع في النفاق، ولأن إعمار الظاهر بالعبادات القلبية يثمر العبادات الظاهرة.

والمقصود بإعمار الباطن: إعماره بالصدق والإخلاص لله في العمل، وابتغاء مرضاة الله تعالى ومحبته، والبراءة من الشرك والرياء والحقد والحسد، ومن الاعتراض على أحكام الله تعالى، وعلى مجاري قضائه وقدره في عطائه ومنعه، ونعمه ومصائبه، إلى غير ذلك من أعمال القلوب والنفوس.

إن الداعي ينظر إلى العصاة نظرة إشفاق ورحمة، فهو يراهم كالواقفين على حافِّة وادٍ عميق سحيق في ليلة ظلماء، يخاف عليهم من السقوط، ويعمل جهده لتخليصهم من الهلاك. وهو في سبيل هذا الغاية يتجاوز عن تجاوزهم على حقه إن كانت معصيتهم في حقه، ولا يعيرهم ولا يشمت بهم، ولا يحتقرهم افتخارًا بنفسه عليهم وإدلالًا بطاعته، ولكن له أن يستصغرهم لمعصيتهم وتجاوزهم حدود الشرع، وأن يغضب لهذا التجاوز، قالت عائشة -رضي الله عنها: «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلّا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله».

إن الداعية إلى الله تعالى يرى في حال العصاة مشهدين:

المشهد الأول: مشهد القدر: فيرى أن ما هم واقعون فيه إنما هو جار بقدر الله وإرادته، فيورثه ذلك رحمة بهم، وشفقة عليهم.

المشهد الثاني: مشهد الشرع: فيرى أن ما هم واقعون فيه مخالف لأمر الكريم المنان، الذي من حقه على عباده أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر، فيورثه ذلك غَيرةً على محارمه أن تنتهك، فيكون ذلك محركًا له وباعثًا على أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ودعوتهم إلى الله تعالى.

ومن محارم الله التي يغضب لها المسلم محاربة العصاة الدعوة إلى الله والصدِّ عن سبيله وإلحاق الأذى بالدعاة حتى يمتنعوا عنه القيام بواجب الدعوة، ففي هذه الأحوال ونحوها يجوز للداعي أن يسلك مع هؤلاء العصاة ما يكفّ به ضررهم عن الدعوة والدعاة بالقدر الذي يبيحه الشرع، على أن لا يتجاوز هذا القدر، وأن يتوسَّل بالأسهل فالأسهل من وسائل كفِّ ضررهم، مع رغبته التامّة في هدايتهم وصلاحهم.

  • قصص من القرآن الكريم

قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة:54].

هذه الآية يخبر الله تعالى فيها عن قصة توبة بني إسرائيل من عبادة العجل، وفيها دعوة موسى عليه السلام قومه للتوبة من تلك الجريمة العظمى، وهي الارتداد عن دين الله تعالى بعبادة العجل، وكانت توبتهم بقتلهم أنفسهم، إذ كانت شريعة بني إسرائيل قائمة على التشديد.

  • قصص من السنة النبوية

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانًا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبًا، فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له.

يستفاد من هذه القصة في دعوة العصاة:

• التحصُّن بالعلم.

• أن يكون بصيرًا بالواقع: كما كان العالِمُ بصيرًا بواقعه، عالِمًا بحال أهل هذه القرية.

• أن يترفق بالناس: ويكون مفتاحًا للخير، مِغلاقًا للشر، وأن يبث الأمل في النفوس.

• ألا يَيْئس من الناس ويَمَل: بل يحاول الدعوة مراتٍ ومراتٍ، حتى تنفتح مغاليق القلوب، فالنفس لا تعدم الخير كليًّا، فقط تحتاج المفتاح المناسب إن أراد الله لها الهداية.

• ألا ينعزل الداعية عن الناس: "لَأَنْ تُخالطَ الناس، وتصبر على أذاهم خيرٌ من ألاَّ تخالِطَهم، وألا تَصْبِرَ على أذاهم".

  • قصص من التاريخ الإسلامي

كان الفضيل يقطع الطريق وحدَه، فخرج ذات ليلة ليقطع الطريق فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلًا فقال: بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية فإن أمامنا رجلا يقطع الطريق يقال له: الفضيل.

قال: فسمع الفضيل فأرعد فقال: يا قوم! أنا الفضيل، جُوزُوا! والله لأجتهدن أن لا أعصي الله أبدًا، فرجع عما كان عليه.

وروي من طريق أخرى أنه أضافهم تلك الليلة وقال: أنتم آمنون من الفضيل وخرج يرتاد لهم علفا ثم رجع فسمع قارئا يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الحديد) [الحديد: 16] قال: بلى، والله قد آن، فكان هذا مبتدأ توبته.