كيف وصل الإسلام إلى شبه جزيرة القرم (أوكرانيا)؟ (2)مقالات


الروس يضطهدون مسلمي القرم:

عاث الروس فسادًا فور دخولهم شبه جزيرة القرم ودمروا الكثير من معالمها الحضارية بما فيها معالم مدينة "بخشي سراي" انتقامًا من البسالة التي أبداها "القرميون" في الدفاع عن جزيرتهم، وقد قام الروس بمصادرة خيرة أراضيها ووزعوها على النبلاء الروس تنفيذًا لخطة "الترويس" التي انتهجوها، وسمحوا بتدفق أفواج من المهاجرين الروس والسلاف واليونان والأوروبيين للعيش في شبه الجزيرة فوجد تتار القرم أنفسهم يخضعون لنظام تعسُّفي جائر يطردهم من أراضيهم الخصبة، فلم يروا أمامهم إلا سبيلًا وحيدًا للنجاة؛ وهو الرحيل الجماعي إلى أراضي الدولة العثمانية وخاصة بعد محاولات الحكومة الروسية تشجيع تتار القرم على الهجرة من ديارهم؛ مما جعل تاريخهم خلال مئة عام ونيف عبارة عن سلسلة طويلة من الهجرة الجماعية تمت في أشد حالات البؤس والتعاسة، هلك خلالها الآلاف المؤلفة مرضًا وجوعًا، فانخفض عددهم في غضون قرن من 500,000 نسمة إلى أقل من 200,000 نسمة؛ مما جعلهم أقلية في وطنهم أمام كتلة روسية تفوقهم ثروة وسطوة[1].

 

حرب القرم واستمرار معاناة القرميين:

وفي عام 1853م اندلعت حرب بين روسيا من جهة، والدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا وسردينيا من جهة أخرى، كان الهدف منها إحباط طموحات روسيا في منطقة البلقان، وفي عام 1854م قامت القوات البريطانية والفرنسية بعملية إنزال على شواطئ شبه جزيرة القرم، وضربت حصارًا حول مدينة "سفاستوبول" دام عامًا استطاعت بعدها القوات الفرنسية شنَّ هجوم ناجح استسلمت بعده المدينة، وفي عام 1856م انتهت الحرب بتوقيع معاهدة سلام في باريس، وقد دعيت هذه الحرب بحرب القرم.

بعد "حرب القرم" عمدت الحكومة الروسية إلى طرد أعداد كبيرة من تتار القرم بحجة انحيازهم إلى الأعداء، وقد استعملت القوة أحيانًا لتطبيق هذه الخطة، فهاجر العديد منهم إلى "إستانبول" وإلى "دبروجه" على الساحل الشمالي لبلغاريا تاركين أوطانهم وأملاكهم[2].

 

شبه جزيرة القرم تحت حكم الشيوعيين:

حاول أهل القرم المسلمون أن يستقلوا ذاتيًّا أوقات ضعف الدولة الروسية القيصرية في نهايات أيامها؛ لكن استيلاء البلاشفة الشيوعيين على الحكم عام 1917م أربك جميع خططهم؛ حيث بادر الشيوعيون بطرد "الروس البيض"[3] الذين اتخذوا من الجزيرة مقرًّا من مقراتهم، وقاموا بمهاجمة القرم عام 1920 م فواجهوا مقاومة شديدة واعتصم أهلها بالجبال وبدأت حرب عصابات مروعة، وعندئذٍ فرضت القوات البلشفية الروسية الحصار الشديد على أهل القرم حتى انتشرت المجاعة. وقد نشرت جريدة "أزفستيا" في عددها الصادر 15 تموز سنة (1341هـ) (۱۹۲۲م) تقريرًا للبلشفي "كالينين" الذي تولى أمر القرم تضمن ما يلي: (بلغ عدد الذين أصابتهم المجاعة في يناير 1341هـ (۱۹۲۲م): 302.000، مات منهم جوعًا 14,413، وفي مارس أصيب 379,000 بالمجاعة مات منهم بالمسغبة 19,902، وفي إبريل بلغ عدد الذين أصابتهم المجاعة 377.000 مات منهم 12,754، وفي يونيه بلغ عدد الذين أصابتهم المجاعة ۳۹۲,۰۷۲". ومن هذا التقرير يتضح أن من أصيبوا بالمجاعة الشديدة أكثر من مليون تتاري قرمي خلال الأشهر الستة الأولى من عام 1341هـ (۱۹۲۲م)، مات منهم بسبب الجوع أكثر من ستين ألفًا، بينما يقول تقرير رفعه الفارُّون من الاتحاد السوفيتي إلى عصبة الأمم أن الذين لقوا حتفهم في هذه المجاعة كانوا أكثر من مائة ألف مسلم.

وجاء في تقرير الرفيق "كالينين" الذي نشرته "أزفستيا" في 15 تموز سنة (1341هـ) (1922م) "أن أكل لحوم الأطفال بل والموتى لم يكن من الحوادث المستغربة أثناء تلك المجاعة"، وكان سكان القرم عندما دخلت القوات الروسية البلشفية خمسة ملايين نسمة من التتار المسلمين أُبِيد أكثرُهم حتى لم يبقَ عام 1359هـ (1940م) إلا نصفُ مليون فقط[4].

وكان في القرم عند دخول قوات لينين 1558 مسجدًا حطمت جميعًا وحُوِّلت إلى نوادٍ وإصطبلات ومتاحف.. حتى الجوامع الأثرية مثل "جامع خان" و"جامع اصماقيو" و"جامع طوزيازار" هدمت وحطمت أو حُوِّلت إلى متاحف[5].

 

انضمام القرم لأوكرانيا:

في عام 1990 م، اقترح الروس السوفيت إعادة قيام "جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية" ذاتية الحكم، وحاول الشيوعيون إجراء استفتاء على هذا الأمر؛ لكن بحلول ذلك الوقت كان تفكُّك الاتحاد السوفيتي جاريًا على قدم وساقٍ، وقد أُعيد قيام جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية ذاتية الحكم لمدة أقل من عام كجزء من أوكرانيا السوفيتية قبل استقلال أوكرانيا، وقد أبقت أوكرانيا المستقلة حديثًا على وضع جمهورية القرم ذاتية الحكم، في حين أكد مجلس القرم الأعلى على "سيادة" القرم كجزء من أوكرانيا، وفي عام 1995م حدَّت السلطات الأوكرانية من استقلالية القرم، وما زال إقليم القرم يمثل منطقة حدود متنازعًا عليها وأرضًا ذات نزاعات سياسية بين كل من روسيا وأوكرانيا.

 

• معنى كلمة "القرم"؛ أي: "القلعة"، وعاصمتها القديمة المدينة الجميلة "باغجة سراي"، أما العاصمة الحالية فهي "سيمفروبول".

• أصل تتار القرم يعود إلى الشعوب التركية في شرق ووسط آسيا، والتي انخرطت في جحافل القائد المغولي "جنكيز خان" خلال زحفه على آسيا وأوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي.

• سكن التتار منطقة القرم في عهد اتساع دولة مغول "القبيلة الذهبية" أواخر العهد العباسي، وقد قويت شوكتُهم، فبسطوا نفوذهم على المناطق الواقعة شمال البحر الأسود.

• انتزع مغول القبيلة الذهبية شبه جزيرة القرم من البيزنطيين عام 1239 م، ونشروا الإسلام بها في عهد خاناتها المسلمين.

• في عام 1287 م شهدت شبه جزيرة القرم إنشاء أول مسجد فيها وذلك في مدينة "سلخات"، برعاية سلطان مصر المملوكي بيبرس.

• استقر تتار القرم بشبه الجزيرة في نهاية النصف الأول من القرن الثامن الهجري، وكانوا قسمًا من دول المغول، ولم يكتمل القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) إلا وكانت جزيرة القرم إسلامية خالصة، وأصبح للقرم سلطان خاص بها من التتار.

• كانت خانية القرم من أقوى الممالك المسلمة بالمنطقة، وظلت شوكة في حلق الروس حتى سقطت عام 1198 هـ - 1783 م.

• عانى مسلمو القرم من مجاعات شديدة إبان الاحتلال الروسي، وحركة تشريد ضخمة قلصت الوجود الإسلامي بشبه جزيرة القرم، حتى ضمتها أوكرانيا في العصر الحديث وأصبحت من ممالك المسلمين المنسية.

 

[1] Akiner, Shirin, Islamic peoples of the Soviet Union, 2nd ed., London: KPI, 1986, p. 88.

[2] أقليات إسلامية منسية: المسلمون في تتارستان (روسيا)، القرم (أوكرانيا)، مقدونيا، اليونان، سعيد إبراهيم كريديه، صـ97.

[3] الحركة البيضاء (الحرس الأبيض) كانت تضم القوات السياسية والعسكرية الروسية المناهضة للبلشفية بعد ثورة أكتوبر 1917 م، وحاربت الجيش الأحمر خلال الحرب الأهلية الروسية بين سنتي 1917 و1923 م.

[4] كتاب الكيد الأحمر، عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، دار القلم - بيروت، 1400 هـ - 1980 م، صـ249-250، وكتاب الإسلام في وجه الزحف الأحمر، للشيخ محمد الغزالي، منشورات المختار الإسلامي - القاهرة، 1975 م، صـ109.

[5] المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، د. محمد علي البار، صـ124.