بورما مركز تجاري عريق، وبروز المسلمين:

كما ذُكِر آنفًا أن دخول الإسلام إلى بورما وانتشاره كان السبب الرئيس فيه يعود - بعد الله - إلى تجَّار العرب من منطقة الخليج وجنوب الجزيرة العربية، والذين كانت تنطلق قوافلهم من المدن الساحلية وبخاصة (البصرة) إلى الموانئ والثغور البحرية والنهرية الممتدة من بحر العرب حتى الصين وجزر الهند الشرقية المعروفة حاليًّا بـ"إندونيسيا"، وكانت "بورما" إحدى الطرق والممرَّات التي تسلكها القوافل التجارية المتجهة إلى الصين؛ حيث اعتاد التجار العرب واليمنيون زيارةَ مدينة "أكياب" عاصمة "أراكان" عن طريق البحر، والتجارة مع أهلها.

ويرى كثير من المؤرخين أن الإسلام انتشر في أرجاء البلاد في فترة وجيزة عن طريق هذه الصلات التجارية في المقام الأول، وبدأ الناس - بفضل الله - يدخلون في دين الله أفواجًا، وقد اعتنق الإسلامَ عددٌ كبيرٌ من السكان المحليين لتأثُّرهم بعرب المسلمين ومعاملاتهم التجارية الخالية من الغش والخِداع.

وكان ملك "أراكان" يكرمهم لأجل أخلاقهم الحميدة، ولا سيما بسبب امتلاكهم الحركة التجارية ومهارتهم في الملاحة، حتى إن كلمة "روهانجيا" اسم قديم لأراكان، ويقول (بومونق تان لوين) وهو مؤرخ مشهور لتاريخ أراكان: "إن كلمة أراكان مشتقة من الكلمة العربية (ركن) والمراد أن الإسلام أساس فيها وقائم على أركان الإسلام الخمسة"[1].

وقد استمر ورود العرب إلى أراكان حتى ورد رجال من بصرة العراق، وبنو لهم بليدة خاصة تسمى "بصرة" أو "باصرة"، ولما كان العرب أصحاب الشجاعة والمروءة والشهامة ويميلون إلى التعاون والصداقة دومًا، والإقدام في الحروب؛ لذا قد اتخذهم "راجاوات بورما" - أي الأمراء والملوك بها وكان يطلق على الواحد منهم لقب "راجا" - من المقربين، وخاصةً راجاوات "أراكان"، وكانت لهم مكانة خاصة في بلاطهم، وكانوا مقرَّبين من الأسرة الملكية، وآثرهم ملوك "أراكان" بالانضمام للجيش وتولي المناصب العليا في الدولة، ونالوا من "الراجاوات" الأنعام والقطاع والعقارات الثمينة حتى نبغ منهم أشهر مشاهير قوَّاد الجيوش وحكام المقاطعة مثل: "عبد الرحمن" في القرن السابع عشر، والحاج "علي خان" حاكم إقليم أراكان في القرن التاسع عشر، و"أشرف خان" القائد العام للعساكر، و"عبد الكريم" القاضي الشجاع في القرن الثامن عشر، ومولانا "محيي الدين الخطيب"، والشيخ "سليمان" المعروف بأونكي، والشيخ "فتح علي"... وغيرهم من الرجال البارزين في الحرب والسياسة[2].

الاحتلال البوذي لمملكة أراكان:

في عام 1784 م احتل أراكان الملك البوذي البورمي "بوداباي"، وضمَّ الإقليم إلى بورما؛ خوفًا من انتشار الإسلام في المنطقة، فأخذ يتعسَّف في معاملة المسلمين، وامتلأت السُّجون بهم، ورحل الكثيرون، ودمَّر "بوداباي" كثيرًا منَ الآثار الإسلاميَّة منَ المساجد والمدارس، وقتل الكثير من العلماء والدُّعاة، واستمر البوذيُّون البورميُّون في اضطهاد المسلمين ونهب خيراتهم وتشجيع البوذيين "الماغ" على ذلك خلال فترة احتلالهم الَّتي استمرت 40 سنة انتهت بمجيء الاستعمار البريطاني عام 1824 م، وضمها لحكومة الهند[3].

بورما والرحَّالة العرب:

يقول المؤرخ المستر "هاروي" في "تاريخه"[4]: إن التقدم والرفاهية والتهذيب في الأخلاق دخلت في بورما عن طريق الرحَّالة والتجَّار من العرب، وذكر أن من أشهر الرحَّالة من البلاد العربية الذين زاروا بورما ما يلي:

1- في عام 844 م ورد إليها الرحَّالة الكبير "ابن خرداذبة" من السيَّاح العرب، أتى من البصرة، وقال: إن ملك رحمة (بورما السفلى) مالك لخمسين ألف فيل، ويوجد فيها مخمل غالي الثمن.

2- وفي عام 851 م ورد إليها "ابن سليمان" من الخليج العربي وقال ما قال الأول مضيفًا: إن ملك رحمة (بورما السفلى) قليل المعروف فيما بين دول العالم إلا أن السلطة العسكرية أقوى وأزيد، واكتشف أن هناك مدينة اسمها "رامبري" كل سكانها من مسلمي العرب أصحاب الصناعة والتجَّار.

3- وفي عام 903 م ورد إليها "ابن الفقيه" من الخليج العربي وقال: إن في الهند مقاطعة اسمها رحمة (بورما السفلى) تقع على ساحل خليج بنغال تحكمها امرأة.

4- وزار "ابن بطوطة" - الرحَّالة المشهور المعروف - المنطقة في رحلاته، وذكر بلاد البنغال وذكر ملكها المسلم، ونجد أن بلاد أراكان ملاصقة لبلاد البنغال في الوقت الحاضر، وقد امتدت سيادة "أراكان" في الماضي إلى كثير من المناطق البنغالية حاليًّا[5].

السيطرة البوذية في العصر الحديث على بورما:

احتلت بريطانيا بورما في عام 1824 م، وأنهت الحكم البورمي، لكن معاناة مسلمي بورما لم تَنْتَهِ؛ إذ شكلت السياسة البريطانية وجهًا آخر لممارسات الحكم البورمي البوذي، إذ سعت - وبسياسة عنصرية - إلى إضعاف المسلمين الذين رفضوا الاحتلال البريطاني عبر مقاومته، وكان من نتيجة ذلك تقوية البوذيين في أراكان وبورما بشكل عام، وهو الأمر الذي انعكس على مأساة جديدة بعد عام 1948 م، وهو العام الذي استقلت فيه بورما كدولة تحت سلطة البورميين البوذيين، ما زالت آثارها حاضرة حتى يومنا هذا.