حضارة الإسلام في أذربيجان (2)مقالات


الصناعات والفنون:

اشتهرت أذربيجان في العهد الإسلامي بخصوبة أراضيها وكثرة أنهارها، وغاباتها الكثيفة حتى إن "ابن حوقل" يذكر شهرتها في المصنوعات الخشبية بقوله "والخشب على سائر ضروبه"[1]، ومن أشهر الأشجار التي كانت تنمو فيها الزان والبَلُّوط وأشجار الجوز.

وقد تميزت أذربيجان منذ قديم بوفرة المعادن والمناجم، وعلى رأسها الحديد الذي يستخرج من المنطقة المحيطة ببحيرة "أرمية"، وبلدة "زنجان"، وكذلك اشتهرت عيون النفط القريبة من "بحر قزوين".

كما ذكر الجغرافيون أنه كان يستخرج من بعض سواحل "أرمية" بورق الصناعة، واكتسبت هذه المادة أهميتها من استخدامها في لحام الذهب والفضة، وقد تم تصدير تلك المادة إلى فجاج الأرض، وكانت تدر الأرباح الطائلة على المتاجرين فيها[2]، إضافة إلى كثرة مناجم الملح الموجودة في أذربيجان وحول بحيرة "أرمية".

وحازت أذربيجان شهرة كبيرة قديمًا بتفجر عيون الماء المعدنية، لا سيما في مناطقها الجبلية، حيث ارتادها جموع من الناس لفترات طويلة للاستشفاء، وكانت توجد بالقرب من قلعة "اللان" وتمتاز بفوران الماء الساخن من العيون بدون نار، وكذا عين الماء الموجودة في بلدة "أبهر"، وتلك الموجودة بالقرب من مدينة "أرمية"[3].

واشتهرت أذربيجان بصناعات نسجية كثيرة، واستمرت هذه الصناعة بعد الفتح الإسلامي، ولقيت تشجيعًا كبيرًا من ولاة الإقليم المتعاقبين عليها، وقد حظيت صناعة المنسوجات القطنية بشهرة كبيرة؛ لجودة قطنها والعمالة المدربة، وصُنعت أنواع عديدة من الملابس من هذه الأنسجة، ومن أشهرها "ثياب البومبازين".

وصنعت الملابس الحريرية، وأشهر هذه الأنواع "الإبريسم"، وكانت هناك أنواع من الملابس تنسج بخيوط الذهب[4].

وقد اشتهرت مدن أذربيجان بتجفيف الفواكه، وكانت لها شهرة كبيرة في هذا المجال؛ حيث عرفت بإنتاجها الجيد من الزبيب الذي يتم تصديره إلى الآفاق لجودته، ووصفه الرحالة بأنهم يجففونه في التنانير؛ لأنه لا شمس عندهم لكثرة الضباب، كما اشتهرت مناطق أذربيجان الجبلية بتجفيف البطيخ، الذي يتميز بلونه الأصفر ويقول عنه القلقشندي: "وأما البِطِّيخ فينجب عندهم نجابة وخاصة الأصفر وهو في غاية صدق الحلاوة، ويقددونه ويجففونه، فيبقي عندهم من السنة إلى السنة، وربما استخرجوا ماءه وصنعوا منه الحلوى"[5].

وامتازت أذربيجان بصناعة التمور الجيدة المسماة "القسبوية" وكان يتم تصدير هذه التمور، كما اشتهرت أذربيجان بصناعة "القند" وهو عسل قصب السكر، وتم تصدير كميات كبيرة منه إلى عدد من المدن منها المدينة المنورة[6].

وراجت صناعة الزجاج وتنوعت الصناعات الزجاجية، وقد اشتهرت "أرمينية" المجاورة بإنتاج اللازورد الجيد والبلور الذي يستخدم في الصناعة، وقد انتقلت هذه الحرفة إلى أذربيجان، وأقيمت عليها صناعات كبيرة مثل الزجاج المحكم الصنعة والبَلُّوط المخروطي الشكل.

كما اشتهرت أذربيجان بصناعة وتجارة الفِراء حيث استفاد أهلها من الثعالب والسَّمُّور والتي توجد بأرضها بكثرة حول مناطق بحر قزوين الجبلية في إنتاج أنواع جيدة من الفِراء، كما قامت في أذربيجان صناعة الجلود.

أما في مجال الفنون فقد حازت أذربيجان شهرة كبيرة في إنتاج الخزف لا سيما الفسيفساء الخزفية، والتي تمتاز بأنها تغلب عليها الزخارف النباتية المزهرة، وامتازت قرية "كويجي" في جبال القوقاز بإنتاج أنواع من الخزف، الأول منها صحون وسلطانيات زخارفها سوداء منقوشة تحت دهان أزرق أو أخضر، والثاني صحون وسلطانيات زخارفها متعددة الألوان منقوشة تحت دهان شفاف أبيض، أو لا لون له. وقد كان الناس يقدرون القيمة الفنية لهذه لقطع الفنية، فكانوا يحتفظون بها كقطع فنية في بيوتهم ويعلقونها على الجدران ويزينون بها الغرف.

أما عن الفخار فقد وجد في أذربيجان منذ القرون القديمة ومنذ العصر البُرُنْزي، واشتهرت أذربيجان ليس بصناعته فقط، بل وتصديره إلى "كرمان" و"خراسان".

وقد استخدمت الزخارف في العمارة لا سيما في المساجد الموجودة في أذربيجان، كما اشتهرت أذربيجان شهرة كبيرة في صناعة البُسُط ذات الرسوم الحيوانية، وتعتبر هي موطن البُسُط المسماة "التنين" أو البُسُط الأرمنية[7].

وامتازت مدن أذربيجان بصناعة سجاجيد الصلاة، وأهم ما يميز هذا السجاد احتواؤه على آيات قرآنية مكتوبة بخط النسخ أو الكوفي، وتحتوي هذه السجاجيد على خيوط معدنية منسوجة بطريقة الديباج، ويلاحظ أن الزخارف النباتية في ساحة السجاد موضوعة بشكل معين على هيئة محراب[8].

 

التجارة:

وقد لعبت أذربيجان دورًا هامًّا في حركة التجارة منذ دخلها الإسلام، يدعمها في ذلك اقتصادُها المزدهر زراعيًّا وصناعيًّا، ومركزها الإداري، وموقعها الجغرافي الهام والمتحكم في عدد من طرق التجارة العالمية والإقليمية، حيث كانت معبرًا لطريق الشمال المار ببلاد الروس وبحر قزوين ثم مرو وسمرقند ومنها إلى الصين.

وأذربيجان هي بداية الطريق التِّجاري إلى مدينة "اطربزندة" على البحر الأسود، حيث يُقام في هذه المدينة سوق كبير يشارك فيه التجار من ديار الإسلام والبيزنطيون، ويتم فيه تبادل السلع والمنتجات المتنوعة[9].

وأذربيجان هي محط ومعبر قوافل وتجارة الحرير بين الصين وروما وبيزنطة؛ حيث كانت تمر بخراسان والجزيرة آتية من وسط آسيا، وهذه التجارة منذ قبل الإسلام بقرون، واستمرت لفترات طويلة بعد ظهور الإسلام، واكتسبت أذربيجان أهميتها التجارية من كونها تتحكم في طريق الموصل القديم الذي يربط بين مناطق القوقاز وآسيا الوسطى ببغداد.

ومن أقدم العصور كانت أذربيجان هي مبدأ القوافل التجارية التي تنطلق من الشمال حيث بلاد الروس إلى بغداد ودمشق والعواصم الإسلامية.

وكانت "أردبيل" هي محط تجارة "باب الأبواب" التي يجتمع فيها تجار شمال أذربيجان ومناطق الجبال مع تجار الخزر والروس، والتي قد تنتقل فيما بعد إلى مناطق بيزنطة وبقية البلاد الإسلامية.

ووقوع أذربيجان على بحر قزوين، ووقوعها على الحدود القوقازية وتجارة الروس والبلغار والخزر مع الدولة الإسلامية جعلها بلدًا تجاريًّا هامًّا، كما أنها أول الطريق التجاري المتحكم في تجارة تبريز ومدن غرب أذربيجان، وهي مستهل الصلات التجارية بين "باب الأبواب" وباكو وتبريز وأصبهان من جهة أخرى[10].

 

الحركة العلمية في أذربيجان:

تنوَّعَ النشاط العلمي في أذربيجان وشمل مجالات عدة، وشارك العديد من العلماء في الحركة العلمية الزاهرة التي كانت تجري في مدن أذربيجان وضواحيها، وأدلى الكثير من هؤلاء العلماء بدَلْوهم في الحياة الثقافية في أذربيجان، مع الأخذ في الاعتبار أن هؤلاء العلماء كانوا يجمعون بين الحديث والأدب واللغة، بحيث إن العالم منهم يعتبر مُحَدِّثًا وفقيهًا ولغويًّا؛ أي: جامعًا لتلك العلوم.

فنجد أن من علماء النحو الذين زاروا أذربيجان وألقوا فيها دروسًا علمية على أهلها "قُطْرُب النحوي"، كما أن من أشهر علماء النحو والحديث معًا ممن نزل أذربيجان "عيسى بن يونس" و"محمد بن حسان الضَّبِّي النحوي"، وذلك في عصر الخليفة المأمون.

ومن الشعراء ممن قضى فترة طويلة في أذربيجان الشاعر أبو تمام، في عهد ولاية "خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني".

و"الأحوص" الشاعر الذي وفد على أذربيجان في ولاية "الجراح بن عبد الله الحكمي".

ومن الشعراء الذين وفدوا على أذربيجان، وكان لجبالها وسهولها ومناظرها الساحرة أثرٌ في أشعارهم: "ربيعة الرقي"، والشاعر "دِعْبِل"، و"علي بن الخليل"، والشاعر "موسى شهوات".

ومن أشهر علماء أذربيجان وفقائها وأشهر مُحَدِّثيها "محمد بن حرب الطائي"، وأخواه "أحمد" و"علي بن حرب الطائي"، والقاضي "عبد الله بن إدريس" الذي تولى قضاء الموصل للخليفة المنصور، ورفض تولي قضاء الكوفة لهارون الرشيد[11].

وبشكل عام، كانت أذربيجان تمثل بيئة صالحة لإقامة كثير من الفقهاء والعلماء والأدباء بها، والمساهمة في المناظرات والمدارسات والمحاضرات التي كانت تلقى بمساجدها ومدارسها، والتي جعلت هذه المنطقة بمثابة معبر تِجاري وثقافي وعلمي امتد صداه لمنطقة آسيا الوسطى بالكامل.

• أهم مدن أذربيجان وقت الفتح الإسلامي كانت "تبريز" و"أردبيل" و"أرمية" و"خُوَيّ"، و"أرَّان"، وكان السكان أتراكًا اختلطوا بالعناصر الفارسية العربية، وكانت لغتهم تركية آذرية، ثم صارت اللغة عربية.

• وصف المؤرخون والجغرافيون العرب أذربيجان وكورها، وذكروا ثراء مدنها، وكثرة أنهارها ومزارعها.

• نزل أذربيجان كثير من الصحابة والتابعين، وممن أقام بها: جرير بن عبد الله البَجَليّ، والبراء بن عازب، وصفوان بن المعطل السلمي.

• اشتهرت أذربيجان بصناعة المنسوجات، وتجفيف الفاكهة، والصناعات المعدنية وصناعة الزجاج.

• لعبت أذربيجان دورًا هامًّا في حركة التجارة منذ دخلها الإسلام؛ لموقعها الجغرافي الهام والمتحكم في عدد من طرق التجارة العالمية والإقليمية.

• شهدت أذربيجان حركة علمية زاهرة في مدنها، ووفد عليها الفقهاء والأدباء والشعراء لعقد المناظرات ومدارسة العلم.

 


[1] صورة الأرض لابن حوقل: (2/ 347).

[2] صورة الأرض لابن حوقل، صـ296، 297.

[3] آثار البلاد وأخبار العباد، زكريا بن محمد بن محمود القزويني، ط بيروت، (د.ت)، صـ293، 397.

[4] رحلات ماركو بولو، ماركو بولو، ترجمة: عبد العزيز جاويد، ط القاهرة، 1995 م، ج1، صـ53.

[5] صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القلقشندي، شرح وتعليق محمد حسين شمس الدين، ط بيروت، 1987م، ج4، صـ467-468.

[6] لطائف المعارف، الثعالبي، تحقيق إبراهيم الإبياري وحسين كامل الصيرفي، ط القاهرة، (د.ت)، صـ31.

[7]تاريخ الإسلام في أذربيجان من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر العباسي الأول، د. رجب محمود إبراهيم بخيت، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، 2010 م، صـ215، 216.

[8] المصدر السابق، صـ218.

[9] صورة الأرض، ابن حوقل، صـ295.

[10] دائرة المعارف الإسلامية، مادة أردبيل، سترك، ج1، صـ586.

[11] تاريخ الإسلام في أذربيجان من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر العباسي الأول، د. رجب محمود إبراهيم بخيت، صـ206-215.