كيف دخل الإسلام الصين؟ (2)مقالات


عهد أسرة سونغ، وتواصل البعثات الدبلوماسية:

خلال عهد أسرة "سونغ" (960-1279 م) كان المسلمون يتمتعون بالحرية الكاملة في الإقامة والعمل والتجارة والدعوة في الصين، وينعمون بالاستقرار في الحياة، حيث أقاموا وبنوا المساجد، وقاموا بدعوة الناس إلى الإسلام، وقد تواصلت البعثات الدبلوماسية طيلة عهد الأسرة حتى بلغت 49 بعثة إسلامية خلال قرنين من الزمان.

ويسجل "تاريخ داشي" في عهد إمبراطورية سونغ "أنه أوفد من بلاد "داشي"[1] 17 سفارة إلى أسرة "سونغ" في الفترة ما بين سنتي 968 هـ-1063م، حيث استقبلت استقبالًا حارًا، ولقيت احترامًا بالغًا من قبل حكومة "سونغ". وقد منح السفير "يكوم" (يعتقد أنه عبد الرحيم) لقب (القائد)، وتلك ألقاب لم تكن تعطى لغير الصينيين، وسمح لهم أن يتجولوا في عاصمة "سونغ"، وكانت العاصمة وقتذاك هي مدينة "بيانليانغ" (مدينة كايفنغ، مقاطعة خنان حاليًا)"[2].

وبسبب تنامي الرواج التجاري بين الصين وبين العرب والفرس، اتخذت أسرة "سونغ" عدة إجراءات لتوسيع نطاق التجارة الخارجية، فأنشأت دائرة للتجارة والملاحة في "كانتون" أو "خانفو"، و"تسي تون" (التي ذكرها ابن بطوطة على إنها مدينة الزيتون، وتسمى الآن تشيوا نتشو)، وبلغت أعداد العرب في هذين الميناءين 10 آلاف عربي خلال القرن العاشر.

انتشار الإسلام خلال عهد أسرة "يوآن":

تولت الأسرة الملكية "يوآن" الحكم خلفًا لأسرة "سونغ" (1271 -1368 م)، ويطلق عليه (العهد المنغولي)، حيث أطاح "قوبلاي خان" - حفيد جنكيز خان - بحكومة أسرة "سونغ"، وحل محلها، وقد حظى المسلمون بحضورٍ كبيرٍ في الصين حيث اتجه المنغوليون إلى الاعتداء على دول آسيا الوسطى الإسلامية وأسروا المسلمين من هذه الدول، والعراق والشام، وجاؤوا بهم إلى الصين في عصر الإمبراطور "جين جي سين خان" و"قوبلاي خان"، حيث أجبروا مسلمي المنطقة على الحكم بالياسق[3]، وأكره المسلمين على أكل اللحوم المخنوقة على طريقة المغول، وأمر بإنزال الأئمة من على المنابر[4].

ولما مات هذان الظالمان تحسنت أوضاع المسلمين تحسنًا كثيرًا، وزاد نفوذ المسلمين أيام المغول،   وارتقوا مناصب رؤساء الدواوين في العاصمة والولايات التابعة للإمبراطورية المغولية الواسعة[5].

حيث جاء بعضهم من تركستان وبلاد ما وراء النهر وتدرجوا في الجيش، وترقوا في المناصب، ولعل أشهر هؤلاء القادمين كان السيد الأجل "شمس الدين عمر" من بخارى في آسيا الوسطى، الذي تولى عام 657 هـ منصب ضابط في الجيش، ثم أصبح حاكمًا عسكريًا على مدينة (تاي يوان) ثم حاكمًا لمدينة (بنيانغ)، ثم نقل إلى منصب القاضي في مدينة (ينينغ) وهي بكين الآن، ثم حاكمًا عليها، ثم أصبح مديرًا سياسيًا في بلاط (قوبلاي خان)، ثم عيّن عام 671 هـ حاكمًا على ولاية (سيتشوان) بجنوب الصين، ثم حاكمًا لولاية (يوننان) عام 673 هـ، وقد أنشأ المدارس والمعاهد الدينية في هذه الولاية، وترك بعد وفاته خمسة أولاد كان لهم جميعًا دورهم في الإدارة، وكانوا من كبار الموظفين في الدولة، وهو نموذج مشرف لأثر المسلمين في عهد المغول، إذ كان المسلمون حكام ثماني ولايات من أصل اثنتي عشرة ولاية تتألف منها دولة الصين[6].

كما يتضمن سجل طبقة الأعيان لأسرة "يوان" أسماء أكثر من مائة شخص من المسلمين بلغوا رتبًا رفيعة، استحقوا معها أن يضموا إلى السجل[7].

وقد زار الرحالة الشهير "ابن بطوطة" الصين في عهد أسرة يوان في القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي، وكتب عن أسلوب حياة المسلمين في الصين وقتذاك عام 1342 م[8].

 

المسلمون في عهد أسرة مينغ:

واستمرت هذه الأوضاع إلى أوائل الأسرة الملكية "مينغ" (1368 - 1644 م) حيث وصل بعض المسلمين إلى المناصب الوزارية، على سبيل المثال: ( تشانغ يي شوانغ) و(هو دا هاي)، وكانوا قد تأثروا بالحياة الصينية واندمجوا فيها، مع الاحتفاظ بالسمة الإسلامية الكاملة، وكان لهم أكبر الأثر في إدارة شؤون الدولة أيضًا.

ومن رجالات تلك المرحلة من المسلمين:

• البحار المسلم "تشنغ هو" أو "الحاج جهان": الذي قاد أسطولًا تجاريًا ضخمًا، أبحر به 7 مرات خلال الفترة من 1405 - 1433 م، حيث زار 35 بلدًا آسيويًا وأفريقيًا، وهو حدث لم يكن له مثيل في تاريخ الإبحار آنذاك[9].

• هاي زوي: دخل التاريخ الصيني باعتباره موظف كفء ونزيه، وقدمت سيرته في أكثر من عمل درامي.

• خوونغ تشو: يلقب بـ"أستاذ الأساتذة"؛ لأنه أول عالم مسلم في الصين حول المساجد إلى مدارس في القرن السادس عشر، وأدخل التعليم الديني ضمن رسالة المسجد[10].

عهد تشينغ أسوأ فترات اضطهاد المسلمين:

ويطلق عليه (العهد المانشوري) (1644 -۱۹۱۱م)، وهو أسوأ أيام المسلمين في التاريخ الإسلامي الصيني، حيث عمدت هذه الأسرة على إثارة الفتن بين المسلمين وبين قومية "هان" - قومية كبرى في الصين - حتى قتل بعضهم بعضًا، ودمر الكفار بيوت المسلمين والمساجد وقتلوا الأبرياء منهم، قاضطر المسلمون إلى القيام بعدة انتفاضات في جنوب غرب الصين بقيادة الشيخ "سليمان دو ون شو" (1856 - 1874)، وفي شمال غرب الصين (1862 - 1877) من مقاطعة "قانصو" و"شائع سي" و"نينشانغ" و"شينج يانج" (تركستان الشرقية) و"تشيانماي"، وخلال مائة سنة في الفترة ما بين (1758 م) و(1873 م) انفجرت خمس ثورات كبرى لمسلمي الصين، فقد فيها الكثير من المسلمين حياتهم، وعاش بقيتهم عيشة قاسية تحت الظلم والطغيان في أحلك فترات تاريخهم، ولجأ المسلمون إلى داخل الجبال والمناطق الفقيرة حتى إن بعضهم لجؤوا إلى "قازاخستان"، وقُتِلَ الكثير من علماء المسلمين في هذه الفترة السوداء[11].

عهد الجمهورية الوطنية (1912-1949م):

وقف المسلمون والوطنيون الصينيون - معًا - ضد أسرة "المانشو" حتى نجحت الثورة الوطنية عام 1911 م، وكان المسلمون أحد القوميات الخمس التي تتكون منها الأمة الصينية[12]، وقام المسلمون بتأييد أبو الجمهورية "سون يات سين" وسط حروب أهلية وانشقاقات عسكرية قامت في البلاد بعد التحرر من حكم أسرة "المانشو"، لكن إنكار دور المسلمين واعتبارهم أقلية في البلاد من جانب العسكريين مثل القائد الجنرال "تشيانج كاي شيك" أصاب المسلمين بالصدمة وأحبط آمالهم، إلى جانب تدبير هذا القائد العسكري العديد من المذابح ضد المسلمين قتل فيها الآلاف منهم في مقاطعتي "قانصو" و"ليمشيا"[13]، ورغم مقاومة المسلمين الاحتلال الياباني جنبًا إلى جنب الصينيين من أهل الديانات الأخرى، فإن وضعهم لم يتغير كثيرًا خلال تلك الفترة، ومن أبرز أبطال المسلمين خلال تلك الفترة القائد "مابن تشاي" الذي - بمقاومته الباسلة - منعَ اليابان من احتلال منطقة شينج يانج "تركستان الشرقية"[14].

عهد الجمهورية الشيوعية:

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية علا نجم الزعيم الشيوعي "ماوتسي تونج" والذي أعلن في أكتوبر سنة 1949 م انتصار الثورة، وأعلن تأسيس "جمهورية الصين الشعبية"، وهي دولة الحزب الواحد الذي يسيطر على مفاصل الدولة حتى وقتنا الحالي وهو "الحزب الشيوعي الصيني"؛ حيث كُمِّمتْ أفواه الدعاة، وأغلقت جميع المساجد عدا مسجد واحد في "بكين"، وحُوِّلتْ لأغراض اقتصادية تخدم "الثورة الثقافية" التي أعلنها الرئيس "ماو" سنة 1966 م، وقد أغلقت الحكومة المطاعم الإسلامية التي كانت تقدم وجبات للمسلمين خالية من شحم ولحم الخنزير، ومورس ضغط أكبر في مقاطعة "شينكيانج"، ومُنِعَ أهلها من استخدام الحروف العربية في الكتابة واستخدام الحروف الصينية، ومُنِعَ المسلمون كذلك من ارتداء ثيابهم القومية أو إظهار شعائرهم الدينية، وعدم صرف القماش الأبيض لتكفين موتاهم، والاتجاه إلى حرق جثثهم من باب الاقتصاد في الموارد[15].

ورغم الانفتاح النسبي الذي عاش فيه المسلمون في الصين بعد نهاية حكم الرئيس "ماو"، إلا أن أزمة المسلمين الصينيين ما زالت قيد الاستمرار، والهوية الإسلامية موضع الإنكار والتشكيك وسط المجتمع الصيني، ولا سيما مع تعرُّض الشعب الإسلامي في تركستان - وهو المعروف بشعب الإيجور - لاضطهاد عرقي كبير حتى وقتنا الحالي.. وتلك قصة أخرى!

 

• علاقة الصين بالعرب لم تكن وليدة لعصر الإسلام، بل ابتدأت قبل الإسلام بقرون، عن طريق التجارة في موانئها بحرًا، وطريق الحرير برًا.

• أول بعثة دبلوماسية إسلامية أرسلت للصين كانت في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان سنة 31 هـ - 651 م.

• اندمج المسلمون وسط المجتمع الصيني، وتزوجوا من صينيات، وعاشوا في مقاطعات "تشانغآن" و"كانتون" و"يانغتشو" وجزيرة "هاينان"، وشكلوا نواة المسلمين الصينيين.

• برز خلال التاريخ الصيني القديم شخصيات مسلمة عظيمة منها: السيد الأجل "شمس الدين عمر"، والبحار المسلم "تشنغ هو" أو "الحاج جهان"، و"خوونغ تشو" أو "أستاذ الأساتذة".

• مع دخول الشيوعية الصين، ضيقت منافذ الدعوة، وأنكرت الأديان بما فيها الإسلام، وما زال يعاني أهلنا المسلمون في تركستان الشرقية التمييزَ العرقي.

 


[1] كان الصينيون قديمًا يشيرون إلى بلاد العرب باسم "داشي"، وهي كلمة معناها في اللغة الصينية "التاجر"، ولأن التجار هم أول الوجوه المسلمة التي رآها أهل الصين، فقد أطلقوا على كل مسلم اسم "التاجر" منذ العصور المبكرة.

[2] من بحث نشرته مجلة "بناء الصين" (يونيو 79) حول علاقات العرب والصين في عهد أسرة سونغ، كتبه تشوشاو، صـ 67.

[3] الياسق أو الياسا هي كلمة مغولية الأصل، تعني القاعدة أو القانون أو الحاكم، وهو قانون صدر عام 1206م وضعه جنكيز خان، وهو يشتمل على جانب كبير من الأحكام التي تتعلق بالجزاء والعقاب، مع بعض أحكام الإسلام، وكان مرجعًا يتم العودة إليه عند جلوس الخان الجديد على عرشه، أو عند انعقاد المجلس المغولي الأعلى، وهو أول نموذج ظهر في العالم الإسلامي يخرج عن حدود التشريع الإسلامي.

[4] تاريخ تطور ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية، الشيخ: عبدالله قاسم سو جي يو آن، صـ25.

[5] تاريخ المسلمين في الصين في الماضي والحاضر، بدر الدين حي، دار الإنشاء للطباعة- لبنان، 1394 هـ، صـ27.

[6] المصدر السابق، صـ27، 28.

[7] الإسلام في الصين، د. فهمي هويدي، صـ51.

[8] رحلة ابن بطوطة، دار صادر ودار بيروت، ط 1960، الصفحات من 530 إلى 646.

[9] تاريخ المسلمين في الصين في الماضي والحاضر، بدر الدين حي، صـ37، 38.

[10] الإسلام في الصين، د. فهمي هويدي، صـ64.

[11] الصين الشعبية، محمد عودة، دار النديم- القاهرة، صـ 158.

[12] تاريخ المسلمين في الصين في الماضي والحاضر، بدر الدين حي، صـ131.

 [13]الإسلام في الصين، د. فهمي هويدي، صـ94.

[14] المسلمون في الصين، محمود لي هوان، مجلة الصين المصورة، عدد واحد لسنة 1980.

[15]  تاريخ المسلمين في الصين في الماضي والحاضر، بدر الدين حي، صـ164.