أثر الإسلام في الحضارة الصينية (2)مقالات


علوم الطب والصيدلة:

• وفي الطب: أشار "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" إلى قصة عالم صيني قدم إلى العراق لكي يدرس الطب وعلومه عند المسلمين على يد "أبي بكر الرازي", حيث ذكر أن العالم الصيني تعلّم اللغة العربية تحدثًا وكتابة في خمسة أشهر, وأنه طلب من "الرازي" أن يشرح له بعضًا من مؤلفات الطب اليوناني وترجمتها, وقبل شهر واحد من عودته إلى الصين أخذ في تدوين ما تعلمه وما ترجمه من مؤلفات على طريقة الاختزال الصينية[1].

و بالبحث في خزانة الكتب القديمة في دار الكتب الصينية وُجد بقايا موسوعة طبية اسمها "وصفات طبية هوى هوى" أي "الوصفات الطبية عند المسلمين, أو وصفات المسلمين الطبية", وتتكون من ستة وثلاثين جزءًا, ورد فيها أسماء مؤلفات الطب عند المسلمين التي ترجمت إلى اللغة الصينية, وذلك على يد عدد من الأطباء المسلمين الذين استقروا في الصين في فترات مختلفة, أو ترجمت في بعض مراكز الحضارة الإسلامية إلى اللغة الصينية، وكان من أهم مصادرها كتاب "القانون في الطب" لابن سينا[2].

وذكر الأديب العيني الصيني الشهير "تاو زونغ يي" الذي عاش بين أواخر عصر سلالة "يوان" وأوائل عصر سلالة "مينغ" في كتابه "أحداث في العزلة" أنه شاهد طبيبًا عربيًا مسلمًا أخرج سرطانًا حيًّا صلبًا من مخ طفل كان يعاني ألمًا شديدًا، ثم استراح وزال الألم بعد إخراج السرطان.

وفيما يبدو أن الطبيب العربي قام بعملية جراحية للطفل لإخراج الورم الخبيث من المخ, وكان اسم السرطان يترجم صوتيًا للاسم العربي في الكتاب, ويعد ذلك أول عملية جراحية للسرطان فيما تسجله الكتب الصينية القديمة[3].

واعترافًا بتأثير الطب الإسلامي في الطب الصيني تم إنشاء مدرستين أو كليتين إسلاميتين للطب والمعالجة؛ أي لتعليم الطب ومعالجة المرضى, أحدهما في بكين والأخرى في شاندو (كاي بينغ)[4]، كما تسجل المصادر الصينية براعة العرب في طب التجبير وفي المعالجة بالكي[5].

• وفي الصيدلة: منذ عهد أسرتي تانغ وسونغ (295 - 697 هـ/ 907 - 1297 م) استوردت الصين كميات كبيرة من العقاقير العربية الإسلامية إلى الصين, وكان من بين الجاليات العربية عدد من تجار العقاقير, وهم إما كانوا يفتتحون الصيدليات, وإما يتجولون من شارع لآخر لبيع العقاقير, وكان من أوائل المسلمين الذين مارسوا تجارة العقاقير في الصين رجل فارسي يدعى "لي سو شا" وقد وصف كتاب "موسوعة تايبينغ" الذي تم تأليفه في عهد أسرة "سونغ" الشمالية كيف كان العرب في عهد أسرة "تانغ" يفتتحون الصيدليات ويبيعون العقاقير في مدينة "تشانغان", كما يصور كيف كان باعة العقاقير يترددون على صيدليات العرب ليشتروا منهم ما يفتقرون إليه من العقاقير[6].

وتشير المصادر الصينية إلى أن الإمبراطور الصيني "تاي - نوتج" أحد أباطرة أسرة "سونغ" أمر سنة (372 هـ/ 982 م) باستيراد سبعة وثلاثين نوعًا من العقاقير والأدوية من الدولة العباسية, وذلك ثقةً بالعقاقير والأدوية التي استخدمها المسلمون, وقد استوردت معها الخبرات المسلمين في كيفية تركيبها وأساليب ذلك وطرق العلاج بها[7].

وفي النصف الثاني من القرن السابع الهجري - النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي وبالتحديد في سنة (669 هـ/ 1270 م) أنشئت دار لصناعة الأدوية نتيجة قوة التأثير الإسلامي في المجتمع الصيني في عهد أسرة "يوان", أطلق عليها اسم "دار النعمة", وتولى إدارتها والإشراف عليها طبيب عربي مسلم اسمه "يوسف", وعمل إلى جانبه عدد من الأطباء المسلمين, وفي سنة (691 ه،/ 1291 م) افتتح لهذه الدار فرعان: أحدهما في العاصمة المغولية "خان بالق"- "بكين" وسمي "دار الهويين للأدوية والمعالجة" أو "مكتب الطب الإسلامي", والثاني في إقليم منغوليا في الشمال الشرقي من "خان بالق" في مدينة "قاراقورم" العاصمة القديمة للمغول, وسُمي مكتب "قاراقورم للطب الإسلامي"[8].

ولوحظ على الأطباء في هذه الدار وفرعيها استخدام الوصفات الطبية التي استخدمها الطبيب المسلم "ابن سينا", وكذلك استخدام أسلوبه ومنهجه حتى ألفاظه الطبية والصيدلانية في طرق المعالجة والاستشفاء, وكان لهذا أثره البالغ في تطوير الأساليب العلاجية في الطب الصيني.

علوم الهندسة الآلية:

ساهم العلماء المسلمون بخبرتهم في مجال الهندسة الآلية أيضًا التي انتقلت إلى الصين, مما أدى إلى قول "ابن بطوطة" عن صناعة أهل الصين: "إنهم لديهم إحكام للصناعات، ولديهم قوة في إتقانها"[9].

فاشتهروا بصنع آلات الرماية وقذائفها، واستفاد منهم المغول كثيرًا في غزواتهم, وبرز من هؤلاء المسلمين العالم "علاء الدين", والعالم "إسماعيل", وقد تحدثت عنهما كتب تاريخ الصين, وقيل إن "علاء الدين" هذا كان معاصرًا للعالم المعماري "اختيار الدين", ولكنه يختلف عنه في العمل والمهنة, إذ كان تخصص "علاء الدين" صناعة المدفع "آلات الرماية" وهو من الأصل العربي, وموطنه الأول مدينة الموصل بالعراق, ووصل إلى "خانباليك" سنة (671 هـ/ 1272 م) بأمر من إمبراطور الصين لمساعدة الجيوش المغولية في غزواتها على جنوب الصين, وكان معه تلميذه "إسماعيل" وعائلتاهما, وقد قام "علاء الدين" و"إسماعيل" بصنع مدفع نجح في إطلاق القذائف الثقيلة في التجربة أمام الإمبراطور والأمراء والوزراء في ساحة كبيرة أمام القصر, فأرسلهما الإمبراطور إلى الجبهة الأمامية في جنوب الصين لمساعدة الجيوش المغولية بمدافعهما في إسقاط المدن المحصنة هناك, وتحققت النجاحات الباهرة في ذلك[10].

ويُعد هذا العمل العلمي العسكري تطورًا في استخدام القذائف عن طريق المدفع الذي قدمه المسلمون إلى الحضارة الصينية, بعد أن كان الصينيون يستخدمون البارود في صورة قنابل يدوية[11]، خاصةً أن العرب هم الذين اخترعوا البارود, وأنهم أول من استعمله باعتباره قوة دافعة للقذائف, وهذه الحقيقة التي كشف عنها كبار الباحثين النقاب, وقيل إن اختراع البارود كقوة متفجرة دافعة للقذائف النارية إنما يرجع للعرب وحدهم ليس لأحد سواهم[12].

الحياة الاجتماعية:

لقد كان للإسلام أثر واضح على مسلمي الصين في عاداتهم وتقاليدهم، فمع تزايد عدد المسلمين في الصين خلال عهدي "التانغ" و"السونغ"، فقد أصبح الأثر الإسلامي متزايدًا وواضحًا في حياتهم اليومية مثل الأكل والزواج ومراسيم الدفن والطهور، وقد تزايد عدد المسلمين في الصين وخاصة في بداية القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وأصبحت تقاليدهم وعاداتهم لها طابعها الإسلامي الخاص.

ونجد أن الصينيين أنفسهم قلدوا لباس المسلمين، فالنساء الصينيات من الطبقة الغنية في المجتمع الصيني ليسن "الخمار" وأطلقن عليه اسم "mi-li"، تقليدًا لنساء المسلمين اللاتي تميزن به وحافظن عليه[13].

ولقد وصل التأثير الإسلامي إلى استخدام الوجوه العربية وعادات المسلمين في أعمالهم الفنية، فوجود التجار العرب والمسلمين الذين توطنوا في الصين قد ترك أثرًا وانطباعًا ملحوظًا في المجتمع الصيني مما جعل الفنانين يتأثرون بالمظاهر الإسلامية في مجتمعهم وفي مختلف جوانب الحياة اليومية، فهناك الكثير من الصور والرسومات الفنية التي رسمت خلال القرنين الثالث و الرابع الهجريين/ التاسع والعاشر الميلاديين، قد اشتملت على وجوه عربية ومظاهر حياتية إسلامية الطابع[14].

منافع متبادلة:

كان التفاعل بين المسلمين والصينيين تكامليًا، يعبِّر - بشكلٍ جلي - عن امتزاج الحضارات وتفاعلها، حيث يقوم على مفهوم تبادل المصالح والتأثير المتبادل من الطرفين، وقد استفاد المسلمون من الصينيين بالتبعية، فقد دفع ازدهار ورخاء الفترات الإقطاعية الصينية تطور الفنون والصناعات إلى ذروتها: حيث ازدهرت الزراعة والحرف اليدوية والتجارة، كما تطورت فنون صناعة الورق والغزل والنسيج والصبغ والفخار والخزف والصهر وصناعة السفن والملاحة البحرية[15].

فقد تعلم العرب صناعة الورق على يد صناع من الصين أسرهم المسلمون حينما فتحوا "سمرقند" في نهاية القرن الأول الهجري، أو في قول آخر على يد صانع صيني أسره "زياد بن صاح" حاكم تلك المدينة سنة 134 هـ (751م)[16]، وكان المسلمون يستوردون من الصين ضروبًا فاخرة من الورق؛ لمهارتهم في صنعه.

وقد عرف المسلمون مزايا الخزف الصيني، وعملوا على إنتاج خزف يشبهه، ففي "سامراء" في القرن الثالث الهجري وحتى القرن التاسع الهجري عُثِرَ على العديد من القطع الخزفية الصينية، كما وُجِدَ في حفائر الفسطاط، إلى جانب الخزف الصيني الصحيح، خزف أنتجه المصريون تقليدًا للخزف المصنوع في الشرق الأقصى[17].

ومن أنواع الخزف الصيني الأخرى التي قلدها المسلمون الخزف الأبيض الخالص، فكانوا يصنعون منه الصحون والسلطانيات ذات الحافة المشطورة بأقواس متقابلة، وقد أصاب بعض الحزفيين نجاحًا فاخرًا في إتقان هذا النوع[18].

وكان الحرير الصيني واسع الانتشار في شرق العالم الإسلامي ولا سيما في عصر المغول، وقلد الإيرانيون زخارفه، فكانوا يصنعون أنواعًا جيدة من الديباج كانوا يصدرونها إلى البلاد الأجنبية، وقد عثر على نماذج منها في بعض المقابر بمدينة "فيرونا" الإيطالية، وكانت زخارفها من الحيوانات الخرافية والزهور الصينية والكتابات العربية[19].

وصفوة القول أن روح الفنون الصينية كانت أقرب بكثير إلى روح الفن الإسلامي وذوقه من الفنون الغربية؛ ومن ثم كان تأثر المسلمين بأهل الصين من عوامل النهضة والتطور في الفن الإسلامي.

 

• كان للمسلمين أثرٌ ملموسٌ بقوة في الحضارة الصينية طيلة تاريخها القديم، حيث كان المسلمون الصينيون مساهمين في كافة مناحي تطور الدولة طيلة فترات الإمبراطورية الصينية.

• حاولت الإمبراطورية الصينية الاستفادة من خبرات المسلمين في مجال التنظيم والإدارة ذات الصلة بالأمور التجارية والمالية، ومن ذلك إصلاح نظام الضرائب، وتحصيل الإيرادات الجمركية المفروضة على التجار الأجانب.

• أدخل المسلمون هندسة البناء الحجري الحديث في المساجد والمدارس الإسلامية، وزخرفة البوابات الإسلامية، وإنشاء القباب.

• برع كثير من المسلمين الصينيين في علوم الفلك والطب والصيدلة والرياضيات والهندسة المعمارية والآلية خلال حكم الأباطرة الصينيين.

• أخذ المسلمون عن الصينيين صناعة الورق والخزف الصيني والغزل والنسيج والصبغ، واستوردوا كثيرًا من المنتجات الصينية، وانتشرت في حواضر العالم الإسلامي.

 


[1] كتاب الفهرست، ابن النديم، أبو الفرج محمد بن إسحاق، تحقيق رضا تجدد، طبعة طهران 1391 هـ، صـ 18، 19.

 [2]تأثيرات الحضارة الإسلامية في الحضارة الصينية في الرياضيات والفلك والطب والصيدلة والهندسة المعمارية والآلية، د. كرم حلمي فرحات أحمد، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الإنسانية والاجتماعية المجلد 8، عدد 2، جمادى الآخرة 1432 ه،، يونيو 2011 م، صـ65.

[3] ابن سينا وأثر الطب العربي في الصين، محمد التونجي، من بحوث المؤتمر السنوي الخامس لتاريخ العلوم عند العرب - طبعة جامعة حلب، 1402 هـ/ 1981 م، صـ 95.

[4] المصدر السابق، صـ 95، 96.

[5] تاريخ المسلمين في الصين في الماضي والحاضر، بدر الدين حي الصيني، صـ 31.

[6] الإسلام في الصين, تأليف: فنغ جين يوان (إبراهيم)، صـ 145-146.

[7] المرجع السابق، صـ142.

[8] المعاملات بين الصين والعرب في العصر الوسيط، ذانج هو، ندوة حصاد الدراسات العُمانية (وزارة التراث القومي والثقافة)، المجلد 4، صـ 45.

[9] رحلة ابن بطوطة، ابن بطوطة، محمد بن إبراهيم اللواتي، طبعة دار صادر، بيروت، 1960 م، صـ 3.

[10] سيرة الشخصيات من قومية هوى المسلمة الصينية عبر التاريخ، باي تشويي، جمال الدين، طبعة دار نشر شعب نيتغشيا - الصين، 1985 م، صـ 100 - 103.

[11] موجز تاريخ العلم والحضارة في الصين، جوزيف نيدهام، ترجمة محمد غريب جودة، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995 م، صـ 9.

[12] حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، جلال مظهر، طبعة مكتبة الخانجي - القاهرة، 1974 م، صـ 373.

[13] المسلمون في الصين، إياس سليم سلمان أبو حجير، رسالة ماجستير، كلية الآداب، الجامعة الإسلامية بغزة، 1430 هـ- 2009 م، صـ 95.

[14]  Scott، hugh، The Golden Age of Chinese Art، p.136.

[15] دور العلماء المسلمين الصينيين والمدارس الإسلامية في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية، مالي قو، شهادة دكتوراه، كلية الدراسات والبحوث المتقدمة المتكاملة، الجامعة الوطنية للغات الحديثة، إسلام آباد، 2013 م، صـ24.

[16] الصين وفنون الإسلام، د. زكي محمد حسن، مطبوعات المجمع المصري للثقافة العلمية، مطبعة المستقبل، 1941 م، صـ33.

[17] نفس المصدر، صـ33، 34.

[18] Asurvey of Persian Art edited by A.  U.Pope, Oxford 1938, vol.5, shape. 592 b.

[19] تراث الإسلام، الجزء الثاني في الفنون الفرعية والتصوير والعمارة، Christie-Arnold-Briggs، ترجمة زكي محمد حسن، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936 م، صـ68.