• بدأت الأطماع الغربية في أندونيسيا المسلمة بقدوم البرتغاليين ومن بعدهم الهولنديين واحتلالهم أندونيسيا من عام 1512 م حتى عام 1945 م. • كان من أهم أهداف الاستعمار: حركة التنصير لشعب أندونيسيا المسلمة، وعلمنة التعليم، وتغريب القوانين والعادات الاجتماعية. • ظهر التكامل بين أمراء السلطنات الإسلامية والعلماء في مقاومة الاستعمار الهولندي بأندونيسيا، بل وكان هناك كثير من الأمراء العلماء المجاهدين طيلة حرب التحرير التي استمرت ثلاثة قرون ونصف. • ما زالت آثار الاستعمار في أندونيسيا المسلمة في العصر الحديث بمثابة تركة الماضي البغيض، والتي صبغت حاضر أندونيسيا بإثارة النعرات المذهبية والقبلية، ونشوء فكرة القومية. |
الأطماع الغربية في أندونيسيا المسلمة:
ما إن بدأ الإسلام يوطد أركانه في جزر أندونيسيا، حتى انتبه المستعمرون الغربيون لأهمية موقع أندونيسيا تجاريًا، وعِظم ثرواتها الطبيعية، واتجهوا إليها بعد القضاء على الأندلس لتحويلها إلى دولة مسيحية يسهل استغلالها، وقد نزلت بالفعل أولى الأقدام الاستعمارية على شاطئ أندونيسيا في القرن السادس عشر الميلادي حين قام البرتغاليون بغزو أندونيسيا ليأتي من بعدهم الهولنديون والإنجليز والفرنسيون واليابانيون، وقد عانت أندونيسيا معاناة مريرة، وبقيت محتلة طيلة ثلاثة قرون ونصف إلى أن نالت استقلالها سنة 1945 م، ومع ذلك بقيت آثار الاستعمار ويده البغيضة التي حاولت طمس الهوية الإسلامية لأندونيسيا - كما فعلت في الأندلس والفلبين - ظاهرة جلية حتى وقتنا الحالي.
البرتغاليون ينشرون المسيحية الكاثوليكية في أندونيسيا (1512-1605 م/ 918-1014 هـ):
حين أخرج الأسبان والبرتغاليون المسلمين من الأندلس سنة 1492 م قام "ألكسندر السادس" بدعم مملكتيهما روحيًا، وأمرهما بنشر المسيحية في أرجاء العالم الإسلامي، لذا بادر البرتغاليون باحتلال أندونيسيا، وفي سنة 1498 م قاموا بالوصول إلى مملكة "ملقا" بماليزيا واحتلوها سنة 1511 م[1]، واتخذوها مركزًا تجاريًا في جنوب شرق آسيا وقاعدة لشن الحملات على الجزر الأندونيسية، فاحتلوا "جزر مالوكو"، ودخلوا مدينة "تيرناتي" بأندونيسيا الشرقية سنة 1522 م، ومنها اتجهوا إلى مدينة "أمبون" في الجنوب، وجزيرة "موروتاي" و"تيمور" و"سولاويسي" الشمالية، بل في سنة 1544 م قاموا بإرسال أحد التجار لنشر المسيحية في جزيرة "سولاويسي" واستطاع التاجر تنصير ملك سوبا supa وملك سيو Siau وملك كاي دبيان Kai Depan وملك بانغاي Banggai.
وقد قامت الإرسالات التنصيرية النشيطة بنشر المسيحية الكاثوليكية في "آتشيه" و"سومطرة" الجنوبية، و"بينكولو" Bengkulu ما بين سنتي 1600-1788 م[2].
أما في جزيرة "بالي" فقد اصطدم المسلمون بمحتل آخر هو الاستعمار الهولندي الذي دخل إلى الجزيرة بعد دخول البرتغاليين بسنة، فقام الهولنديون بإجلاء المنصرين الكاثوليك البرتغاليين منها، ومنع أتباعهم من ممارسة نشاطهم الديني[3].
أما في جزيرة "كاليمانتان" فقد قام السكان المحليون بقتل أحد القساوسة وطرد البقية، ونتج عن هذه الهجمة الفشل في تنصير أهل هذه الجزيرة طيلة القرن السابع عشر الميلادي[4].
ونجد أنه في سنة 1521 م، وصل الأسبانيون إلى "جزر مالوكو"، عن طريق جزر الفلبين، وأقام تجارهم في ميناء "تيدوري"، وحاولوا مزاحمة البرتغاليين في أندونيسيا، إلى أن اتفق الجانبان عام 1534 م على اقتسام مناطق النفوذ فترك الأسبانيون "جزر مالوكو" للبرتغال، في مقابل انفراد الأسبان بسيطرتهم على جزر الفلبين[5].
الهولنديون ينشرون المسيحية البروتستانتية في أندونيسيا (1605-1799 م/ 1014-1214 هـ):
زاحم البرتغاليين على الجزر الأندونيسية المسلمة محتل آخر هم الهولنديون، الذين اتجهوا بأسطولهم إلى أندونيسيا فوصلوا ميناء "بانتين" Benten بجاوة الشرقية سنة 1596 م، ووصل أسطولهم الثاني سنة 1598 م[6].
وفي سنة 1602 م أسس الهولنديون "شركة الهند الشرقية الهولندية" لاحتلال الأرخبيل الأندونيسي على غرار "شركة الهند الشرقية البريطانية" التي احتلت الهند المسلمة بالمثل، وقد استطاع الهولنديون احتلال قاعدة البرتغاليين في "أمبون" و"تيدوري" سنة 1605 م، واستطاعت احتلال جزيرة "سولو" سنة 1613 م، وجزيرة "باندا" سنة 1621 م، ونزلوا أرض مملكة "آتشيه" شمال سومطرة سنة 1640 م، وجزيرة "هيتو" سنة 1645، وجزيرة "فلوريس" سنة 1650 م، وجزيرة "سيرام" سنة 1655 م، وجزيرة "جاوه" سنة 1677 م[7].
وقامت هولندا بمحاربة المبشرين الكاثوليك من البرتغال وأسبانيا؛ لصالح مبشريها البروتستانتيين، لكن الخسائر التي منيت بها "شركة الهند الشرقية الهولندية" أدت لانهيارها سنة 1799 م، ولم تنجح هولندا طيلة 200 سنة احتلت فيها الجزر الأندونيسية إلا في تنصير جماعات من الوثنيين في جزر أندونيسيا الشرقية وجاكرتا التي أطلقوا عليها اسم "باتافيا"[8].[9]
الفرنسيون والإنجليز يزاحمون الهولنديين على ثروات أندونيسيا (1808-1816 م):
حين انهارت "شركة الهند الشرقية الهولندية" كانت هولندا تحت احتلال فرنسا، فاستولت فرنسا بالتالي على أندونيسيا ما بين 1808-1811 م[10].
ولكونها في حروب مع إنجلترا[11]، فقد أسرعت إنجلترا باحتلال مخازن الشركة الهولندية والسيطرة عليها بعد رحيل الفرنسيين، وذلك من سنة 1811 إلى سنة 1815 م، ثم أعادتها إلى هولندا ثانية سنة 1816 م، وتعتبر هذه السنة بداية استعمار هولندا لأندونيسيا رسميًا[12].
العهد الهولندي الثاني، وسياسة هولندا الاستعمارية (1816 م - 1945 م):
عادت هولندا ثانية لحكم أندونيسيا طيلة القرن التاسع عشر الميلادي، حيث قامت باتباع سياسة "فرق تسد" لتثبيت سيطرتها، وفرضت سياسة التجويع والتجهيل، وأجبرت السكان على زراعة أراضيهم بمحاصيل معينة، وتقديم المحاصيل للحكومة الهولندية التي استولت على ثلاثة أخماس الدخل الأندونيسي[13].
وقد قامت ثورات عديدة بين السكان والمحتلين الهولنديين شارك فيها الأمراء المسلمين، عانت خلالها الجزر الأندونيسية من سياسة الحديد والنار التي اتبعها الهولنديون، ولكن خابت كل هذه المحاولات بالفشل، حتى اشتعال الحرب العالمية الثانية حين أعلنت أندونيسيا استقلالها من جانب واحد عام 1945 م[14].
الاحتلال الياباني لأندونيسيا (1942 م)
ونجد أنه في مارس عام 1942 م احتلت القوات اليابانية أندونيسيا بعد استسلام هولندا أمام الجيش الياباني، لكن سرعان ما عجلت هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، بعودة هولندا ثانية، وإعلان أندونيسيا استقلالها وسط معارضات دولية عديدة من جانب هولندا وحلفائها[15].
سياسة الاستعمار في تدمير أندونيسيا المسلمة:
اتبع الهولنديون في إدارة أندونيسيا عدة سياسات هدفت إلى طمس الهوية الإسلامية لأبناء أندونيسيا لسهولة الاستحواذ عليها؛ منها:
• التنصير: بدأت هولندا في تنصير الجزر الأندونيسية بالإجبار، ولكن مع محاربة المسلمين للمنصرين، بدأت في اتخاذ سياسات أكثر لينًا، وفتحت الأبواب للهيئات التنصيرية الأجنبية، ودعمتها ماديًا وسياسيًا، وخصصت رواتب للقساوسة والمنصرين من ميزانية الدولة الاستعمارية، وأعلنت حرية التدين للكاثوليكيين الذين منعتهم سابقًا من القيام بنشاطاتهم الدينية[16].
وقد تمكن المنصرون في أندونيسيا خلال وجود الاستعمار البرتغالي والهولندي من تنصير 7% من الشعب الأندونيسي.
• استبدال الأحرف اللاتينية بدل العربية: قام المنصرون بتطبيق نظام التعليم الغربي العلماني، وأجبروا أبناء الفلاحين على إلحاق أبنائهم بالمدارس الغربية، حيث استبدلت اللغة العربية باللاتينية، وصدر قانون عام 1874 م ينص على أن تنهج المدارس الحكومية نهجًا جديدًا يقضي بإبعاد المواد الدينية عن مناهجها[17].
• إدخال فكرة القومية: وهو ما عملت عليه هولندا بتشجيع العرقيات المختلفة كالبوذية والهندوسية والوثنية، وترحيبها في العصر الحديث بإنشاء الأحزاب على أساس قومي لا ديني، ونجد قبيل الاستقلال مناظرة بين كل من "سوكارنو" و"محمد ناصر" حول فكرة القومية وفصل الدين عن الدولة في مقابل الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية، تدل على مدى الخلل العقدي الذي صارت عليه النخبة الأندونيسية[18].
• تشجيع الفرق الضالة لتشويه الإسلام: حيث شجع المستعمرون الهولنديون حركات الصوفية القبورية، والحركات الباطنية (القاديانية والأحمدية) واعتبرتها بديلًا مثاليًا للمسلمين المجاهدين، والدعاة العلماء، وكذلك شجعت الشيوعيين والعلمانيين في العصر الحديث، ففي عهد الاستعمار كان الشيوعيون هم من أحدثوا انشقاقًا في حزب (شركت إسلام) وأقاموا بلبلة بين المسلمين[19]، بل وأعلنوا إنشاء دولة شيوعية في منطقة "ماديون" Madiun وسيطروا على هذه المنطقة عام 1948م، وقتلوا الدعاة المسلمين ومنهم الشيخ "مرشد متقين" مدير معهد "سبيل المتقين" الإسلامي وثلاثة عشر شخصًا من المدرسين فيه[20].
• تهجير السكان: قامت الحكومة الأندونيسية قبيل الاستقلال بتهجير بعض سكان جزيرة "جاوة" إلى الجزر الأخرى قليلة السكان، وذلك من أجل التوازن السكاني، وقد استغل القساوسة والمنصرون هذه المجموعات السكانية شديدة الفقر لنشر المسيحية بينها، وتقديم خدماتها المجانية لاجتذاب السكان[21].
• نهب ثروات البلاد: اتبع الهولنديون سياسة اقتصادية اعتمدت على نهب موارد الفلاحين الفقراء، وتجويع الشعب الأندونيسي، حتى أن هولندا صنعت الرفاهية لشعبها، الذي لم يكن يتجاوز 2 مليون نسمة، فكانت أمستردام، ونوتردام خلال الفترة (1600 - 1800م) الأغنى، والأجمل، أوروبيًا، في ظل تدهور الأحوال الاقتصادية للجزر الأندونيسية التي كانت - قبل ذلك - في أتم رخاء تحت حكم الممالك الإسلامية قبل الاحتلال الهولندي[22].
[1] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية من منتصف القرن العشرين إلى أواخره، محمد ريحان ناسوتيون، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، 2002 م، صـ36.
[2] التنصير في أندونيسيا، دراسة دولية، الهيئة الإسلامية للبحوث والتطوير، جاكرتا، 1980 م، صـ7.
[3] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية، محمد ريحان ناسوتيون، صـ37.
[4] أخطر تكتيكات التبشير الحديثة، المركز الإسلامي للبحث والتطوير الاجتماعي، جاكرتا، صـ8.
[5] التبشير وآثاره في أندونيسيا في القرن الرابع عشر الهجري، مغفور عثمان، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1984 م، صـ66.
[6] أندونيسيا المسلمة في مواجهة المخططات التنصيرية الاستعمارية، نبيه عبد ربه، مجلة الأمة، العدد 7، السنة الأولى، مايو 1981م - رجب 1401 هـ، صـ37.
[7] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية، محمد ريحان ناسوتيون، صـ39.
[8] باتافيا اسم أطلقه الهولنديون على مدينة جاكرتا، وباتافيا اسم قبيلة هولندية.
[9]أندونيسيا، محمود شاكر السوري، مؤسسة الرسالة، 1979 م، صـ41.
[10] الموسوعة العربية الميسرة، محمد شفيق غربال، دار الشعب، القاهرة، 1955، صـ242.
[11] أندونيسيا.. شعبها وأرضها، ديتس سميث، ترجمة حسن محمود، مكتبة النهضة المصرية، 1962 م، صـ81، 82.
[12] الواقع الإسلامي في أندونيسيا بين حملات التنصير وتزييف التاريخ، د. فؤاد فخر الدين، مجلة الأمة، العدد 65، السنة السادسة، يناير 1986م - جمادى الأولى 1406 هـ، صـ46.
[13] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية، محمد ريحان ناسوتيون، صـ98.
[14] التاريخ الإسلامي، محمود شاكر السوري، المكتب الإسلامي، ط8، 2000 م، 2/ 386، 387.
[15] أندونيسيا، محمود شاكر السوري، صـ49.
[16] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية، محمد ريحان ناسوتيون، ص41.
[17] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية، محمد ريحان ناسوتيون، صـ 287.
[18] الحركة الإسلامية الحديثة في أندونيسيا، ديليار رنور، جاكرتا، 1981 م، صـ278.
[19] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية، محمد ريحان ناسوتيون، ص447.
[20] المعاهد الإسلامية والتجديد، دوام راهارجو، جاكرتا، 1974 م، صـ31.
[21] من (سيانتار) إلى (سالاتيغا)، تقرير الهيئة التنفيذية المقدم إلى مؤتمر مجلس الكنائس الأندونيسي الثامن عام 1976 م، صـ167-170.
[22] أندونيسيا بين الحملات التنصيرية والدعوة الإسلامية، محمد ريحان ناسوتيون، صـ 39.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.