أثر حضارة الإسلام في أرمينيا (2)مقالات


علماء أرمن في رحاب الدولة الإسلامية:

أنجبت أرمينية - في ظل الإسلام - عدداً كبيراً من العلماء والأدباء والأطباء والساسة والقادة كان لهم دور محوري في سير التاريخ طوال فترات انتساب أرمينية للخلافة الإسلامية، ومنهم:

• مدينة "أرجيش" ينسب إليها الفقيه الصالح "أبو الحسن علي ابن محمد بن منصور الأرجيشي"، وقد أمضى هذا الفقيه أيامه الأخيرة في مدينة حلب متعبدًا، وزاره "ياقوت الحموي"، ونوه بذكره[1].

• مدينة "قاليقلا" (أرزن الروم) ينسب إليها "أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي"، صاحب التصانيف البديعة في الأدب وأشهرها كتاب "الأمالي"، وقد نشأ في المشرق ثم انتقل إلى الأندلس.

• مدينة "دبيل" ينسب إليها "عبدالرحمن بن يحيى الدبيلي"، فقيه محدث يروي عن "الصباح بن محارب"، و"جدار بن بكر الدبيلي"، وروى عن جده، روى عنه "أبو بكر محمد بن جعفر الكناني البغدادي".

• مدينة "خلاط" أنجبت عددًا كبيرًا من العلماء والزهاد منهم "محي الدين الأخلاطي"، فلكيٌ كان أحد الثلاثة الذين استعان بهم "نصير الدين الطوسي" حين كلفه "هولاكو" بإنشاء مرصد فلكي في بلدة "مراغة تبريز".

• مدينة "نشوى" أو "نخجوان" ينسب إليها عدد من العلماء منهم "حداد بن عاصم النشوي" خازن دار الكتب بجنزة، و"الفرج بن أبي عبيدة الله النشوي"، و"أحمد بن الحجاف أبو بكر الآذري النشوي"، و"أبو العباس أحمد بن الحسين بن نبهان النشوي".. وغيرهم.

• مدينة "مناز كرد" المدينة الحصينة في عهد السلاجقة ينسب إليها الوزير "أبو نصر المنازي"، وكان فاضلًا أديبًا جيد الشعر، وقد وزرَ لبعض آل مروان ملوك ديار بكر.

• وقد اشتهر الطب في أرمينيا، ونشأ بها عدد من فضلاء الأطباء الماهرين في صناعتهم، وردت أسماؤهم بألقابهم في المخطوطات التاريخية مثل "سركيس" و"استبانوس" و"ميكائيل" و"مخيتار هيراتسي" أو "مخيتار الحكيم" إلى جانب أطباء عرب وسوريون كتبوا باللغة الأرمنية أمثال "أبو سعيدة عيسى بن أبي سعيد"، والطبيب العربي السوري "فرج".

• أما إذا استعرضنا أسماء الخلفاء العباسيين الذين ينتمون إلى أمهات أرمنيات الجنسية، لوجدنا أن هناك اثنين على الأقل، الخليفة "القائم بأمر الله" الذي دامت خلافته ثلاثة وأربعين عامًا وأمه اسمها "بدر الدجى" من فضليات النساء، والخليفة "المقتدي بالله" وأمه اسمها "أرجوان" أو "قرة العين" وكانت ذات أعمال بر، وهي التي شيدت "رباط أرجوان" ببغداد[2].

 • أما في القيادة، فقد كان القادة الأرمن في كل دولة في الصدارة، ويكفي أن نذكر اسم "بدر الجمالي" (ت 487هـ) وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله ومجدد القاهرة الفاطمية، وابنه "الأفضل أبو القاسم شاهنشاه" وزير الخلفاء الفاطميين: "المستنصر بالله، والمستعلي بالله، والآمر بأحكام الله"، والقائد "علي بن يحيى الأرميني" عاش في منتصف القرن التاسع حيث كان واليًا لأرمينيًا وأذربيجان تحت حكم الدولة العباسية، وتولى إمارة الجند العرب المرابطين على حدود الدولة الرومية في مناطق الجزيرة، وكان شجاعًا كثير الإغارة على الروم.

والقائد "بدر الدين لؤلؤ" الأرمني النوري الأتابكي وهو مملوك السلطان نور الدين أرسلان شاه، وحاكم الموصل.

و"بهرام الأرمني" وهو أحد ولاة الدولة الفاطمية، استوزره الخليفة الفاطمي "الحافظ لدين الله" سنة 529 هـ / 1135 م.

وبالجملة، فقد تولى الأرمن أمر الوزارة للدولة العبيدية في مصر، ووثقوا بهم، وحسنت إدارتهم للبلاد.

حواضر أرمينيا في الشعر:

كثر التغني بمدن وحواضر أرمينية في شعر من نزلَ هذه المدن، ورأى ما فيها من حسن وجمال فطري وقت سطوة المسلمين عليها، فهذا "أبو الرضا الفضل بن منصور الظريف" يتعنى بمدينة "بدليس" فيقول:

بَدليسُ قد جددتِ لي صبوَة = بعد التقى والنسك والسمت

هتكتِ سِترِي في هَوَى شادنِ = وما تحرجتِ ولا خفت

وكنتُ مطويًا على عفة = مظنونة يَمشي بها وَقتي

وإن تحاسَبنَا فقولي لنا = مَن أنتِ يا بدليس من أنتِ

وأين ذا الشخص النفيسُ الذي = يَزيد في الوصف على النعت

من طبعِكَ الجافي ومن أهله = قد صرتِ بغداد على بخت

أما مدينة "دبيل"[3] فيذكر أيامها الأديب "أبو يعقوب الخزيمي" فيقول:

شَقّت عليك بواكر الأَضعان = لا بَل شَجاك تشتّتُ الجيرانِ

وهم الأُلى كانوا هَواكَ فَأَصبَحوا = قَطعوا بينهم قُوى الأَقران

وَرأيت يَومَ دبيلَ أَمراً مفظِعًا = لا يَستَطيع حواره الشَفتان

الهوية الإسلامية الضائعة في أرمينيا:

نتيجة لترك الحكام المسلمين الحرية للأرمن في تقرير عقيدتهم، فقد كانت الغالبية طيلة تاريخها من النصارى، وإن كان المسلمون يمثلون نسبة لا بأس بها من السكان، وكان بها عدد من المساجد وبقايا الآثار العثمانية بالبلاد، ففي مطلع القرن العشرين كان عدد سكان "يريفان" يبلغ 29 ألف نسمة حيث يبلغ الأتراك والأكراد البدويين وأنصاف البدويين 49% بينما تبلغ نسبة الأرمن 48% والروس 2%.

ولكن في العصر الحديث ومع سيطرة الشيوعيين على أرمينيا ودخولها تحت مظلة الاتحاد السوفييتي تم هدم العديد من المساجد ولم يعد متبق سوى عدد قليل من الأقلية المسلمة أغلبهم من الشيعة؛ لرعاية إيران لعدد من رعاياها هناك، حيث في الفترة الممتدة من 1907 إلى 1994 م قامت السلطات الأرمنية بمحاربتهم وهدم المساجد لإخفاء المعالم الإسلامية في هذا البلد، ويقدر عدد المسلمين في بعض الإحصائيات بقرابة 1000 مسلم فقط، بينما تحدد بعض المصادر نسبة 88% لسكان أرمينيا غير المسلمين، و9% لسائر المسلمين، و3% للشيعة، كما تحدد مصادر أخرى نسبة 12% لمسلمي هذه البلاد، وهناك وجود قليل لليهود واليزيديين في أرمينيا.

ويرجع هذا للنزاع الذي دار بين "أرمينيا" و"أذربيجان" بعد الثورة الروسية عام 1918م، واستمر حتى عام 2020 م حول الحدود المتداخلة بينهما، منها النزاع حول إقليم "ناغورني قره باغ"، مما أدى لهروب كثير من العرقيات المسلمة الأذرية وغيرها من أرمينيا، وتقلص الوجود الإسلامي بها، وفقدان أي مظهر من مظاهر الهوية الإسلامية بأرمينيا الحديثة[4].

 

• تمتعت أرمينيا وقت الحكم الإسلامي باستقلال إداري، وحرية دينية انعكست على الواقع السياسي لذلك الإقليم؛ حيث شكل دورًا محوريًا في تاريخ منطقة الشرق العربي بأسرها، تجلى ذلك في موقعة "ملاذكرد".

•  خلال فترة الحكم العربي كانت أرمينية متفوقة على غيرها من الأقاليم الإسلامية بأنواع خاصة من الصناعات والمنتوجات الزراعية والحيوانية، وكانت مدنها الكبرى "قاليقلا وبدليس وخلاط  ونخجوان وإيروان" معابر تجارية هامة.

• برع عدد من الأرمن في الفقه والعلم والأدب والطب وغيرها من الفنون، وتقلد بعضهم مناصب سياسية هامة بالدولة الإسلامية كـ"بدر الدين الجمالي" و"علي بن يحيى الأرميني".

• ساهمت الأحداث السياسية في العصر الحديث في تقليص الوجود الإسلامي بأرمينيا، وساهمت النزاعات بينها وبين جيرانها من الدول المسلمة في ضياع الهوية الإسلامية لأرمينيا.

 

 

[1] معجم البلدان (1/ 144).

[2] "الكامل في التاريخ" (8/ 377).

[3] مادة دبيل في معجم البلدان (2/ 439).

[4] المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، د. محمد علي البار، دار الشروق، 1983م، صـ222.