أثر حضارة الإسلام في أرمينيا (1)مقالات


• تمتعت أرمينيا وقت الحكم الإسلامي باستقلال إداري، وحرية دينية انعكست على الواقع السياسي لذلك الإقليم؛ حيث شكل دورًا محوريًا في تاريخ منطقة الشرق العربي بأسرها، تجلى ذلك في موقعة "ملاذكرد".

•  خلال فترة الحكم العربي كانت أرمينية متفوقة على غيرها من الأقاليم الإسلامية بأنواع خاصة من الصناعات والمنتوجات الزراعية والحيوانية، وكانت مدنها الكبرى "قاليقلا - وبدليس - وخلاط - ونخجوان - وإيروان" معابر تجارية هامة.

• برع عدد من الأرمن في الفقه والعلم والأدب والطب وغيرها من الفنون، وتقلد بعضهم مناصب سياسية هامة بالدولة الإسلامية كـ"بدر الدين الجمالي" و"علي بن يحيى الأرميني".

• ساهمت الأحداث السياسية في العصر الحديث في تقليص الوجود الإسلامي بأرمينيا، وساهمت النزاعات بينها وبين جيرانها من الدول المسلمة في ضياع الهوية الإسلامية لأرمينيا.

 

أرمينية كولاية إسلامية:

في نهاية العهد الأموي كان قد استتبت السيطرة السياسية على منطقة أرمينيا، بدخول "مسلمة بن عبد الملك" مدينة "دربند" أو "باب الأبواب" (112 هـ-114 هـ)، ومطاردته بقايا فلول "الخزر" نحو الشمال، الذين ظلوا مثار قلق واضطرابات طيلة عهد الخلافة العباسية، وما تلاها من عهود، إلا أنه بتمكن المسلمين في "أرمينية"، لم تقم لهم قائمة بعدها داخل الإقليم الأرميني[1].

وقد مضت على "أرمينية" الخلافة العباسية في عصرها الزاهر الأول، ثم الثاني، وبنهايات العصر العباسي الثاني، حاول البيزنطيون استرداد "أرمينيا" لحوزتهم ثانية[2]، لكن سرعان ما فتحها السلجوقيون، في أعقاب انتصارهم الساحق على الدولة البيزنطية بمعركة "ملاذكرد" سنة 1071م (463 هـ)[3]، ثم تنازعها الصفويون والعثمانيون فيما بين أعوام (1532 - 1555 م) إلى أن دانت السيطرة للعثمانيين في غرب "أرمينيا"، وبقي شرق أرمينيا تحت الحكم الفارسي، وبحلول القرن التاسع عشر، فتحت روسيا شرق أرمينيا، وانقسمت أرمينيا الكبرى - من جديد - بين الإمبراطوريتين العثمانية والروسية[4].

وقد استغل الأوروبيون ضعف الخلافة العثمانية في نهايات عهدها، وأقاموا الاضطرابات والتمردات لها في "أرمينيا"[5]، متهمين إياها بإقامة المذابح للأرمن، وتهجير سكانها (1915-1917م)[6]، ولكن لم يطل بالدولة العثمانية المقام في أرمينيا وغيرها، فقد سقطت الدولة العثمانية بنهايات الحرب العالمية الأولى عام 1924 م، وأدَّى سقوط الدولة العُثمانية إلى ولادة مُعظم دُول الشرق الأوسط المُعاصرة، إلى جانب وقوع أرمينيا تحت مظلة الاتحاد السوفيتي (1920-1991)، وفي عام 1991م، انهار الاتحاد السوفيتي واستعادت أرمينيا استقلالها مع نزاعٍ حدودي مع جمهورية إسلامية أخرى هي "أذربيجان" حول إقليم "قرة باغ"[7].

استقلال سياسي إداري:

ونجد أن إقليم "أرمينية" يوم أن كانت تعيش في ظل الحكم العربي، لم تكن بعيدة كل البعد عن مجرى تقلبات السياسة العامة في عاصمة الدولة الكبرى، وأن هذا الاقليم النائي استطاع أن يقوم بأكثر من دور في تحديد معالم الحكم في البلاد، كما أنه رافق، بدرجات متفاوتة، أهم القضايا الرئيسية التي واجهتها الدولة العربية في شتى مراحلها التاريخية، بل إن أرض أرمينية نفسها، لم تسلم من الاشتراك في الصراع الدامي العنيف، الذي رسم ملامح الزمن، وكان له الأثر الحاسم في تاريخ منطقة الشرق العربي بأسرها، وكمثال على ذلك، معركة "ملاذكرد" التي نشبت بين السلطان السلجوقي "ألب أرسلان" وبين الإمبراطور "رومانوس" البيزنطي التي كانت انعطافًا حادًا في تاريخ المنطقة، وكانت بمثابة جرس الإنذار الذي قرع بشدة في جنبات الغرب، وكان إيذانًا باندلاع نار الحروب الصليبية[8].

وقد دخلت أقوام من أهل أرمينية في الإسلام أفواجًا، وفي مُقدمتهم الأكراد، الذين يبدو أنهم شرعوا باعتناق الإسلام مُنذُ سنة 21هـ عندما دخلت غالبية المناطق الكُردية تحت جناح الدولة الإسلامية، وقد دخل أغلب هؤلاء في الإسلام طوعًا، وكان لهم إسهامٌ بارزٌ في الفُتُوحات، وأصبحوا بِمُرور الزمن إحدى أبرز القوميات المُسلمة في العالم، إلى جانب العرب والتُرك والفُرس والبربر وغيرهم[9].

وقد ترك الخلفاء العباسيون شؤون الحكم للملوك المحليين، معترفين بالسيادة الاسمية، وتعاقب على حكم أرمينيا "الأسرة الباقرادونية" حيث قامت فيها مملكة عظيمة، عاشت أكثر من مئتي سنة، كانت من أزهى عهود تاريخ أرمينيا في العصر الوسيط[10].

وقد رأينا العرب قد انتهجوا بالنسبة الى أرمينية سياسة خاصة، تختلف كل الاختلاف عن السياسة التي اتبعوها في الأقاليم الأخرى، فأرمينية الإقليم الوحيد الذي اعترف فيه الفاتح العربي بسيادة الشعب، سيادة مطلقة، وبتحرره من جميع القيود التي قد تحمل طابع الاحتلال المطلق والتبعية، فكان الأرمني حر التصرف في وطنه، يختار الحكم الذي يرتاح اليه، ويولي عليه البطارقة والملوك الذين يثق بهم، ويتصرف بحياته وبمستقبله على النحو الذي يريد، دون أي تدخل من الأمير العربي الذي يتولى شؤون الإقليم، وكان الولاة العرب في العهود الأولى حين يجيئون الى أرمينية لضبط أمورها يتخذون بلدًا واحدًا ليكون دارا الأمارة والحرب، وكثيرًا ما يكون هذا البلد في منطقة نائية كـ"أرَّان" مثلًا حيث ظلت "برذعة" فترة طويلة دارًا للإمارة والجند بالنسبة الى أرمينية، ثم انتقلت إلى "المراغة" في أذربيجان، ثم "أردبيل"، وأخيرًا صارت "دبيل"، فـ"خلاط" كعاصمة رئيسية محورية تهيمن على أقسام كبيرة من البلاد بلغت نسبتها خمس مساحة الأقليم.

أما بقية المدن الأرمنية فقد كان العرب يقيمون في أرباضها، عند أطراف كل مدينة، ولم يكونوا يدخلون تلك المدن إلا في الحالات الخاصة، حيث كان الوجود العربي خلال العهود الأولى - يهدف إلى ضمان استمرار علاقات الصداقة والتعاون المخلص بين الشعبين؛ ذلك لأن وجود مثل هذه العلاقات الحسنة كفيل بإبعاد شبح الروم عن البلاد العربية المتاخمة للإقليم الأرمني.

وقد هدف المسلمون من وراء فتح أرمينية ووضعها تحت نفوذه ضمان سلامة أرضه وإحكام خططه الدفاعية ضد عدوه التاريخي العتيد[11].

رخاء اقتصادي ومركز تجاري:

هذا ما يتعلق بالأحداث العسكرية والتقلبات السياسية، أما إذا انتقلنا إلى الحالة الاقتصادية تحت حكم الخلافة الإسلامية على امتداد عصورها، وتقلب دولها، فنجد بعد استتاب الفتح الإسلامي لها بدايات العصر العباسي الأول، أي في زمن "المنصور"، كانت مساحة أرمينية تبلغ 62٫500 ميل مربع، على حين أن مساحة العراق والجزيرة مجتمعين ما كانت لتزيد عن عشرة آلاف و205 أميال.

وخلال فترة الحكم العربي كانت أرمينية متفوقة على غيرها من الأقاليم بأنواع خاصة من الصناعات والمنتوجات الزراعية والحيوانية؛ فمثلًا كانت البسط الأرمنية المحفورة والمزهرة تعتبر من أجود أنواع البسط في العالم، وكانت أنواع الصباغ المستعملة في هذه البسط من أفضل الأنواع وأشهرها.

يذكر "الثعالبي" في كتابه "لطائف المعارف" (ص 232) أن الصوف الأرمني المستخدم في البسط هو من أجود الأنواع في العالم بعد صوف مصر، وأن الخلفاء وكبار رجال الدولة العربية والعظماء والأثرياء كانوا يحرصون أشد الحرص على اقتناء البسط الأرمنية.

كما كان الجميع أيضًا يحرصون على شراء التكك الأبريسيمية التي اشتهرت بصنعها مدينة "سلماس" وغيرها من المدن في أرمينية كمدينة "خوي" و"خلاط" و"بدليس"، وكانت هذه التكك مدعاة زهو مقتنيها ومباهاتهم بها، وكانت تعتبر في أسواق المدن العربية من النوادر والنفائس ويتراوح ثمن الواحدة منها بين دينار واحد وعشرة دنانير من الذهب[12].

ومن بحيرة "وان" كانوا يستخرجون سمك "الطريخ" وهو نوع عجيب من السمك، يعتبر من عجائب الدنيا لأنه صغير كما ذكر "ابن الأثير"[13]، وقد جرت العادة في عهد "عبد الملك بن مروان" ومن تلاه أن يستخرج سمك الطريخ ثم يملح، ويعبأ في أوعية محكمة، ثم يصدر إلى كثير من الأقاليم كالموصل ونواحي الجزيرة والعراق وأصقاع الشام، وكان الناس يقبلون على تناوله ويفضلونه على جميع أنواع السمك المعروفة في مناطقهم، يقول "ياقوت الحموي" في "معجم البلدان" أنه رأي من هذا السمك في مدينة "بلخ"، وقيل له أنه موجود أيضًا في مدينة "غزنة" وبين الموضعين مسيرة أربعة أشهر[14].

وفي أطراف بحيرة "وان" كانوا يستخرجون من الأرض نوع يسمى "ملح البورق"، الذي يستخدمه الخبازون، وكانت أرمينية تصدر نوعًا من البغال وُصِفَ بالصحة وقوة الجلد، وكانت مدينة "الزوزان" هي التي تبيع هذا النوع بأثمان فاحشة لأسواق العراق والشام وخراسان.

وبشكل عام اشتهرت مدينة "قاليقلا" بالنشاط التجاري، وكانت لا تخلو من التجار في كل وقت، وتعد بلاد الأرمن منطقة عبور تجارية إذ أن مدينتي نخجوان (Naxçivan)، وتفليس (Tbilis)، والمدينة العريقة التي يعود تاريخها للقرن التاسع مدينة إيروان أو يرفان (Erevan) من أهم مناطق عبور القوافل التجارية نحو الشرق وخاصة دول الجنوب.

وبالقرب من منبع نهر دجلة بأرمينية كانت تقوم مدينة أطلق عليها العرب اسم مدينة المعدن، وكان في المدينة عدد كبير من المناجم التي كانوا يستخرجون منها مادتي النحاس والحديد.

وكان الناس، في جميع مناطق الاقليم على حال كبير من سعة الرزق وبسطة العيش والتنعم بملاذ الحياة وكانت أسعار الحاجيات رخيصة وكثيرة، والمواد الغذائية تباع بأثمان زهيدة وبعض أنواع ثمار الفاكهة تؤخذ مجانًا وبلا قيمة[15].

يتحدث "ابن حوقل" عن مشاهداته وانطباعاته حول وضع الاقليم وذلك خلال الرحلة التي قام بها عام 330 هجرية (941 م) وضمنها کتابه "صورة الأرض"، فيقول عن جبال أرمينية التي تتصل بجبل آرارات من جهة، وجبال أهرو ورزقان من جهة ثانية، مارة بتفليس متجهة شمالًا حتى جمال القفقاس: "لهذه الجبال ملوك وأصحاب لهم نعم ضخمة وضياع وقلاع نفيسة وخيول وكراع إلى مدن مضافة إليهم، ونواح ذات رسانيق وأقاليم عامرة، وبهذه الجبال والنواحي والمدن والبقاع من الرخص والخصب والمراعي والمواشي والسوائم والخيرات والبركات والمتاجر والأنهار والفواكه الرطبة واليابسة والخشب على سائر ضروبه ما لا يحاط بعلمه ولا يبلغ كنهه، وملوكها بها من سعة الأحوال وتمتعهم بالنعم والملاذ والتترف بالطيب والثياب والخدم والخيول والبغال ذوات المراكب من الفضة والذهب، وقنية الجواري الروقة من المغنيات والشهوريات والطباخات والنفقات الدارة السابغة، وكثرة الآلة من الذهب والفضة والآنية الرفيعة الثقيلة المخرشة بالسواد من الصواني والأطباق والأرطال والطسوت والأباريق والأسطال في غرائب الصنعة من اللجين والعسجد إلى ما يشاكل ذلك من الزجاج المحكم والبلور المخروط الثمين والجوهر من الحب والياقوت، وكان أكثر هؤلاء الملوك عليهم كالضرائب القائمة واللوازم تحمل في كل سنة إلى ملوك أذربيجان، فلا تنقطع ولا تمتنع وكلهم في طاعة من ملكها فثقفها، وكان ابن الساج يرضى منهم بالقليل مرة، وبالتافه أخرى، على طريق الهدية، فلما صارت هذه المملكة إلى المرزبان بن محمد بن مسافر المعروف بالسلار جعل لها دواوين وقوانين ولوازم يخاطب على مرافقها وتوابعها وبقاياها"[16].

وكانت أرمينية تدفع لبيت مال الخلافة خلال العهد العباسي قرابة 13 مليون درهم عدا الضرائب العينية في زمن هارون الرشيد وابنه المأمون[17].

 

[1] أرمينية في التاريخ العربي، أديب السيد، المطبعة الحديثة، سوريا، طـ1، 1972 م، صـ106.

[2] الأرمن عبر التاريخ، مروان المدور، دار نوبل- دمشق، طـ2، 1990 م، صـ219.

[3] مقال منشور على شبكة الألوكة: https://www.alukah.net/culture/0/88770

[4] تاريخ الأمة الأرمنية، د. ك.ل.استارجيان، مطبعة الاتحاد الجديدة، الموصل، 1951 م، صـ264-270.

[5] قيام الدولة الأرمنية في القوقاز، كامالا عمرانلي، ترجمة عبد الرحمن عبد الرحمن الخميسي، القاهرة، 2010، صـ21.

[6] الأرمن عبر التاريخ، مروان المدور، صـ371-380.

[7] مواطن إسلامية ضائعة، مشاهدات في مولدوفا وأرمينيا، محمد بن ناصر العبودي، طـ1، 2000 م، صـ133-135.

[8] أرمينية في التاريخ العربي، أديب السيد، صـ106.

[9] مواطن إسلامية ضائعة، مشاهدات في مولدوفا وأرمينيا، محمد بن ناصر العبودي، صـ130.

[10] تاريخ الأمة الأرمنية، د. ك.ل.استارجيان، صـ170.

[11] أرمينية في التاريخ العربي، أديب السيد، صـ9-10.

[12] أرمينية في التاريخ العربي، أديب السيد، صـ249.

[13] "الكامل في التاريخ"، دار الكتاب العربي - بيروت، 1997 م (3/ 409).

[14] معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، طـ2، 1995 م، مادة "خلاط" (2/ 381).

[15] أرمينية في التاريخ العربي، أديب السيد، صـ253.

[16] صورة الأرض، محمد بن حوقل البغدادي، دار صادر، أفست ليدن، بيروت، 1938 م، (2/ 347).

 [17] أرمينية في التاريخ العربي، أديب السيد، صـ254.