المصدر: مجلة البيان، ع367، 19 نوفمبر 2017م.
تشغل ألبانيا الجزء الغربي من شبه جزيرة البلقان، بمساحة قدرها 29 ألف كيلومتر مربع، وتحدها شمالاً كوسوفا والجبل الأسود، وجنوباً اليونان، وشرقاً مقدونيا، وغرباً بحر الأدرياتك، وهو يفصلها عن إيطاليا بمسافة 45 دقيقة فقط بالطائرة. وقد عرفت ألبانيا باسمها الحالي منذ نهاية القرن الرابع عشر، نسبة لقبيلة «ألبانوي» القاطنة حتى الآن في الشمال، ويسميها الألبان شكيبريا، وهي تعني «عش النسور»، وعدد سكانها حوالي ثلاثة ملايين ومئتي ألف نسمة، 70% منهم مسلمون، والبقية نصارى (20% أرثوذكس، 10% كاثوليك)، وغالبية سكانها يعملون في الزراعة، برغم محدودية الأراضي الزراعية حيث إن أغلب البلاد مرتفعات، وهي تعتبر من أصغر وأفقر بلدان أوربا، وشعبها من أكثر الشعوب بؤساً في العالم، فنصفه عاطل عن العمل، وغالبيته تحت خط الفقر، ونصف شبابها تحدوهم الرغبة للرحيل عنها إلى أوربا، وذلك برغم أنها غنية بمواردها من نفط وغاز ومعادن شتى.
الاستقلال والثمن الفادح
بدأ الألبان يدخلون في الإسلام منذ منتصف القرن الرابع عشر، وصارت بلادهم جزءاً من الدولة العثمانية، منذ أواخر القرن الخامس عشر، وظلت كذلك حتى عام 1912م، حيث انفصلت عنها نتيجة لهزيمة تركيا في حرب البلقان، ومطالبة الحركة القومية الألبانية، التي عُرفت باسم «رابطة بريزرن»، بالاستقلال الذاتي عن الأتراك، لتتحول بعدها إلى مسرح للجيوش الأوربية المتقاتلة في الحرب الكبرى (1914-1918م). وفي نهاية الحرب تم تقطيع أوصال ألبانيا، لأن أوربا رأت فيها مصدراً للخطر الإسلامي المزعوم، وأيضاً عقاباً لشعبها على اعتناقه الإسلام قبل خمسمئة عام، فتم منح إقليم كوسوفا لصربيا، ومنح جزء آخر منها لمقدونيا، وثالث للجبل الأسود، ورابع لليونان، وهكذا تقلصت مساحة ألبانيا من 80 ألف كيلومتر مربع، إلى 29 ألف كيلومتر، ولكي تعترف دول أوربا بما تبقى من ألبانيا، بحدودها السياسية الحالية، فقد اشترطت عليها شروطاً قاسية ومذلة منها: أن تكون دويلة محايدة ذات دستور علماني وفقاً للمعايير الأوربية، وأن تكون خاضعة للرقابة الأوربية الجماعية، وأن تستبدل الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وأن تقطع علاقاتها الثقافية مع العالم الإسلامي، وأن تنحي الدين جانباً. وهكذا صارت الغالبية العظمى من المسلمين الألبان عبارة عن أقليات ضعيفة ومضطهدة في البلدان التي توزعوا فيها، في حين انخفضت نسبة المسلمين في الأراضي المتبقية من ألبانيا إلى أقل من النصف تقريباً، مقابل ارتفاع نسبة الأقلية النصرانية، وكان هذا هو المطلوب، لإزالة الصبغة الإسلامية عنها. وفي عام 1920م انضمت ألبانيا إلى عصبة الأمم، واعترف العالم بحدودها السياسية الحالية، إلا اليونان التي لا تزال غير معترفة بهذه الحدود حتى اليوم. وفي مقابل ذلك الاعتراف الدولي تم إلزامها بتقديم تقرير سنوي لعصبة الأمم حول وضع الأقليات بها، ومدى تمتعها بحقوقها العرقية والدينية، في حين فرض عليها مبدأ الرئاسة الجماعية تحت مسمى «المجلس الأعلى للدولة»، الذي يتألف من أربع شخصيات تمثل الطوائف الموجودة في ألبانيا (الإسلام السني، والبكتاشية، والأرثوذكسية، والكاثوليكية)، بحيث صارت المناصب الحساسة توزع على هذه الفئات الأربع، وهذا يعني أن المسلمين في أجهزة الدولة صاروا أقلية، فإذا علمنا أن من كانوا يمثلون المسلمين سياسياً وإدارياً كانوا من القوميين العلمانيين اتضح لنا أن المسلمين بالمفهوم السني خرجوا عملياً من دائرة الحكم منذ هذا التاريخ. وفي عام 1924م أعلنت الجمهورية برئاسة أحمد زوغو الذي لم يلبث أن أعلن نفسه ملكاً على البلاد عام 1928م، فحاول التقرب من الغرب بمحاربة الهوية الإسلامية، وتبنى سياسة علمانية تغريبية متشددة، لجعل ألبانيا جزءاً من أوربا، وذلك على غرار ما فعله أتاتورك، وفي عام 1939م غزا موسوليني ألبانيا، وضمها لإمبراطوريته، ومع احتدام الحرب العالمية الثانية لمع نجم أنور خوجا، البكتاشي الباطني، والشيوعي المتخرج من جامعات فرنسا، بوصفه قائداً للمقاومة الألبانية، ضد قوات المحور الغازية، ودخل «تيرانا» زعيماً لجبهة التحرير الوطنية، التابعة للحزب الشيوعي الألباني، خريف عام 1944م، وبعد تباعد ستالين وتيتو عام 1949م سارع بالانحياز إلى ستالين، وبذلك أفلت من طموح تيتو لضم ألبانيا ليوغسلافيا، وبعد موت ستالين عام 1953م، انحاز إلى ماو وثورته الثقافية عام 1960م، وفي عام 1978م أعلن مقاطعة الصين لانفتاحها على أمريكا، فأوقفت الصين مساعداتها الاقتصادية والعسكرية لألبانيا، وسحبت خبراءها منها، وصارت ألبانيا في عزلة عن العالم، فصدئت المصانع القديمة ولم تستكمل الجديدة، وصبت المئات من الأقبية الخرسانية وسط الحقول على طول البلاد وعرضها كمتاريس لكي تستخدمها المقاومة «البروليتارية» في مواجهة هجوم «إمبريالي» محتمل على ألبانيا «المحسودة». وقد استمر أنور خوجا في السلطة حتى وفاته عام 1985م برغم مرضه العضال في سنواته الأخيرة، ليعقبه نائبه «رامز غاليا»، وفي عام 1991م وعلى إثر انهيار سور برلين، خرج آلاف المتظاهرين في شوارع تيرانا، وأسقطوا تمثال الصنم أنور خوجا، ومنذ ذلك الحين أعيد فتح المساجد والكنائس، وتم بناء بعض المساجد الجديدة من قبل أهل الخير الخليجيين.
جناية أنور خوجا على ألبانيا
إن جناية أنور خوجا على الشعب الألباني لا تعني فقط سياسة الإرهاب والبطش، التي مارسها ضده طوال فترة حكمه الطويلة، وخصوصاً ضد المسلمين، فهذه توابع لا أصول، ولكن جنايته تتمثل في إيمانه الجنوني الخيلائي بذاته، وفي احتكاره للحقيقة والرؤية الصائبة في كل شيء، وفرض نمط تفكيره على أمة بأسرها بالسلاح والبطش، وبقوة الدستور والقانون، وحبس هذه الأمة في قفص هواجسه وأنانيته المفرطة وعبادته لذاته، ومن ثم تطبيقه لنظام الحكم المركزي الشمولي البيرقراطي بشكل صارم، واستئثاره بالسلطة فيه بصورة مطلقة. ومن مظاهر جنايته تلك، والتي تعنينا هاهنا، أنه منع التحدث باللغة العربية منعاً باتاً، وكان من ضبط وهو يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم»، أو «الحمد لله»، يقضي في السجن عشر سنوات، وشمل الحظر الأسماء العربية، وكان على الأب الذي يرزق بمولود، عندما يذهب لتسجيل اسم مولوده، أن يختار اسماً من قائمة محددة أعدتها السلطات لتسمية المواليد، كما أنه جعل الإلحاد العقيدة الرسمية للدولة بنص الدستور، واعتبر الممارسة الدينية إسلامية أو مسيحية جريمة يعاقب عليها القانون، وهدم المساجد والكنائس أو حولها إلى متاحف ومخازن ومراقص، وذلك في عام 1967م، وأعلن الألبانوية ديناً جديداً للألبان، ومارس سياسة الخلط المبرمج عن طريق الزواج بين أتباع الديانات، ولم يكتفِ بذلك، بل إنه أقام متحفاً للإلحاد في شكودرا، كبرى مدن الشمال، كان هو الوحيد في العالم. واستعمل مع التيار الإسلامي في ألبانيا أدوات قمعية لم يستخدمها ستالين، ولا ماو، ولا أتاتورك، ولا بورقيبة، ولا القذافي، ولا حافظ الأسد، وكان المسلمون في الاتحاد السوفيتي، وفي يوغسلافيا، وفي الصين، في نعمة مقارنة بحال إخوانهم في ألبانيا خلال فترة حكم هذا الطاغية البكتاشي، والشيوعي الغوغائي، والفرنكفوني الثقافة، المصاب بجنون العظمة، والذي جمع كل ما في أولئك الحكام من شطحات، وغلو، وانتهازية، واستكبار، وشدة بطش، وإجرام، وعاهات مرضية مزمنة، وقد أدت هذه السياسة إلى انقطاع المسلمين بالكامل عن دينهم، وتراثهم، وتاريخهم. ولكي تعرفوا أي داهية دهياء أصيب بها المسلمون في ألبانيا على يدي هذا البكتاشي، والعقود الحالكة التي عاشوها في ظل حكمه، والوضع المأساوي الذي وصلت إليه البلاد في آخر أيامه، أحيلكم إلى الخبر التالي، الذي نشرته مجلة الوطن العربي في عدد يناير 1985م، أي قبيل وفاته بأشهر قليلة:
«الاشتراكية الألبانية، التي يرى زعيمها ومؤسسها وراعيها مدى الحياة أنها الاشتراكية الوحيدة في العالم. سيد شكيبريا.. ورفيقاه الحميمان مرض السكري وداء باكنسون.. ترتجف يدا حاكم عش النسور، ولا تقويان على القبض، بل يرتجف كله كله.. بقوة. همومه انحصرت كلها منذ استلم السلطة في هم واحد: التطبيق التام للمبادئ الماركسية - اللينينية - الستالينية في كل صغيرة وكبيرة. في بلاده فقط يتقارب مرتب المهندس والعامل العادي، ويغيب أي أثر للملكية الفردية، حتى ليبدو الاتحاد السوفيتي قلعة برجوازية ليبرالية رجعية قياساً إلى شكيبريا».
والحقيقة أن الشيوعية المطلقة، التي تلي الحقبة الاشتراكية في المفاهيم الماركسية، استعجلها أنور خوجا، وأراد أن يحقق أقصى ما يستطيع منها في دولة صغيرة. نصب نفسه قاضياً اشتراكياً، وبدأ يقيس كبار قادة الاشتراكية في العالم بمسطرة ماركسية - لينينية - ستالينية مستقيمة جداً. ماذا كانت النتيجة؟ أحد أوفى رفاقه الشيوعيين «جوزيف بروز تيتو» سقط في الامتحان سقوطاً مريعاً، وحتى ستالين اكتشف خوجا أنه لين جداً في ستالينيته في العام 1948م، فقطع علاقته معه. وانتظر حتى العام 1960م، يومذاك أعلنت موسكو أن «ماوتسي تونج» تحريفي، فأعلن حاكم ألبانيا براءة الزعيم الصيني من التهمة. لكن حدث في الصين ما دعي بـ«الثورة الثقافية»، فأصدر القاضي الألباني حكماً يدين رفيقه بالانحراف عن الخط الماركسي - اللينيني - الماوي. أغلق أبواب ألبانيا أمام أي هبة رأسمالية أو «تحريفية» قد تأتيه من البعيد أو يوغسلافيا القريبة أو من اليونان أو إيطاليا.
وسجن نحو 40 ألف ألباني يتوزعون على 18 مخيم اعتقال، وستة سجون كبرى، وسبعة معسكرات للأشغال الشاقة، وقضى على 4000 من مناوئيه، وحرم السفر على الألبانيين.
الهدف الرئيس هو الإسلام
نحن لسنا مع أولئك الذين يقولون إن أنور خوجا استطاع بسياسته الميكافيلية أن يحافظ على ألبانيا مستقلة بعيداً عن طموح تيتو وأطماع اليونان وإيطاليا، ونرى أن الذين ساعدوا أنور خوجا للوصول إلى السلطة، وهم بريطانيا وأمريكا والسوفيات ويوغسلافيا، تركوه على حاله لأنه كان يقوم بالواجب، بل كان يقوم بما لم يقدروا هم أن يقوموا به في بلدانهم في سحق الإسلام وأهله، فلا نبالغ إذا قلنا إن الهدف الرئيس من تلك السياسات الشديدة القسوة التي طبقها البكتاشي الشيوعي أنور خوجا ضد الأديان، كان الهدف الرئيس منها هو الإسلام، لقطع صلة المسلمين بماضيهم وتراثهم، وطمس هويتهم الإسلامية، وإجبارهم في نهاية المطاف على التحول إلى النصرانية. وأما تحويلهم إلى ملاحدة وتنشئة أطفالهم في ظل الدعوة إلى الإلحاد فلم يكن الهدف منه الإلحاد ذاته، إذ لم يكن هذا الإجراء سوى إجراء مرحلي تمهيداً لإعادة تنصير أولئك الملحدين في مرحلة تالية، ومن الأدلة على كل ذلك:
أن أنور خوجا اتخذ من الزعيم الألباني السفاح إسكندر بيه، الذي انشق عن العثمانيين عام 1443م، وأعلن الارتداد عن الإسلام إلى النصرانية، بطلاً قومياً لألبانيا، وبنى باسمه قلعة في قمة كروبا، تكريماً له، واسترضاء لسكان الجنوب النصارى ومن ورائهم اليونان، واستفزازاً لمشاعر سكان الشمال المسلمين المغلوبين على أمرهم، وأيضاً توجيه أنظار الألبان نحو عدو واحد، ألا وهو الأتراك ودينهم الإسلام.
أن الجنوب النصراني ظل يتمتع خلال فترة حكمه بمزايا لم يكن يتمتع بها الشمال المسلم، بما في ذلك تمتع الجنوب بوجود بعض الكنائس، التي ظل النصارى يمارسون فيها عبادتهم وطقوسهم، ولم يتم تفريغ الجنوب سوى من المساجد، بدليل أن مدينة ساندرا الجنوبية ذات الأغلبية المسلمة، بشهادة من زارها، تنتشر فيها الكنائس بكثرة، في حين لا يوجد فيها سوى مسجد واحد، وهو مهدوم، علماً بأنه حيل بين الجمعيات العربية وبين إعادة بنائه مؤخراً.
أن أنور خوجا عندما فكر في إقامة متحف الإلحاد، وهو المتحف الوحيد من نوعه في العالم، فكر في إقامته بعيداً جداً عن الجنوب، معقل النصارى، وعن اليونان الجارة الجنوبية النصرانية رافعة راية الأرثوذكسية، فقد أقامه في مدينة شكودرا الشمالية ذات الأغلبية المسلمة، بل إن الشمال هو المعقل الرئيس للمسلمين.
أن هناك حالياً جهوداً مكثفة للتنصير في أوساط الملحدين الألبان، الذين لم يعرفوا سوى الإلحاد ديناً لهم بعد خمسة عقود من فرضه في البلاد، وذلك بغية إدخالهم في العقيدة النصرانية، فجذب الملحد إلى النصرانية أسهل وأقل تكلفة بكثير من جذب المسلم إليها، هذا إذا تنصر المسلم ويستحيل أن يتنصر المسلم الصحيح الإسلام.
على أن سياسة محاربة الأديان في ألبانيا، وإن نسبت للرئيس البكتاشي الشيوعي أنور خوجا، فمن المؤكد أنه لم يكن المسئول الوحيد عنها، ولا شك أن هناك من كان يحرضه ويشجعه عليها من صفوف حزبه الشيوعي، والذي كان يمثل نصارى جنوب ألبانيا، والقريبين من اليونان عقيدة وإثنية، فهؤلاء كانوا ملتفين حول أنور خوجا بكثافة، وكانت بأيديهم المناصب الحيوية في الحزب والدولة، بدليل أنه في محضر الاجتماع الذي كشف عنه مؤخراً، حول الزيارة التي قام بها أنور خوجا لستالين في موسكو سنة 1949م، كان غالبية أعضاء الوفد الثمانية المرافقين له من الأرثوذكس، وأيضاً بدليل أنهم، أي نصارى الجنوب، هم ورثة الحزب الشيوعي، بعد أن صار اسمه اليوم الحزب الاشتراكي.
الهجمة التنصيرية التغريبية الشرسة
منذ انهيار الشيوعية عام 1991م وألبانيا تتعرض لهجمة شرسة من قبل المنظمات التنصيرية، التي تكالبت عليها من أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية، واستخدم المنصرون وخاصة الأرثوذكس إغراءات السفر للعمل بالخارج لتحويل الشباب المسلم عن دينه، مشترطين عليهم تغيير أسمائهم الألبانية لأخرى يونانية، إضافةً لتغيير ديانتهم رسمياً، في مقابل إعطائهم تأشيرة سفر لليونان، ومنحهم الإقامة بها، وتوفير فرص عمل لهم. وهناك عشرات الآلاف من الشباب المسلم الألباني تنصروا فعلاً لهذا الغرض، وهذا فضلاً عن النشاط التنصيري الواسع والمكثف في الداخل، حيث تنتشر تلك المنظمات التنصيرية في صفوف المجتمع الألباني المسلم الفقير، وتمارس عمليات التنصير بوسائل مختلفة، دون حسيب أو رقيب، مقابل فتات المساعدات أو الخدمات التافهة التي تقدمها للناس البؤساء، وامتد نشاطها إلى كل مدينة وقرية ألبانية، وبنيت الكنائس في كل مكان. وليس المهم التنصير في ذاته، ولكن المهم هو إبعاد المسلمين عن دينهم وتغريبهم وطمس هويتهم، بما في ذلك نشر الأفكار الإباحية والهدامة في مجتمعاتهم، وهناك العديد من القنوات الفضائية التي أنشئت خصيصاً لهذا الغرض الدنس، ولذلك ليس غريباً أن تنتشر الدعارة في البلاد، وأن تصبح ألبانيا مصدراً لتصديرها إلى الخارج. وعلاوة على ذلك، فهناك علاقة مشبوهة بين البابا وزعيم البكتاشية في ألبانيا، التي أشار لها البابا على أنها مثال للعيش السلمي بين المسيحيين والمسلمين، وذلك خلال زيارته لها في سبتمبر 2014م، حيث يبدي البابا اهتماماً مبالغاً فيه بزعيم البكتاشية بشكل خاص، وبألبانيا بشكل عام، وكذلك تفعل إيران عن طريق سفارتها ومراكزها الثقافية هناك، والتي تعتبر مراكز لتصدير الثورة ولبث المعتقدات الرافضية، ولعل من أسباب ذلك أن البكتاشية تمزج بين العقائد النصرانية والشيعية، وأن العدو الإستراتيجي لها هو الإسلام بمفهومه السني، ولذلك فهي تتحالف مع الكنائس النصرانية للوقوف صفاً واحداً لمنعه من الانتشار في ألبانيا، ويشكل أتباعها حوالي 15% من مسلمي ألبانيا. ولكي تعرفون المدى المفزع الذي وصل إليه النشاط التنصيري في ألبانيا، نحيلكم إلى هذا الخبر الذي نشرته مجلة «السنة» العدد 26 جمادى الأولى 1413هـ 1992م عن حصول جماعة مسيحية أصولية على حق إدارة جميع دور الأيتام في ألبانيا. وقد نشرت «الإندبندت» خبراً بالخط العريض في 18/10/1992م عن الموضوع ذاته تحت عنوان: «معمدانيون أمريكان ينافسون المسلمين في سوق الدعوة»، وتحت عنوان ثانوي: «الأيتام الألبانيون أسرى للتربية المسيحية». وقد منحت المؤسسة النصرانية من قبل الحكومة الألبانية حق تأجير دور الأيتام لمدة 49 سنة، مقابل تنازل ذوي الأيتام عن كافة حقوق الأيتام للمؤسسة، التي ستقوم على تربيتهم وتأمين الصحة والغذاء لهم. وقد علق ناطق باسم المؤسسة قائلاً: إن مؤسسته تؤمن بالحاجة إلى نشر تعاليم الإنجيل. وفي رد على سؤال عن ماذا سيحدث للتربية الدينية لأيتام المسلمين، قال الناطق: «إنه من غير المرجح أن تعنى المؤسسة بهذا الأمر». ويلقن الأطفال الذين يعيشون في عزلة عن العالم الخارجي «الصفات التي يكون عليها الخلق الذين سيدخلهم حبهم ليسوع الجنة، ويحفظون أناشيد تعبر عن حبهم ليسوع»، وتقول إحدى العاملات في المؤسسة: «إن السر وراء كسبنا للعقد هو سعينا إليه».
ومع كل ذلك، نجد النصارى هم الأعلى صراخاً والأكثر ضجيجاً في التحذير من خطر الإسلام على ألبانيا، وهم الأكثر جرأة في محاربته والطعن فيه، وهذا ما فعله الرئيس الألباني النصراني ألفرد مويسيوي، في كلمة ألقاها خلال مشاركته في مؤتمر دولي عن التسامح بلندن في 9 نوفمبر 2005م فقد قال: «إن مسلمي ألبانيا في الواقع يحتضنون العقيدة المسيحية داخلهم، لأن خمسة قرون من عمر الإسلام في ألبانيا لا تكفي لمسح 15 قرناً من عمر المسيحية بها». وأضاف: «التسامح الديني المعروف عند الألبان لم يأت مع دخول الإسلام إلى ألبانيا، وإنما كان موجوداً منذ انتشار المسيحية في ألبانيا». وقد استفزت هذه التصريحات مسلمي ألبانيا، وطالبوا رئيسهم بالاعتذار عنها، ولكنه أصر على موقفه، واعتبر خلال لقاء عقده مع «سليم موتشي» رئيس المشيخة الإسلامية الألبانية في 20 نوفمبر 2005م أن ما قاله «حقائق تاريخية لا يمكن التراجع عنها معرباً في الوقت نفسه عن تقديره للمسلمين في البلاد».
عودة الحزب الشيوعي
بعد انهيار الحكم الشيوعي عام 1991م، ومع فوز الحزب الديمقراطي، ذي التوجه القومي العلماني، في انتخابات أبريل 1992م، صار رئيسه صالح بريشا رئيساً لألبانيا، وأعيد انتخابه عام 1996م، وخلال فترة حكمه قام ببعض الإصلاحات المهمة، وحاول الانفتاح على العالم الإسلامي، كما أنه أبدى اهتماماً بقضية الأقليات الألبانية في الدول المجاورة. ولكن كل هذا أدى لتورم أنوف قادة المعارضة، التي كان يتزعمها الحزب الاشتراكي، وريث الحزب الشيوعي، الخاضع لسيطرة النصارى الأرثوذكس، والذي أيضاً تعتبر قيادته ألعوبة بيد اليونان، فقد استغل هذا الحزب، الذي كان يرأسه في ذلك الوقت «فاتوس نانو»، الأرثوذكسي اليوناني الأصل، والشيوعي السابق؛ انهيار شركات توظيف الأموال في عام 1996م، ما أدى إلى ضياع مدخرات مئات الآلاف من الألبان، ما أثار عاصفة غضب ضد الحزب الديمقراطي الحاكم، وزعيمه صالح بريشا، برغم أن المتسبب في حدوث ذلك الانهيار هو المافيا المتفشية في الحياة السياسية والاقتصادية، التي كانت ترعاها اليونان، والتي أيضاً تشارك فيها مشاركة فعالة قيادات متنفذة في الحزب الاشتراكي، وفي تلك الفترة اشتعل التمرد في الجنوب النصراني، وخرج عن سيطرة الحكومة وعمت فيه الفوضى، ولعبت الكنيسة اليونانية دوراً كبيراً في استفحال تلك الاضطرابات، لنفوذها الهائل هناك، ولم تهدأ الأمور إلا بعد أن قامت الأمم المتحدة بإرسال قوات أوربية بقيادة إيطاليا إلى هناك من جهة، وبعد الإطاحة بالرئيس صالح بريشا من جهة أخرى. وفي الانتخابات المبكرة عام 1997م فاز الحزب الاشتراكي، وبفوزه عاد الشيوعيون إلى السلطة من جديد في ألبانيا، وصار «فاتوس نانو» النصراني زعيم الحزب الاشتراكي رئيساً للوزراء، فأظهر حقده الدفين على الإسلام وكل ما يرمز له، فقد دعا إلى طرد العرب من ألبانيا، وفي مقدمتهم الجمعيات الخيرية، متهماً إياها بالإرهاب، ومتهماً صالح بريشا بفتح أبواب البلاد للجماعات الإسلامية الأصولية، التي اتخذت البلاد قاعدة لأنشطتها الإرهابية في البلقان وأوربا، بحسب زعمه، وطالب الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية بمساعدته في طرد الجالية العربية من ألبانيا وإنقاذ بلاده من زحف التيار الإسلامي عليها، وحذر من إعادة نشر الديانة الإسلامية فيها، واستجابت الإدارة الأمريكية، التي كانت مخابراتها قد اتخذت من ألبانيا قاعدة لها، بسرعة لطلبه، وبدأت تمارس الضغوط لطرد الجمعيات الخيرية العربية من ألبانيا، حتى تبقى الساحة الألبانية مفتوحة على مصراعيها للنشاط التنصيري والإباحي الهدام فقط، لدرجة انسحاب ألبانيا من منظمة المؤتمر الإسلامي. ولم يكتف هذا اليوناني الصليبي الحاقد بذلك، بل إنه تعاون أيضاً مع ميلسوفتش الزعيم الصربي الصليبي المجرم في حربه الاستئصالية على مسلمي كوسوفا، وكانت ثمرة هذا التعاون اغتيال «حازم حيدري»، الأمين العام للحزب الديمقراطي، لقطع اليد التي كانت تقدم الدعم لجيش تحرير كوسوفا، الأمر الذي أثار ثائرة المسلمين في الشمال (مؤيدي الحزب الديمقراطي)، فقاموا باقتحام مبنى رئاسة الوزراء ومبنى التلفزيون، كما قاموا بالاستيلاء على الأسلحة الثقيلة، وتسليم جزء منها إلى جيش تحرير كوسوفا، فتدخلت أوربا وتم استبدال «نانو» لتورطه في عملية الاغتيال تلك، بالتعاون مع ميلسوفتش، وبذلك تم امتصاص غضب المسلمين واحتواء الموقف، لكن الحزب الاشتراكي ظل متشبثاً بالسلطة، حتى سقط في انتخابات 2005م، بعد أن أوصل البلاد إلى حافة الهاوية، ليخلفه الحزب الديمقراطي، لكن الحزب الاشتراكي عاد مجدداً إلى الحكم في 2013م، ثم فاز في انتخابات 2017م أيضاً، وهو الحزب الحاكم اليوم، وكل جهوده منصبة على الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وهو يقتات على الترويج لهذا المشروع، ويوظفه للهيمنة على البلاد، ويزايد عليه في دعايته أثناء الانتخابات، وفي الوقت نفسه يستخدمه ستارة للحرب على الإسلام، ولعزل ألبانيا عن العالم الإسلامي، تاركاً أبواب البلاد مفتوحة على مصراعيها للجماعات التنصيرية والماسونية والإباحية الغربية. وإذا كانت الحكومات الأوربية لا تعتبر ألبانيا دولة إسلامية، وتتعامل مع شعبها ككتلة إسلامية في محيط أوربي، فإن قيادة الحزب الاشتراكي الألباني، وكذلك الكنائس الغربية المختلفة، تتعامل مع تلك الكتلة الإسلامية على أنها مسلمة في الظاهر نصرانية في الباطن، وعلى هذا الوتر يعزفون، محاولين إقناع المسلمين الألبان بهذه الفكرة السخيفة، التي كذبوها فصدقوها، وذلك لكي ينهوا الوجود الإسلامي في ألبانيا، بل في دول البلقان كلها.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.