نشر الإسلام في قرى جبال النوبة أمر سهل وتكاليفه بسيطة.. ولكن!مقالات

رئيس تحرير مجلة الكوثر

المصدر: مجلة الكوثر – السنة الثالثة – العدد 46 - جمادى الآخرة - رجب 1424 ه – أغسطس 2002 م. – (ص32 – 33)


أثناء زيارتي الأخيرة للسودان، زرت كلية التربية في مدينة ملكال التي تسكنها نسبة جيدة من المسلمين، فاكتشفت أنه لا يوجد فيها سوى سبعة طلاب مسلمين من بين جميع طلابـهـا. وعـنـدمـا اسـتـفـسـرت أحد مدرسيـهـا، وهـو الشـيـخ محمد دينق عن أسباب ذلك أجاب بقوله: «إنه الفقر الذي يحول دون وصـول خـريـجـي الـمـدارس الـثـانـويـة مـن الـمـسـلـمـيـن إلى الـكـلـيـات والمعاهد من أجل إكمال تعليمهم الجامعي، وأضاف: «هل تعلمون أن الكنيسة هنا تدفع مـا يـعـادل ۱۲ دينارا كويتيا شهريا لكل طـالب يـدرس بـالـكـلـيـة، بشرط ألا يـكـون مسلما؟! ولنا في النهاية تخيل النتيجة».

ويـرى الـشـيـخ مـحـمـد ديـنـق «أن السبيل الوحيد لمواجهة هذه المشكلة هو التركيز على الكفالات المالية من المحسنين الكرام. فلو تمكنا من كفالة عشرة طلاب متفوقين مـن أبـنـاء جـنـوب الـسـودان الـمـسـلـمـيـن لارتفعت نسبة الجامعيين بصورة كبيرة عما هي عليه اليوم» وضرب مثلا بنفسه قائلا: «لو لم أحصل على منحة من الـمـمـلـكـة الـعـربية السعودية المعروفة برعايتها لأبناء المسلمين أينما وجدوا، لما استطعت بلوغ هذه المرتبة الجامعية والحصول على درجة الماجستير». وعـنـدمـا هـمـمـت بـوداعـه، حـمـلـنـي رسـالة شفهية يناشد فيها إخوانه من العرب بناء ناد للطلبة المسلمين (كلفته حوالي 5000 دينار كويتي) على غرار إخوانهم في العديد من البلاد العربية والإسلامية وانشاء مكتبـة إسلامـيـة (كلفتها الإجمالية 800 دينار كويتي) في الأرض المخصصة لهم أسوة بالطلبة المسيحيين. كـانـت هـذه صـورة عـن حـالـة الـتـعـلـيـم الجامعي في وسط المسلمين بهذه المدينة ' لكن ماذا عن المرحلة الابتدائية ورياض الأطفال فيها؟ الحقيقة أنني لا أود أن أسهب الـحـديـث عـن أحـوالـهـا المؤسفة كذلك لا أثـقـل عـلـى قـلـب الـقـارئ الكريم، لكنني أتناول باختصار شديد جانبا واحدا فقط قد تكون فيه الكفاية لإعطاء تصور عن واقع حال هذه المرحلة التعليمية المهمة في حياة الطفل، إن الصورة المؤلمة التي ارتسمت في عيني وأنا أزور بعض الكتاتيب القرآنية هي تلكم الألوان الشاحبة التي صبغت وجوه أطفالها وأجسـادهـم الـنـحـيـلـة لتترجم سوء التغذية الـتـي أصـبـحـت قـدرا مـقـدورا يـلازمـهـم من المهد إلى اللحد. في الوقت الذي يرون فيه أترابهم من أتباع الكنيسة وهو يرفلون في ملابسهم الأنيقة، وينعمون بوجبات الطعام الـمـجـانـيـة، ويلعبون ويمرحون في رحاب روضـتـهـم كـأنـهـم في رياض الجنة... وفي ظـل هـذه الـحـالـة الـمـزريـة، قد تشتد وطأة الـحـرمـان عـلـى بـعض أطفال المسلمين، أو تلسعهم عضة الجوع في بطونهم فيهربون من كتاتيبهم القرآنية، ويلجؤون إلى رياض الكنيسة لتطعمهم من جوع، وتكسيهم من عري! كيف لا يفعلون واخوانهم المسلمون يبخلون عليهم بوجبة ساخنة لا تكلف أكثر مـن عشـرة فـلـوس كـويـتـيـة أو احدى عشرة هللة سعودية؟! أبلغ بنا الأمر حد العجز عن اطعام خمسين طفلا من المسلمين لمدة شهر فقط حتى تقوم الكنيسة بهذا الواجب التكافلي الذي بني عليه ديننا الحنيف؟

 

رغم أن المنظمات الخيرية الغربية تصرف الملايين من أجل رعاية الأطفال في الجنوب، إلا أنهم مازالوا حفاة عراة جوعى.

قرية كاتشا:

زرت قبل فترة قرية اسمها كاتشا أقامت فيها - لجنة مسلمي إفريقيا - مسجدا صغيرا منذ أربع سنوات. تقع هذه القرية على بعد ۲۲ کیلو مـتـرا مـن ( كـادقـلـي ) عاصمة أحد أقاليم منطقة جبال النوبة في السودان، لكن الوصول إليها تصاحبه مشقة كبيرة بسبب وعـورة الـطـريـق الـذي يـعـبر غابات الاقليم، خصوصا في موسم الأمطار والسـيـول تـبـيـن لـي مـن الاحصـائـيـات الشـفـهـيـة الـتـي تـلـقـيـتـهـا من السنة شباب الـقـريـة، أن مـعـظـم سـكـانـهـا من الوثنيين يليهم المسلمون ثم النصارى الذين يشكلون أقلية ضئيلة، ورغم قلة النصارى في هذه القرية، وأغلبهم من النساء والأطفال، قام المبشرون بـبـنـاء كنيسة فيها لكن سقفها انهار في أحداث تمرد بعض الشباب على الحكومة، وظلت على حالها، الأمر الذي أفقد قسسـهـا الأمـل فـي مـواصـلـة مشروعـهـم الـتـنـصـيـري. الـتـقينا في هذه الزيارة بأحد رجال القرية وهو شرطي متقاعد، فحدثنا عـن أحـوال الـدعـوة الإسلامـيـة وأوضاع الـمـسـلـمـيـن فـيـهـا وطـرح مـجـمـوعـة من الوسائل والسبل للنهوض بها من الناحية الدينية، ونشر الإسلام في القرى المجاورة لها. يرى هـذا الـرجـل ضرورة الـتـركـيـز على تقديم المساعدات الغذائية لمقاومة الفقر والـجـوع الـلـذيـن تتخذ منهما الكنيسة طريقا لنشر عقيدتها الفاسدة، إلى جانب تكليف داعـيـة مـتفـرغ يعلم الناس أمور دنهم الـمـتـعـلـقـة بـالـعقائد والـعبـادات والـمـعـامـلات والأخـلاق طـبـقـا لكتاب الله وسنة نبيه الكريم، مع الحرص على دعم هذا العمل الدعـوي بالكتيبات والمطويات الموجهة للمتعلمين بين أوساط الشباب والنساء والأطفال. ويـري كذلك ضرورة الاهـتـمـام بـالـمسجد باعتبـاره مـنـطـلق العمل الدعوى، وضرب مثلا على ذلك بالمسجد الذي يؤم الناس فيه رغـم بسـاطـة مـعـلـومـاتـه الفقهية عن العبادات التي تعلمها من زملائه في العمل مسـتشـهـدا بـالأعـداد الكبيرة التي تحرص على صلاة الـجـمـاعـة فـيـه، وتنطلق منه لتبليغ دعوة الله إلى الأهالي والأصدقاء والجيران، والعمل على ارساء جذورها في نفوسهم، وتثبيتهم على الايمان.

السفر على الطريق المؤدي إلى هذا المسجد كان متعبا كثير الغبار، لكن كل ذلك زال حينما رحب بنا أهالي القرية أحر ترحيب على أساس اننا أول وفد عربي يزورهم من خارج السودان.

 

سبعة طلاب مسلمين فقط في كلية التربية بمدينة ملكال السودانية ذات الأغلبية المسلمة.. أليس ذلك أمرا محزنا؟

حقوق الطفل:

ينظر أغلب السودانيين إلى كل ما هو غربي نظرة شك، خاصة إذا كان يمثل كنيسة أو مـنـظـمـة خـيـريـة. فـهـم يـعـتـقدون أن جميع مشاكلهم تنبع من وراء هؤلاء الذين تسببوا في مشـكـلـة جـنـوب السودان ودفـعـه إلى المطالبة بالانفصال منذ أول أيام الاستقلال وبالطبع، كلنا يعلم أن الاستعمار البريطاني هو الذي عمل خلال احتلاله للسودان على صـنـع هـذه الـمـشـكـلـة، وزرع بذورهـا بـدعم الـحـركـات الانـفـصـالـيـة في الجنوب، وحظر دخـول السـودانـيـيـن الـمـسـلـمـين اليه، وحظر الدعوة إلى الإسلام وتعليم اللغة العربية فيه، ومنع ارتداء الزي العربي (الجلابية.. الخ)، بل اسـنـد مـيـزانـيـة الـتـعـلـيـم والصـحـة فيه إلى الكنيسة، ومنحها صلاحيات ادارية واسعة: منها تحصيل الضرائب من المسلمين لدعم حركتها التنصيرية. كما لعبت المنظمات الكنسية دوراً كبيراً بعد الاسـتـقـلال في نشاط حـركة التمرد بالدعم المالي والعسكري لتمنع وصول الإسلام إلى المناطق الداخلية. الأمر الذي ولد نوعا من الحساسية لدى السودانيين إزاء هذه المنظمات التي تأتي متدثرة برداء الأعمال الخيرية، واذكر على سبيل المثال الـزيـارة الـتـي قـام بـهـا مندوب « جمعية الـمـحـافـظـة على الأطـفـال Save the children fund) التي لا صلة لها بالكنيسة - إلى السودان بهدف اعداد تقرير عن وضع الطفولة بجبال النوبة، حيث قابل أحد أمراء القبائل وهو الأمير كافي طيار الذي عرف بتدينه وحسن خلقه وأجرى معه حـوارا فـي الـمـوضـوع : لـكـن الـمـنـدوب البريطاني فوجئ برد الأمير عليه قائلا : لازلنا نذكر الزيارة التي قام بها بعض الغربيين إلى السودان، فأعقبها بعد مرور أسبوع قصف جوي لمصنع الشفاء للأدوية التي كنا نعالج بها مرضانا ! ونحن نتساءل عما تنوون فعله في الأيام المقبلة بعد زيارتكم هذه؟! غير أن المندوب رد ردا جميلا بقوله: إن المنظمات الخيرية تختلف في أعـمـالـهـا وأهـدافـهـا عن مواقف وسياسات الحكومات الرسمية. فنحن جئنا لمساعدة الـنـاس وتـلـبـيـة حـاجـاتهم الإنسانية! لكن الغريب في أمر هذه المنظمة أنها خصصت مبالغ طائلة لبرنامجها في جبال النوبة الذي يهتم برعاية حقوق الطفل المنصوص عليها في وثيقة هيئة الأمم المتحدة. ومع ذلك لا يزال أطفال هذه المنطقة يعيشون عراة حفاة، لا يجدون طعاماً كافياً يسكت أنين جوعهم، ولا ماء مستساغاً يشربونه، أو مـدارس كـافـيـة يـتـعـلـمـون فيها أو مستشفيـات يـعـالـجون فيها من الأمراض تـحـصـد أرواح العشرات منهم ومن آبائهم كل يوم وليلة. أليس هذا الواقع ميزانا توزن به أعمال هذه الـمـنـظـمـة الـغـربية وغيرها، ويضع علامة استفهام مـكـبـرة حـول أهـدافـهـا الـخـفية الـمـوجـهـة إلى هـذه الـمـنـطـقـة وغيرها من المناطق المستهدفة بمشروع التنصير؟