المصدر: مجلة الوعي الإسلامي – السنة الرابعة – العدد السابع والثلاثون – غرة محرم سنة 1388 ه – مارس سنة 1968 م. – (ص41 – 46).

أصبح «الأغالبة» أصحاب صقلية منذ عام 216 هـ (8۳۱ م)، وصاروا سادة العاصمة الرومانية (بلرم) في الجزيرة. واتخذوهـا مركزا لإمارتهم الجديدة، واستمر حكمهم للجزيرة زهاء الثمانين عاما (216 – 296 هـ) (1).

قضوا منها نصف قرن في الصراع مع الصقليين بالجزيرة، وقوات القسطنطينية في البر والبحر، يتنازعون المدن والحصون والقلاع فيما بينهم، حتى كتب النصر للأغالبة اخيرا.

وكان الأغالبة قد أخذوا - منذ وطئت أقدامهم أرض الجزيرة على التوالي، وفي أثناء فترة هذا الصراع الطويل- يستقرون في السهول الخصبة المحاطة بالجبال الشاهقة، وينزلون فيما يفتحونه من مدن وحصون، وأقامـوا بناء إمارتهـم الجديدة فيها، وعنوا بإدارتها وتنظيمها وترتيب شـئونها، فاستقامت لهـم الأحوال، ونجحوا في تأسيس نظام أداري ومالي بالجزيرة، التزمه كل مـن أتى بعدهم حتى (النورمان) المسيحيون.[1]

مع الفاطميين:

ثم انتقل حكم الجزيرة من بعد الأغالبة إلى أيدي الفاطميين سنة 296 هـ (۹۰۸ م) وأصبحت صقلية جزءا من ممتلكات دولتهم التي أسسها المهدي في شمال افريقية، فأخذوا يرسلون إليها الولاة من قبلهم، ولكن حدث بعد أربـع سنوات من حكمهم أن أعلن مسلمو صقلية بزعامة «أحمد بن قرهب» انفصالهم عن الفاطميين سنة 300 هـ (۹۱۲ م) وخطبوا يوم الجمعة للخليفة العبـاسي.

المقتدر ( 295 – ۳۲۰ ھ / ۹۰۸ – ۹۳۲ م )، ثم عادت إلى الطاعة في سنـة 304 هـ ( ۹۱۷ م )، واستأنف الفاطميون ارسال الولاة اليها من جديد، وقد ظلت صقلية طوال الأربعين السنة الأولى من الحكم الفاطمي مثار فتن وقلاقل، استنفدت من الدولة مجهودا كبيرا، وكلفتها من الأموال والرجال شيئا كثيرا، وصارت الحياة السياسية خلالها قلقة وغير مستقرة، والحالة الداخلية غيـر مرضية، ومع ذلك كانت مراسم الملك تجرى عليها، فيأتيها الولاة، والقضاة، ويقوم الولاة بواجبهم الأول من الغزو والفتح، ثم يرتبون حكام الأقاليم ونوابهم، ويشرفون على تنفيذ القوانين والأحكام، ويتولون جمع الضرائب والجزية، وينظرون في أوجه الدخل والصرف.

مع الكلبيين:

وفي سنة 336 هـ ( 947 م ) عين الخليفة المنصـور العلوي واليـا على الجزيرة هو القائد : « الحسن بن على بن ابى الحسين الكلبي » فوضع اساس حكومة قوية مستقلة، واعاد بحسن سياسته، وجميل صنعه حياة الأمـن والاستقرار في الجزيرة، وعلى عهده وعهد خلفائه من بعده نمت الحياة في جميع مرافقها وازدهرت حتى بلغت غاية الكمال على عهد الأمير الكلبي : ابي الفتوح يوسف بن عبد الله ( ۳۷۹ – ۳۸۸ هـ ) وبذرت بذور الثقافة العربية، ونمت في تلك الجزيرة المتعددة اللغات والأجناس، واعتبـر عصر ( أسرة الكلبيين ) في صقلية « العصر الإسلامي الذهبي لها » لأنها تمتعت فيه بما لم تتمتع به في اي عصر إسلامي آخر.

وقد استمرت جموع المسلمين تفد على الجزيرة الغنية منذ الفتح حاملـة معها دينا جديدا، ولغة جديدة، وتقاليد وعادات جديدة، كان لها بحكم ما لأهلها من سلطان وسيادة ذيوع وانتشار في المجتمع الصقلي، ذلك لم تختـف المسيحية، ولا اللغة اللاتينية أو اللغة اليونانية بتاتا، وظلت الكنائس والأديرة تجاور المساجد، وتقام فيها الشعائر الدينية، وبقيت اللغة اللاتينية، ثم اللغة اليونانية مستعملة في الجزيرة بجانب اللغة العربية.

 وأدخلت هذه الهجرة كذلك دما جديدا، كما حمل المهاجرون معهم وسائل جديدة في الزراعة والصناعة، كان لها أثرها في رخاء الجزيرة ونمو ثروتها، وقد نشأ حينئذ مجتمع جديد في ظل حكومة إسلامية جديدة على رأسـها وال يحكم باسم حكومة افريقية المركزية.

مجتمع الجزيرة:

طبقت في الجزيرة نظم الحكم السائدة في الولايات الأخـرى التابعـة للحكومة المركزية بأفريقية، سواء من الناحية السياسيـة، أو الإداريـة، أو التشريعية، غير أن صقلية كان لها مجتمعها الخاص، اذ كان المجتمع الصقلي على عهد المسلمين يتألف من اجناس مختلفة، وطبقات متعـددة، فقد وفـد المسلمون على الجزيرة فوجدوا فيها أقلية من الفينيقييـن، الذين امتزجـوا بالعناصر الأخرى، كما وجدوا الرومان اللاتين، واليونان أو الروم البيزنطيين.

كما وجدوا اليهود، ثم الرقيق الذين استوطنوا الجزيرة منذ أزمان بعيدة، اما المسلمون الفاتحون فقد كانوا خليطا من العرب والبربر من قبائل مختلفة، بينهم عدد من الموالي الفرس، وكان المسلمون العنصر الغالب في المجتمع الصقلي بما انضم اليهم من الموالي الصقليين، ومن الأرقاء الذين اعتنقوا الإسلام، وقد مصر المسلمون الفاتحون الحواضر وسكنوها، وكانت لهم يد في السياسة والصناعة والتجارة، فوق ثقافتهم العربية التي نمت وازدهرت في الجزيرة على ايامهم، واستمرت بعد انقراض دولتهم وكان بطبيعة الحال يقف على راس السلم الاجتماعي الوالي وأهل بيتـه وحاشيتهم، ويقف إلى جانبهم كبار الموظفين من حكام الأقاليم ونوابهم، وقواد الجند، والقضاة، وكان هؤلاء جميعا يعيشون غالبا في سعة ورغد من العيش لهم الثروة والجاه، والسلطان، واليد الطولى، والكلمة النافذة بعد الأمير، اما اتباع هؤلاء فيكونون الطبقة الأولى في المجتمع، ويمكن أن يضاف اليهم الجنـد والحرس.

أما جمهور الشعب أو العامة فكان يتكون من طبقتين : عليا تقترب مـن الطبقة الأرستقراطية الأولى، وتضم رجال الأدب والفنون، والعلماء، والعمال والتجار، وارباب الحرف والصناعات وطبقة دنيا تكون أغلبية الشعب، وتضم الزراع، والرعاة، وأهل الريف الذين كانوا يمثلون في الأصل السكان الوطنيين، وصاروا الآن موإلى مسلمين، واهل ذمة من المسيحيين واليهود، وكان أهل الذمة يتمتعون على عهد المسلمين بقسط وافر من الحرية، والتسامح الديني، كما كانـوا يحتفظون بقوانينهـم الدينية والمدنية، ويشتركون مع المسلمين على قدم المساواة في الاحتفـالات العامة ومعهم اعلامهم الخاصة بهم، ويظهر قساوستهم وأحبارهم بملابسـهم المزركشة. (2)

وفي أسفل درجات السلم الاجتماعي كانت تقف طبقة الرقيق الذين كانوا يستخدمون في فلاحة الأرض والخدمة الخاصة، وهذه الطبقة وان لم يكن لها من الحقوق ما يجعلها في مستوى الطبقات السابقة، إلا أن الرقيق في صقلية تحت الحكم الإسلامي كان أحسن حالا بكثير من السكان الايطاليين في شب الجزيرة تحت حكم اللمباردو الفرنجة (3).

وكان بالجزيرة سوق رائجة لتجارة الرقيق الذي يقبل على شرائهم الاغنياء وهم من أسري الحرب، او من الاجناس السلافية (الصقالبة) الذين كان يجلبهم التجار للبيع والشراء، ولم يكد يتم فتح الجزيرة حتى اعتنق الأرقاء الخلـص الإسلام، وانتشر الإسلام بين باقي السكان حتى اصبحت الغالبية الساحقة من السكان مسلمين، فغربي الجزيرة، ووسطها كله مسـلمون، وكذلك معظم الاجزاء الشرقية (4).

ومع أن الإسلام قد كسر من حدة النعرة الجنسية، واضـعف من نظام الطبقات الاجتماعية الا انا لا نستطيع أن ننكر ما كان يقوم في المجتمع الصقلي من منافسات، كانت تصل في معظم الأحيان إلى اسالة الدماء، والتي كـان سببها في الغالب العداوة الجنسية بين العرب والبربر!! والعصبية القبلية بين العرب أنفسهم!! والحسد للدولة الحاكمة نفسها، وبسبب الفروق الواضحة بين الفاتحين عامة وبين الموالي من الصقليين مما كان يسـبب قيام الثـورات والفتن ضد الحكام في الجزيرة، بل وضد الحكومة المركزية بأفريقية.

داء العصبية:

وكان من أخطر الظواهر الاجتماعية شعور العناصر العربية بأنها أسمى هذه الأجناس كلها حتى إخوانهم من البربر الذين شاركوهم الفتح، وأقاموا معهم بناء هذه الامارة الجديدة، وكان يقوى هذا الشعور عند العرب اعتماد الحكام والولاة عليهم في غالب الأحوال، ولعل الذي حمل الحكام والولاة على ذلك هو ما كانوا يرونه في البربر والموالي الصقليين من الطاعة الزائفة لالتماس مأرب، او تحين فرصة، وكانت تقوم بسبب ذلك الفتن والثورات في كل حين، ولـم ينس العرب ابدا ارستقراطيتهم وسموهم عن سائر الأجنـاس حتى كانـت النتيجة الحتمية اخيرا، وهي : « تقويض سلطان المسـلمين السياسي في الجزيرة على يد النورمان ».[2][3][4]

الحالة الاقتصادية:

وكما كان لصقلية مجتمعها الخاص، كذلك كان لها ظروفها الاقتصاديـة والمالية الخاصة، فان الحالة الاقتصادية والمالية في الجزيرة كانت داعية إلى التفاؤل لأول عهد الحكومة الإسلامية، فمع ان الحروب والفتن والثورات مـن شأنها عرقلة سير الحركة الاقتصادية، والتأثير في الحالة المالية، ألا أنها لم تكن لتضر بها ضررا يخشى منه قتل هذه الحركة، أو فشلها على الأقل في اثناء هذه الاضطرابات، بل بالعكس رأيناها تزداد نموا ونشاطا واتساعا في وسط هذا المعترك المشحون بحوادث الحرب والفتن، واستطاعت الحكومة الإسلامية الأولى أن توجه معظم جهود أهل الجزيرة إلى الانتـاج الـعـام في الزراعـة والصناعة والتجارة، حتى اذا استقرت الحياة السياسية في الجزيرة على عهد الكلبيين، راينا الحالة الاقتصادية والمالية قد استقرت تبعا لذلك، وأخـذت جهود كل الأجناس تتحد وتمتزج بعضها ببعض فتتشكل بعد ذلك في صورة خاصة عليها سمات الأجناس، وملامح الشرق والغرب، فعمد النـاس إلى الزراعة، والصناعة فأحيوها، وادخل العرب في الجزيرة أصنافا من النباتات وأنواعا من الأشجار جديدة فنقلوا اليها شجيرات القطن من الشام، وقصب السكر من طرابلس الغرب، وادخلوا فيها انواعا جديدة من اشجار الزيتون، ونبات البردي الذي لم ير ( ابن حوقل ) له مثيلا الا في مصر، وجلبوا اليهـا غير ذلك من النباتات المفيدة التي نقلت من اليمن ووادي الفرات، وشـمالي افريقية، كشجر الصنوبر، والفستق، واللوز، والبندق. (5)

وقد أصلح المسلمون في الجزيرة نظام الري بما كفل زيادة الانتاج الزراعي إلى حد كبير، فأقاموا المجاري، وعلموا الناس عمـل القنى ذات الأنابيب العقف (السيفونات) وكانت غير معروفة قبلهم، ورفعوا المياه من الآبار، بما أقاموه عليها من النواعير (السواقي)، ونهضوا بالزراعة والفلاحة نهضة مباركة، كان لها أثرها العظيم في زيادة الحاصلات وتعدد أنواعها، واقبال الناس على فلاحة الأرض لإخراج كنوزها. (6)

وقد عدنوا المناجم في الجزيرة، وفيها الذهب، والفضـة، والنحاس، والحديد، والزئبق، والرصاص، والكبريت، والملح، والكحل، والنوشادر، والشب، وزيت النفط.. واستعملوا انواع الرخام والصوان في المباني ( 7 ) واعتنوا بتربية الماشية من الخيول، والبغال، والحمير، والبقر، والغنم عناية فائقة، وكانت تعد منها مقادير عظيمة للتصدير إلى ايطاليا والأندلس، وكان المسلمون مهرة في حفظ الأسماك بالتمليح وغير ذلك من الوسائل، وكانت هذه الثروة الحيوانية مصدر رخاء، وعاملا كبيرا من عوامل تدعيم المركز المالي والاقتصادي في الجزيرة بجانب الصناعات الأخرى والزراعة والتجارة وقد كانت التجارة قبل العرب ضيقة النطاق، قليلة الأهمية في هذه الجزيرة، فأصبحت على عهدهم متشعبة النواحي، غزيرة المواد، تحملها سفنهم إلى ثغور أوربة في ايطاليا الجنوبية، والأندلس، وتوزع في داخلية البلاد، فيعجب اهل أوربة بها ويقبلون عليها ( 8 ).

وثب الأهلون بالزراعة والصناعة والتجارة وثبة كأنما نشطوا من عقال، فكثرت الأموال، وفاضت الخيرات إلى الحد الأقصى، وافتن الناس في ضروب الترف والنعيم، واتساع العيش، والتأنق فيه، والتلون بأزهى الوانه، فقد كان أمراء الكلبيين يعيشون في قصور فخمة، في مدينتهم الزاهرة (بلرم) التي كان بها مقر الوالي، وقاضي القضاة، وديوان الحسبة، ودار الصناعة وفي مينائها كان يربض اسطولها العظيم الذي طالما فتح به المسلمون الثغور الايطالية وغزو الجزر القريبة والبعيدة من صقلية. (9)

ولقد أعطانا صورة مشرقة ومشرفة عن مقدار عمارة الجزيرة، وسعـة رخائها. ورواج تجارتها ذلك الرحالة الشرقي (ابن حوقل) الذي زارها سنـة 362 هـ (۹۷۲ – 973 م) على عهـد الأمير: أبي القاسم بن الحسن الكلبي (359 – ۳۷۲ ھـ / 969 – 982 م) فقد وصف الجزيرة بقوله: «وأكثر أرضها مزرعة»، كما انه يشير كذلك إلى الحدائق الفناء، والأسواق العامرة المحيطة (ببلرم) العاصمة، ويصف نظام الري الدقيق بواسطة المياه المجلوبــة من الآبار... الخ. (10)

. ويعتبر وصف ابن حوقل للعاصمة ( بلرم ) لا اقدم وصف فحسب، بــل الوصف الوحيد الذي كتبه شاهد عيان من المسلمين، فيقول : « وهي ( بلرم ) قصبة صقلية على نحر البحر من الشمال، وهي خمس حارات محدودة غير متباينة ببعيد مسافة، وان كانت حدودها ظاهرة »، ويعدد هـذه الحارات : ويصفها، ويذكر ما فيها من مساجد كثيرة، واسواق، وما فيها من متاجـر وصناعات، ويدهش من كثرة المساجد في الجزيرة، وبخاصة في العاصمة ( بلرم ) ويقول : « لم أر مثل هذه العدة في بلد من البلدان الكبار على ضعـف مساحتها، ولا سمعت به الا ما يتذاكره أهل قرطبة »، ويذكر انه كان واقفا بجوار مسجد لأحد الفقهاء الأعيان في ( بلرم ) فرأی من مسجده في مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصره.

ثم أخذ يعدد رابطاتها على الساحل.. وذكر أخيرا أن في المدينة (بلرم) أكثر من ثلاثمائة معلم في مكاتبها لتعليم الناشئة، وكان يعتبرهم القوم أشد الناس تقى، وأقربهم إلى الله، وأعلاهم قدرا (11).

 لعل فيما قدمناه من مظاهر الحياة الاجتماعية، والحالة الاقتصادية والمالية واستبحار العمران في الجزيرة على عهد المسلمين ما يضع أمام القارئ صورة امارة عظيمة طموحة، وشعب قوى البنيان، كامل العدة، بارز الحيويـة ومجتمع منسجم يسوده الوئام والسلام الا في بعض الفترات القصيرة، كمـا تدلنا هذه الصورة أيضا على ان الحضارة في صقلية على عهد المسلمين كانت ازهي الحضارات الإسلامية المعاصرة لها، وأنها كانت المنار الذي يضيء الجانب الغربي من حوض البحر الأبيض المتوسط، وتتلألأ انواره على سواحل أوربة الجنوبية والغربية بجانب الأندلس الينبوع الذي اسـتقت منـه أوربة أصـول حضارتها الحديثة. اما الحديث عن: «الثقافة العربية في جزيرة صقلية» على عهد المسلمين فموعدنا به المقال القادم بأذن الله تعإلى

[5][6][7][8][9][10][11]