تاريخكم يا شباب الإسلام (2)مقالات

أحمد محمد جمال

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي – السنة الرابعة – العدد السابع والثلاثون – غرة محرم سنة 1388 ه – مارس سنة 1968 م. – (ص96 – 99).

 

أحمد محمد جمال

عضو مجلس الشورى ـ مكة

 

نواصل الحديث عن (سوابق) الفكر العربي والإسلامي في المجـالات المختلفة للحضارة الإنسانية. فنذكر نظرية «العقد الاجتماعي» للمفكر الفرنسي جان جاك روسو - التي يتحدث عنها كثير من الكتاب العرب، المفتونين بكل ما هو (أجنبي) او (غربي) على أنها نظرية حديثة وابتكار غربي - لقد كنت أقرأ بعض رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، التي يزود بهـا بعض عماله وولاته، ويرسم لهم فيها منهج الحكم وكيفية سياسة المحكومين فوقعت على كتابه الذي كتبه عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم حيث بعثـه واليا على اليمن، فاذا فاتحته تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم ـ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود..) ثم مضى الكتاب يفصل لعمرو بن حزم مسؤولياته كحاكم مسلم: من التقـوى، والأخذ بالحق، وامر الناس بالخير، وان يلين لهم في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، وينهاهم عن التعصب للعشيرة، وان يعلمهم امور دينهم من وضـوء وصلاة وجمعة وحج، وأن يفقههم في القرآن.. إلخ (۱).

وفي افتتاح الرسول عليه الصلاة والسلام كتابه عـن موضوع الحكـم ومسؤولية الحاكم بهذه الآية القرآنية: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقـود) إشارة تغني عن عبارة ـ إلى نظرية العقد الاجتماعي التي طلع بها جان جاك روسو خلال القرن الثامن عشر الميلادي، اي بعد نحو أثني عشر قرنا من نزول القرآن بهذه الآية، واستدلال الرسول بها في موضوع الحكم وواجبات الحاكم.[1]

 

كإشارة بليغة وجيزة إلى أن الحكم انما يقوم على اساس التعاقد والاتفاق بيـن الحاكم والأمة ـ وهو مضمون نظرية روسو عن العقد الاجتماعي.

ويؤيد رأينا في هذا السبق الإسلامي إلى نظرية العقد الاجتماعي – ما تواتر من أحاديث الرسول وآثار الصحابة وقواعد البيعة: من أن (السـمع والطاعة) من المحكوم للحاكم انما هما (في المعروف). وما يشترط الناس على الحاكم حين مبايعته: أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله.

 فبذلك يتضح أن (الحكم) في الإسلام عقد اجتماعي يتم بين الحكومـة والأمـة.. على أن تكـون طاعة الأمة رهنا بقيام الحكومـة على العدالـة والمعروف.

 

وفي مجال التشريع:

صدر قبل شهور معدودة كتاب للدكتور بیران وولف اسماه (أفضل سنوات المرأة) تحدث فيه عن الطلاق، واقتراح أن تبذل محاولة للشورى والتوجيه بين اهل الزوجين، قبل اقدام الرجل على توقيـع الطلاق، او قبل عزم المرأة على طلب الانفكاك من زوجها. ويرى الكاتب الغربي أن يكون الذي يتدخـل بين الزوجين المقبلين على الفراق خبيرا محنكا، أو صديقا للطرفين، او رجلا من رجال الدين، او محاميا، أو عالما نفسيا.. فاذا رئى بعد ذلك انه لا جدوى أو لا مصلحة في استمرار الحياة الزوجية بينهما. فان الطلاق عندئذ يكون هو الدواء الشافي والحل الوحيد.. ونحن المسلمين نجد تشريعنا الإسلامي قد سبق إلى هذا الراي الاصلاحي منذ اربعة عشر قرنا.. اذ شرع لنا هذا المنهج الاجتماعي في آيتين من سورة النساء في القرآن الكريم إحداهما تقول: «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حَكَماً من أهله وحَكَمَا من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليمـا خبيرا» والثانية تقول: «وإن يتفرقا يُغنِ الله كلاً من سعته وكان الله واسعا حكيما».

إن الدكتور بيران وولف يرى الرأي نفسه الذي نزل به القرآن الكريم ووجه به الناس إلى بذل محاولة مخلصة، في سبيل التوفيق بيـن الأزواج المتنازعين، قبل ايقاع الطلاق. وما يترتب عليه من تشريـد أطفال وترميـل نساء.

 

وفي مجال التخطيط العمراني:

تظن أجيالنا الناشئة أو الصاعدة ان ما يسمونه «تخطيط المدن» مـن مبتدعات العصر الحديث، وانه من ابتكارات الحضـارة الغربية العصرية ويعتذر لهم عن خطأ هذا الظن بعض الكتاب فيزعمون بأن تاريخنا الإسلامي لم يكتب بعـد حتى يقرأه الجيـل الصاعد، ويعلـم به ما جهل من سـوابقنا الحضارية..

إن تخطيط المدن.. الذي يعنى تنظيم العمارات والشـوارع والطرقات والميادين والحدائق العامة. والذي يظن بدعة غربية عصرية ـ قد عرفته عهود الصحابة رضي الله عنهم، كما يروى القـاضي أبو يعلى في كتابه (الأحكـام السلطانية) اذ يقول: لقد مصر الصحابة البصرة على عهد عمر بن الخطاب) رضى الله عنه، وجعلوها خططا لقبائل أهلها. وجملوا عرض الشارع الأعظم ستين ذراعا. وجعلوا عرض ما سواه عشرين ذراعا. وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع. وجعلوا وسط كل خطة رحبة فسيحة لربط خيلهم.

 وبتحويل الأذرع إلى أمتار نجد أن عرض الشارع العـام كان منذ ذلـك العهد السحيق نحوا من اربعين مترا، والشارع الفرعي خمسة عشر مترا: والزقاق خمسة أمتار أو أربعة أمتار. وذلك ما لم يتحقق في عصرنا الحاضر كثير من الشوارع والدروب والأزقة، في عدد من البلدان العربية المتطورة، بل وفي البلاد الأوروبية أيضا: ويلاحظ ان الرحبة الفسيحة، التي ذكرها أبو يعلى في تخطيط البصرة هي (الميدان) في تخطيطنا الحديث. وهو ما يخصص جزء منه موقفا للسيارات وما بقي مدارا لحركة المرور.

ويتحدث الأستاذ حيدر بامات في كتابه (دور المسلمين في بناء المدنية الغربية) عن الهندسة المعمارية الإسلامية، التي اقتبس الغربيون جمالهـا وجلالها ونفسها العربي، ويشير إلى مدينة الزهراء التي بناها عبد الرحمـن الناصر، في الأندلس، وإلى قصر الحمراء بها.

 ويقول: ان الفـن الإسلامي المقدس الذي يتجلى في المساجد، هو الذي يشهد بعظمة الماضي الإسلامي وجلاله في مضمار الهندسة المعمارية. ويؤكد في نفس الوقت تأثير العــرب الفني على الفن الايطالي نتيجة لإقامة العرب في صقلية. ويشير الأستاذ بامات إلى اقتباس الهندسة والزخرفة الإسلاميتين في كنائس بعض دول أوربا.

 

وفي الحضارة الإسلامية سوابق اقتصادية كثيرة…

فابن خلدون - مثلا سبق المدارس الاقتصادية الحديثة التي تدعو إلى حرية التداول التجاري، وعدم ايغال الدولة في التدخل والتسلط والتوجيه: وعدم الاسراف في فرض الضرائب.

 فهو يقول: ان واجب الدولة ان تتأكد من ان الضرائب لا تثمـر إذا هي فرضت فرضا تعسفيا، وان الضرائب المعتدلة أعظم حافز على العمل.

 ثم يتحدث ابن خلدون بإسهاب ـ عن المصادرة، والاحتكار، وعـن اشراف الدولة على شؤون التجارة.. حتى ينتهي إلى القول: بأن الدولة انمـا تقوم على الشعب وعلى روح الاقدام والمغامرة التي يتحلى بهـا، وعلى مدى انتاجه. ويؤكد: أن المبالغة في تدخل السلطات الحكومية تعيق التطور الطبيعي للاقتصاد والتجارة، وتسبب نقصا في الثروة وضعفا في الانتاج.. وهذا ما حدث ويحدث في تجارب بعض المذاهب الاقتصادية الجديدة.. اذ تنقص الثروة ويضعف الانتاج.

 

والطب العربي القديم:

وننتقل الآن إلى ميدان آخر، ميدان الطب العربي وسوابقه. حيث نجد الشباب العربي والإسلامي لا يكتفى بإهماله مطالعة صفحات التاريخ الإسلامي عن سـوابق المسلمين الطبية ـ بل يضيف إلى جهله بحضارة الإسلام انكارا لها واستهزاء بها ، ويخوض في حديث الطب العربي القديم ، فيقف منه ذلك الموقف الذميم حيث يصفه بالتخريف والشعوذة : ولقد كان « الطب » خلال القرون الأولى بعد الهجرة النبوية جـزءا لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية العامة وظهرت مؤلفات عربية طبية ، وقام الأطباء المسلمون بدور فعال في تقدم العلوم الطبية لدى الغرب ، اذ ظلت كتب الرازي ـ  وابن زهر ـ وابن سينا ـ وابي القيس اساسا للدراسات الطبية في المدارس الغربية خلال قرون عديدة . ومن أوسع المؤلفات الطبيـة العربية وأشهرها كتاب (الحاوي) وكتاب (المنصوري) للرازي، وكتـاب (القانون) في الطب لابن سينا، الذي نشر بالعربية في روما في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، واتخذ أساسا لتدريس الطب في جامعات فرنسـا وايطاليا خلال ستة قرون كاملة وقد تحدث الرازي في كتابه (الحاوي) عن الحميات الطفحية، كالجدري والحصبة. واستحدث الرازي في الصيدلية استعمال المسهلات الخفيفة، والحجامة في حالات الفالج، والمـاء البارد في حالات الحمى المستعصية واستعمال فتيلة الكي.

كما تحدث ابن سيناء في كتابه (القانون) عن علم وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، وعلم الأمراض، وعلم المواد الطبية. وألف ابن سينا ــ أيضا ـ كتاباً في علامات امراض القلب، ونظم قصائد في الطب وبلغت علاجاتـه الطبيـة (760) علاجا.. ويعترف العـالم الفيزيولوجي (هاللر) بأن أبا القاسم خلف بن عباس القرطبي كان أهم جـراح عربي، وكانت مؤلفاته مصـدرا ومرجعا لجميـع الجراحين الذين ظهروا بعد القرن الرابع عشر ويقول جوستاف لوبون: ان مدرسة سالون أول مدرسة في اورونـا، مدينة بكثير من شهرتها للطب العربي وقد سبق المسلمون إلى «الطب الوقائي» الذي كان معروفا يومـذاك بعلم الصحة، وهو علم يبحث في طرق الوقاية من الأمراض قبل حدوثها. كما سبقوا أيضا إلى تدريس الطب في المستشفيات نفسها، حيث يدرس الطـلاب المعارف الطبية بالقرب من اسرة المرضى. وهو ما يتبع الآن في تدريس الطب الحديث، حيث يقضى الطلاب بعد خروجهـم مـن الكليـة عامـا في بعض المستشفيات للتمرس بشـؤون الفحص، وطرق العـلاج إلى جانب الأطبـاء السابقين المتفوقين، وقريبا من المرضى الذين يعالجونهم.

. كما سبق الطب العربي الإسلامي إلى افراد كل نوع من المرضى بمصح خاص كالمجانين والمجاذيب. وكانت عندهم جمعيات للبر والاحسان تقـوم بعلاج المرضى الفقراء في أيام معينة من كل أسبوع. وارســـاليات طبية في الأماكن البعيدة لمداواة المرضى فيها، وتوزيع الأدوية عليهم وهذا ما يجرى عليه الطب الحديث، حيث تقوم المستشفيات الخاصة لكل صنف من المرض.. كمرض السـل، والجنون، والعيون الخ.. وكمـا نرى ونسمع الآن عن المستشفيات المتنقلة، أو السيارة. التي ترسل إلى القرى والمدن النائية لمعالجة مرضاها.

 


[1] (1) ألقى الكاتب محاضرة بعنوان (مهمة الحاكم المسلم) في أحد المواسم الثقافية بمكة المكرمة - تحدث فيها بإسهاب عن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم …وهي تحت الطبـع.

0 شخص قام بالإعجاب