المسلمون في اليابانمقالات

أ/محمد صلاح الدين الحسيني

المصدر:مجلة الوعي الإسلامي – السنة الثالثة – العدد السادس والثلاثون – غرة ذي الحجة سنة 1387 ه – فبراير سنة 1968 م. – (ص70 – 73).

 

أ/محمد صلاح الدين الحسيني

 

​​​​​​​مسجد طوكيو:

منذ ثلاثين عاما، عندما تم إنشاء مسجد طوكيو، لم يُعرف من اليابانيين سوی مسلم یاباني واحد، على أنه كان في اليابان مسلمون.. كانوا طائفة من مسلمي ترکستان الذين هاجروا من ديارهـم، فرارا بدينهـم من اضطهـاد الشيوعية، وتفرقوا في الأمصار، حيث حطت فئة منهم رحالها في عاصمـة اليابان.

 ومرت سنوات والجالية التركستانية الإسلامية تحاول أن تلتقط أنفاسها، وتترقب أن تصلح أحوالها، وأن تعود المياه إلى مجاريها، فيعود المشردون إلى بلادهم. ولكن تأخرت الآمال وهم يقيمون صلواتهم في منازلهم الصغيـرة، حتى استقر رأيهم على بناء مسجد لهم. فلما أخذوا يجمعون الأموال للمشروع، اتصل النبأ بمسامع مضيفيهم اليابانيين، وسرعان ما انهالت عليهم التبرعـات والمساعدات من أفراد وشركات ومؤسسـات حتى قام مسجـد طوكيو في أوائل عام ۱۹۳8 م زاهياً بهيا.

 

أول مسلم:

في ذلك الحين كان هناك من اليابانيين باحثون ودارسون للإسلام، فقد كانت الامبراطورية اليابانية في أوج عهدها الذهبي المليء بالطموح والآمـال، وخاصة بالنسبة لعلاقاتها مع الشرق الإسلامي. على أنه لم يعتنق الإسلام من اليابانيين وقتئذ سوى (عمر ياماوكا) الذي كان أول ياباني مسلم. وأول ياباني حج إلى بيت الله الحرام..

كان ياماوكا من أوائل الذين التحقوا بجامعة الدراسات الأجنبية اليابانية غداة افتتاحها، وأهلته دراسته للغة العربية، ولتاريخ الإسلام إلى مزيد مـن البحث والتفقه، مما ملأه إعجابا بهذا الدين، فاعتنقـه بإخلاص وحماس، وكرس حياته للتأليف والكتابة عن الإسلام والدعوة إليه، حتى وافاه الأجل منذ سنوات قليلة. وكان انفكاك اليابان من عزلتها في مطلع القرن العشرين. وانطلاقهـا إلى العالم المحيط بها ـ وخاصة في آسيا – فرصة لكثير من الشباب الياباني للاحتكاك بالإسلام، والاطلاع على طراز جديد من طرز الحياة لم يألفوه. فهذا الشاب الياباني (ميتا) خرج من جزيرته إلى الصين، منذ خمسين سنة، طلبا للرزق والتجارة، حتى حط رحاله في مقاطعة هونان الصينية، وكغريب فقير يبحث عن ملجأ، وجد الأبواب موصده أمامـه، حتى إذا مر أمام دار كبيـرة فخمة، مفتحة الأبواب، دخلها فوجد الترحيب والإكرام والعناية، فلما سـأل دار من هذه؟ قيل له هي المسجد وبيت الله مفتوح لكل قاصد. ومن هنا سمـع الشاب الياباني (مينا) اسم الإسلام لأول مرة، وكانت الصدفـة وحدها هي التي أتاحت له التعرف إلى مقاصد الإسلام وسماحته ومزاياه.

 

يترجم القرآن:

واليوم، في صومعة أثرية قديمة، من بقايا المعابد البوذية، قائمة في أطراف طوكيو، يقبع شيخ نحيل، طاعن في السن، على حصير، أمام منضدة عتيقة منخفضة، تكاد تكون هي كل ما في الصومعة.. وأمامه أكوام مـن الكتب والأوراق، لا يرفع رأسه عنها إلا إذا كررت ابنته عليه النداء، لينهض إلى طعام أو شراب، فلا يأخذ منه كسرة أو رشفـة، حتى ينتفض عائدا إلى منضدته، منهمكا في قراءته وكتابته.

 ولو أتيح للداخل إلى الصومعة أن يطلع على الكتاب الذي يعلو كل هذه الكتب والأوراق لأخذته الدهشة.. إنه القرآن الكريم. وهذا الرجل الطاعن هو الشاب (ميتا) المعروف اليوم باسم الحاج عمر ميتا الذي أنشأ الجمعيـة الإسلامية اليابانية، ورأسها فترة، حاملا لواء الدعوة إلى الإسلام بين مواطنيه اليابانيين، إلى أن اعتزل المنصب، حتى يتفرغ للعمل الذي يقوم به الآن، وهو ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، ذلك المشروع الذي بذل حياته من أجله، ويراه حلمه الذي يعيش له، والخيط الوحيد الذي يمسكه بالحياة.

وهو المشروع الذي تقف من ورائه رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة التي تبنَّت القصد النبيل منه.

 وترجمة معاني القرآن الكريم التي يضع الشيخ ميتا الآن لمساتها الأخيرة، يعتبرها الشيخ أجل خدمة يقدمها لأبناء وطنه، الذي يدرك هو أكثر من غيره حاجتهم إلى دين حي يملأ فراغهم الروحي، ويضيـف معنى للانهماك المادي وراء الكسب والمتعة في حياة الإنسان.

 والصومعة التي يعيش فيها الشيخ ويعمـل، هي مثال على تسامح اليابانيين وإعجابهم بالدين الإسلامي، بالإضافة إلى شخصيـة الشيـخ التي أكسبته كل احترام، ودفعت الراهب البوذي، متولي تلك الصومعة إلى وضعها تحت تصرف الشيخ المسلم، حتى يساعده على إتمام مشروعه الجليل في راحة وهدوء.

وزائر مسجد طوكيو يوم الجمعة يلاحظ تعدد جنسيات المصلين وأجناسهم وألوانهم. وإذا لم يكن في هذا الأمر غرابة على كل جماعة إسلامية، فـإن كثيرين لا يتمالكون من الدهشة عندما يتعرفون بعد الصلاة على كاهن بوذا وزوجته اعتنقا الإسلام وآمنا به أعمق الإيمان، عندما وجدا أنه هو الضالة التي كانا ينشدانها في محاولاتهما الروحية السابقة.

والطلائع اليابانية الأولى للإسلام تكاد تكون كلها من هذا الطراز. أمثلة على الطريقة التي تعرفوا بها على الإسلام. لم يحمله إليهم أحد، بل هم الذين بحثوا عنه، ووجدوه أو صادفوه في تجاربهـم، فوجـدوا فيـه ضالتهم المنشـودة ومسترقهم الروحي.

فهذا جندي من جنود الغزو الياباني في الصين، وذاك موظف في إدارة الاحتلال الياباني في أندونيسيا، وثالث دبلوماسي في مفوضية يابانية في بلد إسلامي... تعرفوا على الإسلام في مصادره المتعددة فأضاءت أنواره جوانب حياتهم، فحملوا المشعل عائدين به إلى بلادهم، يحاولون أن يضيئوا به قلوبا تبحث عن الهدى والاطمئنان وإذا كان المسلمون اليابانيون لم يبلغوا كثرة عددية ـ فهم لا يزيدون على بضع مئات ـ فإن منهم من ضرب المثل على صدق الإيمان والعزيمة الإسلامية.

فهذا الحاج الدكتور عبد الكريم سايتو، رئيس الجمعية الإسلامية اليابانية والأستاذ في احدى الجامعات، أرسل أكبر ولديه لدراسة الإسلام والعربية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ليعود معلما داعيا لأبناء وطنه، ولما أوشك الشاب المؤمن الصالح على التخرج، واقترب موعد العودة اختطفـه المنون في حادثة عجيبة من حوادث القضاء والقدر، أمام عيني والده الـذي أصيب هو نفسه في الحادث، ولكن كتب الله له النجاة. ورغم فجيعة الوالد في ولده لم يمنعه ذلك من الإصرار على إرسال ابنه الثاني الذي صار وحيده، لدراسة الإسلام في الجامعة نفسها من جديد.

واليوم، وبعد مرور ثلاثين سنة على إنشاء مسجد طوكيـو، يوشـك المسجد الأنيق الجميل أن يحني ظهره للزمن وتؤثر عليه الأمطار والأعاصيـر والزلازل، فتتصدع قبته العالية، وتسقط جوانب من مئذنته، وتتسرب ميـاه الأمطار إلى داخله وتنساب إلى سجاده، فتبادر سفارات إسلامية وعربية إلى إشعار حكوماتها بهذا الخطر، وتكون الكويت والمملكة العربيـة السعوديــة وأخوات لها أول المبادرين المنجدين بأموال وجهـود لتبقى معـاني التوادد والتراحم الإسلامي حية نابضة لتشعر كل ذي حس بأن الإسلام ما زال كما كان نابضا في القلوب وسيبقى أبـدا رسالـة التضامن والحياة، دين النهـوض والخلـود.

1 شخص قام بالإعجاب