البوذية والهندوكية (2)مقالات

أ. أحمد حسين

المصدر:مجلة الوعي الإسلامي – السنة الثالثة – العدد السادس والثلاثون – غرة ذي الحجة سنة 1387 ه – فبراير سنة 1968 م. – (ص36 – 42).

 

أ. أحمد حسين

 

نظام الطبقات:

يقول قانون مانو - الذي كتب في القرن الثالث - : والذي جدد شباب الديانـة الهندوكية خلق براهما البرهمي من فمه (وهؤلاء هم الكهنة).. والكاشتريا من ذراعه (وهؤلاء هم الملوك والفرسان)، والويشا من فخذه (وهؤلاء هم التجار والزراع)، والشودرا من رجله (وهؤلاء هم العمال وأصحاب المهن الحقيرة)، ولكل من هذه الطبقات منزلته على هذا النحو، ومن عدا ذلك من غير هـذه الطبقات الأربع البراهمة والكاشتريا والويشا والشــودرا، فهم ليسوا من خلق الله، بل هم من خلق شیطاني وهؤلاء هم المنبوذون أو الأنجاس. وهؤلاء المنبوذون لا ينتمون إلى الديانة الهندوكية ولا يعبدون آلهتها لأنه لا يجوز لهم ذلك*.

 ولا شك أن الأصل في هذا التقسيم هو محاولة الشعوب الآرية ان تحتفظ لنفسها بحق السيادة على شعوب الهند الأصلية المغلوبة. تم تشعب التقسيم وظل يتشعب إلى أن اخذ هذه الصورة المتحجرة كما رسمها قانون مانو، وجعل من أكبر الجرائم التي يمكن ان يرتكبها إنسان، هو ان يتطلع المنتمي إلى أي من الطبقات الأربع إلى الزواج ممن ليس من طبقته، فضلا عن أن يرنو من هو في طبقة أدنى إلى أن يصبح في طبقة أعلى.

 

طبقة الشودرا أي العمال:

‏فلا يجوز للشودرا على سبيل المثال - وهم طبقة العمال وأصحاب الحــرف الحقيرة وأدنى الطبقات - أن يجمع ثروات زائدة ولو كان على ذلك من القادرين لأن الشـودرا في هذه الحالة يؤذى البراهمة بقحته ويعاقب ابن الطبقة الدنيا الذي يحاول أو تحدثه نفسه بأن يساوى رجلا من طبقة اعلى، بأن ينفى من الأرض بعد ان يوسم تحت الورك. وإذا علا شخص من طبقة بيده أو بعصاه على من هو أعلى منه طبقة أو رفسه برجله تقطع يده أو رجله حسب الظروف، وإذا دعاه باسمه أو اسم طائفته بدون تقدير أدخل إلى فمه خنجر محمي مثلوث النصل طوله عشرة قراريط. اما إذا بلغ أحد من الوقاحة فأبدى رأيا للبراهمة في امر من امور وظائفهم، فان الملك يأمـر بصب الزيت الحار في فمـه واذنيه.*

 

طبقة البراهمة:

أما طبقة البراهمة وهم الذين يدرسون اشعار الفيدا ويعلمونها ويباركون تقديم القرابين التي لا تقدم للآلهة الا عن طريقهم. فهؤلاء عندما يولد الواحد منهم فانه:

 - يوضع في الصف الأول من صفوف الدنيا.

ويصبح كل ما في العالم ملك له، فله الحق في كل موجود.

ولن يدنس البرهمي بذنب حتى ولو قتل العوالم الثلاثة.

وعلى الملك ألا يقطع أمرا مهما كان دون استشارة البراهمة (1). هذا هو نظام الطبقات الذي عجزت الوف السنين عن أن تنال منه، وقد اندحرت البوذية في الهند بعد انتشارها لأنها حاولت ألا تعترف به (2). وقد قتل غاندي قدیس الهند وصاحب استقلالها في العصر الحديث لأنه بدوره حاول في حياته أن ينال من هذا النظام (2).

وسنرى ما الذي تستطيعه الدمقراطية الحديثة بكل محاولاتها في القضاء على نظام الطبقات.[1][2][3]

 

الكارما أو قانون الجزاء:

يأتي بعد ذلك في الدرجة الأولى في دنيا المعتقدات الهندوكية الكارما أو ما يمكن أن نسميه قانون الجزاء. وفحواه أن كل عمل لا بد أن يلقى جزاءه ان خيرا فخير، وان شرا فشر. ومن ناحية أخرى فلا بد لكل رغبة انسانية ان تتحقق، ولما كان المشاهد والملحوظ أن الإنسان قد يموت قبل أن يحقق رغباته، وقبل أن يلقى الجزاء الأوفى على ما قدمت يداه من خير أو من شر، ولذلك فان الروح الإنسانية بعد الوفاة، تتقمص جسدا جديدا، لتستوفي فيه تحقيق رغباتها من ناحية، ولكي تعذب او تكافأ على أعمالهـا السابقة، فإذا ظلت الرغبات الانسانية بغير تحقيق، وإذا أتى الانسان اعمالا خيرة أو شريرة فلا بد أن تلقى جزاءها. فاذا مات الإنسان، فلا مناص له من تجدد المولد وهكـذا، دواليك، وبذلك يقضى الكارما أو قانون الجزاء (1).

 

التناسخ أو تجدد الميلاد:

استلزم القول الكارما وقانون الجزاء على هذه الأرض، فكرة التناسخ أو التقمص أو تجدد الميلاد، فمن كان عمله صالحا انسانا أو حيوانا، تقمصـت روحه درجة أعلى من الانسانية أو الحيوانية ومن كان عمله شريرا تقصمت روحه صورة أدنى من صور الحياة. ولما كانت الروح في جسدها الجديد لا بد سترتكب أعمالا خيرة أو شريرة، فقد أصبح لا مناص من تجدد الميلاد لاستيفاء قانون الكارما.[4]

 

الانطلاق:

 وجد المفكرون الهنود أنفسهم في مشكلة الكارما وقـانـون الجزاء فان عملية التناسخ وتقمص أجساد جديدة، ستظل إلى مالا نهاية، وهو ما يجعل الوجود لعنة أبدية. وكان لا بد من سبيل لإيقاف عملية التناسخ، فقالوا انه ما دام تجدد المولد ينشأ عن عدم تحقق رغبات الانسان وميوله، ولإقدامه على الأعمال الخيرة أو الشريرة، فلو ان الانسان أوقف ميوله ورغباته وشهواته، وكف عن الاتيان بأي عمل صالح أو شرير، فلن تكون هناك حاجة لتكرار الميلاد من جديد، فيمتزج الانسان ببراهما كما تندمج قطرة الماء بالمحيط، وأطلق على هذه الحالة كلمة الانطلاق - حيث يتحرر الانسان من الاهواء، وتطمئن نفسه إلى نفسه ولا يعود يرغب في شيء أو يعود إلى حواسه وانما يتحد ببراهما ويصبح الفاني باقيا.

 

وحدة الوجود:

واتحاد الانسان ببراهما وتحول الفاني إلى باق يصل بنا إلى لباب العقيدة الهندوكية وهي وحدة الوجود، فليس هناك إله خالق وكون مخلوق، وإنما هناك وجود واحد هو كل ما تراه حولك فقد فاض كل شيء من ذات اللـه. فالعارف الذي يعبد الله يرى الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة، وأينما يتولى يرى الله، انه تعالى في كل شيء (1).

وقد سرى هذا التفكير الهندي في وحدة الوجود الذي هو ذروة ما وصل اليه الهنود من تصوف وفلسفة، إلى الفكر الإنساني، فهذه الفكرة تصادفنا عند بعض متصوفي الأديان المختلفة كما تصادفنا عند بعض الفلاسفة، وكما تصادفنا عند العلماء الماديين الذين يرون وحدة الوجود في المادة وكل ما فيه أجزاء منها.[5]

 

أصول البوذية:

هذا هو الجو والمناخ الذي نشأت في ظله البوذية، وهذه هي المعتقدات التي تلقاها جوتاما في صباه وشبابه، وسار على هداها ردحا من الزمان، فلنر الآن إلى أي حد تأثر بها في تعاليمه، وما الذي أخذ به منها، وما الذي طوره وحوره، وما الذي ثار عليه؟ فالي مقالنا التالي.

 


 * أحب أن يلاحظ القارئ أن كلمة ((شودرا)) في اللغة المستعملة في الهند تؤدي معنى المتروك أو المنبوذ وهو الاسم الذي أطلق على الطبقة المنبوذة التي هي الطبقة الرابعة الدنيا في مدرج الطبقات وقد تكونت هذه الطبقات نتيجة للأعمال التي كان يزاولها كل منهم على مر السنين والطبقة الرابعة هي التي توارثت الأعمال الحقيرة ولا تزال حتى الآن، وقد أراد »غاندي« أن يرفع عار هذا الاسم )الشودرا( عن هذه الطبقة فأطلق عليهم اسم »هریجان« أي عباد الله. هذا شيء والشيء الثاني أن هذه الطبقة الدنيا تنتمي للديانة الهندوكية أصلا لكنها لم تمكن من ممارسة طقوسها مع الطبقات العليا في المعابد كما لم تمكن من قراءة الكتب المقدسة ولا سماعها. فظلت منسوبة محسوبة على الهندوسية.. ولهذا وجدنا زعماءهم حين لم يستجب الزعماء الهندوسيون ولا الكهنة لمطالبهم ومنها مباشرة طقوسهم في المعابد. وجدنا زعماء المنبوذين ينذرون بخروجهم من الهندوسية واعتناقهم دينا آخر ونشط رجال الأديان الأخرى لجذبهم إليهم، وسافرت بعثة من الأزهر للهند لبحث هذا الامر سنة 1936 مما جعل غاندي ينشط في دعوته لإنصاف المنبوذين واعطائهم حقوقهم واباحة دخولهم المعابد خوفا من أن تفقد الهندوسية 60 مليونا في ذلك الوقت.. ولقد نجح غاندي بعض الشيء وسار من جاءوا بعده على خطته في انصاف هؤلاء وفتح المجالات أمامهم وكانت نتيجة ذلك بقاء ولائهم للهندوسية.


 

[1]انظر كتاب أديان الهند الكبرى - للدكتور احمد شلبي.

[2] قارن هذه الفكرة الخاطئة التي تقوم عليها الديانة الهندوكية، بعظمة التشريع الاسلامي في هذه الناحية، حيث يجمل بني البشر أجمعين قد خلقوا من ذكر وأنثى على سبيل المساواة، وان لا تفاضل بينهم الا بالعمل الصالح ((يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم))

[3] لعل من أكبر أسباب انحسار البوذية عن الهند أيضا أنها اقتصرت على مجرد تعاليم خلقية لأهميتها دون أن تتعرض لقضية الألوهية حتى قيل عن بوذا بسبب ذلك أنه لم يكن يؤمن باله والناس لا تعيش بدون فكرة عن الاله وبدون الذهاب للمعبد، ولهذا كان البوذيون لا ينخلعون من الهندوسية تماما بل يظلون مع محافظتهم على تعاليم بوذا متعلقين بالتهم.

وبهذا دخلت الهندوسية او ظلت في حياة البوذيين وشيئا فشيئا طفت الهندوسية بطقوسها على البوذية الاخلاقية وأزاحتها عن الهند.

اما مقتل غاندي فسببه المهم والمباشر بالإضافة إلى ما ذكره الكاتب الفاضل هو موقفه المعتدل أثناء حوادث التقسيم وما نزل بالمسلمين في دلهي ودفاعه عن المعذبين مما دفع بعض من جماعة هندوكية متعصبة إلى قتله ويمكن مراجعة ذلك بتوسع في كتاب ((كفاح المسلمين في تحرير الهند)) ص261 وما بعدها.

[4] تلتقي الهندوكية في قانون الجزاء مع الدين الاسلامي (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) ولكن حيث يجعل الاسلام الجزاء وتحقق الميول والمرغبات في عالم آخر له قوانينه الخاصة التي تختلف عن قوانين الطبيعة الأرضية، تجعل الهندوكية العقاب والثواب على الأرض، وتخترع من أجل ذلك فكرة التناسخ التي لا تحل المشكلة لأن الانسان في حياته الجديدة، تنشأ له ميول ورغبات، ويقوم بأعمال صالحة وأخرى طالحة، فيصبح لا مناص من تجدد المولد، وهكذا إلى ما لا نهاية.

[5] تدلنا المشاهدة وتجربة حياتنا اليومية على أن الأشياء تحدث حيث لم تكن من قبل، وأن كل حادث لا بد له من محدث، فدل ذلك على أن الكون من مجموعه لا يمكن الا أن يكون حادثا من خلق قوة أعلى منه وأسمى، مما فصلناه في حديثنا من قبل عن الألوهية، وسنعود اليه عند حديثنا عن الاعتقاد في الاسلام.