البوذية والهندوكية (1)مقالات

أ. أحمد حسين

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي – السنة الثالثة – العدد السادس والثلاثون – غرة ذي الحجة سنة 1387 ه – فبراير سنة 1968 م. – (ص36 – 42).

 

أ. أحمد حسين

 

البوذية والهندوكية:

استعرضنا بشيء من التفصيل النسبي اليهودية، والمسيحية، وقد حان الوقت لنختم هذا البحث في الأديان المقارنة بذكر بعض الأديان الأخرى التي توصف بالوثنية أو بالأحرى أنها ليست ديانات سماوية. ويوجد في العالم اليوم 350 مليونا يدينون بالكونفشيوسية (دين الصين) وهنــاك (395) مليونا يدينون بالهندوكية (دين الهند) وهنــاك 67 مليونا يدينون بالشنتوية (دين اليـابان) ومئات الملايين ممن يدينون بشتى المعتقدات، أو لا يدينون بشيء. على أن كل هذه الأديان التي ذكرناها، على الرغم من كثرة عدد معتنقيها، فهي لا تخرج عن أن تكون ديانات محلية تتصل بتقاليد وتاريخ كل مجتمع، وتكاد تكون خصوصية لهذا المجتمع تعكس طبيعته ومزاج سكانه وأساطيرهم وتاريخهم، ولذلك فان هذه الديانات غيـر صالحة بطبيعتها لمن لا ينتمي لهذا المجتمع الخاص. فهي أديان كما يقولون غير معدة للتصدير.

 وإذا كانت البوذية قد فقدت سلطانها في الهند موطنهـا الأصلي، فهي لا تزال الدين الرسمي لسيلان وبورما وتايلاند وفيتنام كما هو مشهور ومعروف، وهي الديانة السائدة في اليابان إلى جوار الشنتوية، وهي في الصين تقوم إلى جوار الكونفشيوسية وهي في اندونيسيا وفي الفلبين، بل ولها معتنقون في أمريكا الشمالية والجنوبية، وان كانوا يعدون بمئات الألوف. ولقد جاء في آخر الاحصاءات الأمريكية التي نقلنا منها الأرقام السابقة، ان عدد البوذيين في العالم يقدر ب 161 مليون نسمة، وهو رقم متواضع جدا لا يمكن أن يدل على الحقيقة، ولا بد أنه أخرج معتنقي هـذه الديانة في الصين من حسابه. فللبوذية طابع عالمي وهذه مسألة مقررة، ومن هنا فلا مناص للباحث في الأديان المقارنة أن يعرض لها بالدرس والتحليل ولكن يحسن بنا قبل أن نخوض هذا البحث أن نستعرض الديانة الهندوكية أو الهندوسية باعتبارها البذرة التي انبثقت منها التعاليم البوذية، والأساس الذي شـاد عليه بوذا تعاليمه.

 

الديانة الهندوكية:

لا يطمع القارئ في أن يكون بقدرتنا أو قدرة غيرنا أن يعطيه صورة واضحة محددة عن الديانة الهندوكية كما فعلنا على سبيل المثال بالديانة اليهودية أو المسيحية، وكما سنفعل بالنسبة للتعاليم البوذية، ذلك أن الديانة الهندوكية ليست من تعاليم شخص، وليس لهـــا كتاب واحد أو أكثر من واحد يحـدد جوهرها. وكل الذين كتبوا عن الديانة الهندية، ينتهون إلى أن الديانة الهندوكية هي حياة الهند نفسها، هذه القارة المغلقة التي عزلت عن الدنيا في القديم بالجبال الشامخة التي تفصلها عن بقية آسيا في الشمال، والأعاصير في البحار التي تحيط بها، بكل ما في هذه القارة من متناقضات، فحيث يغمر الفيضان بعض، الأراضي حتى ليميت سكانها غرقا، فان الأراضي تجف حتى ليموت سكانهـا جوعا وظمأ.

وحيث الثلوج تغطى جبال الهملايا طول العام، والحر يزهق الأنفاس في ساحل المبار، وحيث الجنس الآري قد خلف آثاره في الهند وخاصة في الشمال، بالقامات الطويلة والأجساد الفارعة واللون الأبيض، بينما هناك قصار القامة وسمر الوجوه، بل هناك سود الوجوه في الجنوب.

وحيث تقدس البقرة وتعبد، كما يعبد عشرات ومئات من تماثيل الآلهة وصورها التي تمثل عناصر الطبيعة، وتقام لها الاحتفالات المغرقة في الوثنية، فهناك التوحيد، بل أروع صور التوحيد للإله الخالق، وأرفع ما وصل اليه العقل الانساني من فكر وفلسفة وحكمة.

 فلا عجب وهذا شأن القارة الهندية، أن يكون فيها مائتا لغة و300 لهجة، ذلك فثمة جامع يسود هذا الخليط وهذه التناقضات، قد جعل من الهند هندا، وذلك هو الهندوكية التي ليست شيئا سوى الحياة الهندية بكل تعقيداتها وكل تقاليدها ورواسبها وتاريخها وأساطيرها.

 

كتب الهند المقدسة:

وإذا لم يكن للديانة الهندوكية كتاب، فإن لها عديدا من الكتب التي تعتبر كلها مقدسة، وقد جرى الباحثون على تقسيم هذه الكتب إلى ثلاثة أقسام كل منها يمثل مرحلة من مراحل التاريخ الهندي وأقدم هذه الكتب هو مجموعة الويدا ( فيداس ) المكتوبة باللغة السنسكريتية والتي تمثل المعتقدات الآرية في طورها الأول، وأشهر هذه المجموعة كتاب ( ريج فيدا ) ويضم حشدا من الترانيم التي توجه إلى آلهة الطبيعة المديدة وعلى رأسها ( اندر ) الـه الرعد ( وقارونا ) الـه السماء ( واجنى ) الـه النـار ( وأودرا ) إله العواصف إلخ وتتضمن كتب الفيدا الأخرى الرقى والتعاويذ، وأنواع القرابين وكيفية تقديمها وضروب السحر الخ. وكتب الفيدا عند الهنود كتب الهية كتبتها الآلهة وهي من صنعها.

 

كتب الملاحم:

وثمة كتابان آخران يتسرب الشك إلى أصلهما ومع ذلك فلهما أكبر الأثر في حياة الهنود التعبدية، والكتابان من نوع الملاحم الشعريـة ويدعى أول الكتابين «رامايانا» أو مغامرات «راما». والأمير «راما» ليس الا التجسد السابع للإله «فشنو» الذي جاء ينقذ العالم من الشرور، وتبلغ مقطوعات هذه اللحمة أربعة وعشرين ألف مقطوعة.

 أما الملحمة الثانية وهي الأكبر فتحتوي على (110،000) رباعية وهي المعروفة باسم «مهاب هارتا» وتقص هذه الملحمة وقائع تجسد آخر للإله فشنو الذي جاء هذه المرة بصفة (كرشنا) الذي نشأ راعيا للبقر أسهم في عدد عديد من الوقائع، والمآثر البطولية، قبل أن يقتل خطأ من قبل صياد ليعود إلى بحر اللبن مثواه السماوي.

مرحلة الكتب البرهمية:

وحوالي القرن التاسع قبل الميلاد دخلت الهندوكية مرحلة جديدة حيث تصدى فيها الكهان من البراهمة إلى التعليق على كتب الفيدا بالشرح والتبسيط ومن ثم التوجه التدريجي من عبادة الطبيعة إلى معرفة الله، والانتهاء إلى جمع الآلهة في إله واحد (براهما) فهو الذي أخرج العالم من ذاتــه، وهو الذي يحفظه باعتباره ۱ فشنو) وهو الذي يهلكه باعتباره (شيفا).

وهكذا انتهى الهنود إلى نوع من التثليث لحقيقة واحده وهي براهما من حيث الخلق وفشنو من حيث الحفظ، وشيفا من حيث الافناء، سابقين بذلك التثليث المسيحي. وليس يعنى هذا التلخيص والتحديد للألوهية الهندية، ان كان لذلك أثر في التقليل من عدد الآلهة الأخرى، حيث ظل كل قوم وكل جماعة وكل أهل مدينة يتعبدون لألهتهم ويقيمون الاحتفالات لها.

 

كتب الاوبانيشاد:

ثم جاءت مرحلة ثالثة في أطوار الديانة الهندوكية، حيث ظهرت مجموعة جديدة من الكتب أطلق عليها اسم (اوبانیشاد) ومعناها الحرفي التلمذة على يد أستاذ، أو كما يطلق الصوفية كلمة المريد لمن يتلقى عن الشيخ، وقد تألفت مادة هذه الكتب في بادئ الأمر شفويا بمعرفة الكهان، ثم اعتبرت مادتهـا مقدسة لا يجوز ترديدها بحضور الطبقات الدنيا، ثم كتبت بعـد ذلك، وهي تأملات غامضة ذات طابع صوفي أحيانا، وطابع مغرق في الفلسفة أحيانا أخرى. وتعتبر الاوبانيشاد، أساس الفلسفة العصرية الهندوكية.

 

خصائص عامة للديانة الهندوكية:

لعل هذه الإشارة إلى الكتب المختلفة والمراحل المتعددة التي تطورت فيها، قد بينت لك لماذا كان من الصعب تحديد الديانة الهندوكية، ومع ذلك فان من يلقي نظرة على حياة الهنود ومعتقداتهم على اختلاف هوياتهم، سيصادفه مظهر اجتماعي ينبثق من عقيدة دينية، وذلك هو نظام الطبقات.

كما ستصادفه مجموعة من العقائد الأساسية التي هي محل تسليم الجميع، وي الكارما أو قانون الجزاء، والتناسخ أو تجدد الميلاد، والانطلاق، وقبل ذلك وبعد ذلك وحدة الوجود فنحاول ان نقول كلمة سريعة عن كل من هـذه المعتقدات.