حضارة الإسلام في داغستان (1)مقالات


• منذ أن فتح المسلمون "داغستان" عام 22هـ، ازدهرت بها حضارة إسلامية، كانت حاضرتها الكبرى "دربند" أو "باب الأبواب" هي مركزها.

• كان لسياسة المسلمين المتسامحة مع السكان النصارى في داغستان دورها في انتشار الإسلام بين السكان سريعًا، إلى جانب وقوف الأسر النصرانية الأرمينية والكرجية في صف المسلمين ضد الإمبراطورية البيزنطية.

• أسَّسَ المسلمون عدة حواضر إسلامية في "داغستان" كان لها أبلغ الأثر في إرساء المدِّ الإسلامي بمنطقة القفقاس؛ من أهمها: "دربند" و"محج قلعة" و"قزوين" و"خنزاخ".

• صارت "دربند" أو "باب الأبواب" مركزًا عسكريًّا وإداريًّا للخلافة العربية في "داغستان" بعد فتحها.

• دُفِن بـ"دربند" رُفات 40 صحابيًّا ممن استُشهِدوا على أرضها، وأخرجت المدينة كثيرًا من العلماء والمحدِّثين الذين كانوا ينتسبون إلى مدينة "الباب"، فلُقِّبوا بـ"البابي".

• يُعَدُّ مسجد الجمعة الكبير في العاصمة "محج قلعة" ثاني أكبر مسجد في أوروبا، والذي بُني على طراز المسجد الأزرق في إسطنبول.

• كانت اللغة العربية هي لغة التواصل الرسمي بين سكان "داغستان" إلى جانب اللغات المحلية العديدة، وكان الداغستانيون يصدرون صحفهم ومراسلاتهم باللغة العربية قبل الغزو الروسي.

• تتجذَّر الصوفية في توجُّه الإدارات الدينية الرسمية والشعبية في "داغستان"، إلى جانب تعدُّد أعراق الشعب الداغستاني، وبالرغم من ذلك تشهد "داغستان" نهضة كبيرة في الأحوال العلمية الدينية في السنوات الأخيرة.

 

عهد إسلامي زاهر:

منذ أن فتح المسلمون "داغستان" عام 22 هـ، ازدهرت بها حضارة إسلامية، كانت حاضرتها الكبرى "دربند" أو "باب الأبواب" هي مركزها، وقد ارتضى سكان "داغستان" بالحكم الإسلامي ووقفوا - في كثير من الأحيان - في صَفِّه ضد الإمبراطورية البيزنطية الظالمة التي كانت تُذِيق أهل تلك البلاد صنوفَ العذاب والاضطهاد.

وقد كانت سياسة المسلمين المتسامحة المتساهلة مع السُّكَّان النصارى هي الباعث لوقوف الأُسَر النصرانية الأرمينية والكرجية مثل الأسرة البكراطية في صفِّ المسلمين ضد الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الأرثوذكسية[1].

وقد أسس المسلمون عدة حواضر إسلامية في "داغستان" كان لها أبلغ الأثر في إرساء المَدِّ الإسلامي بمنطقة القفقاس؛ من أهمها: "دربند" و"محج قلعة" و"قزوين" و"خنزاخ".

دربند أو باب الأبواب:

يعتقد أن مدينة "دربند" هي واحدة من أقدم مدن العالم؛ حيث يعود تاريخ المدينة إلى الألف الرابع قبل الميلاد؛ أي: إن عمرها يزيد عن 5000 سنة، أُسِّسَت المدينة بشكلها الحالي عام 438 م في عهد السلالة الساسانية؛ حيث حوَّلها "الشاه كوادا" وابنه "كسرى الأول" إلى قلعة حجرية تغلق الممرَّ بين البحر والسلسلة الجبلية بجدار طوله 40 كم، وشيدا حصن "نارين" وتم إنشاء المرفأ.

وقد أطلق عليها المسلمون اسم "الباب"، وقيل "باب الأبواب"، أما اليونانيون أطلقوا عليها اسم "الممر الألباني"، والروم أطلقوا عليها "بوابة الخزر"؛ حيث شُيِّدت المدينة في الممر الفاصل بين البحر وسلسلة جبال القوقاز؛ لذلك حاولت كافة الدول التي حكمت في المنطقة السيطرة على هذه المدينة الممرِّ الرئيسي الشرقي إلى "قفقاسيا" (القوقاز)، وصارت "دربند" مركزًا عسكريًّا وإداريًّا للخلافة العربية في "داغستان" بعد فتحها.

ويُقال: إن بـ"دربند" قبور الصحابة الذين ساهموا في فتحها، وماتوا على ثَراها، وتوجد بها مقبرة لرُفات 40 صحابيًّا، وعلى رأسهم "حبيب بن مسلمة الفهري" الذي لقَّبَه المؤرِّخون بلقب "حبيب الروم"؛ لكثرة دخوله إليهم، ونيله منهم، وكذلك بها قبر فاتح "دربند" "سراقة بن عمرو"، وكذلك يوجد بها قبر الصحابيينِ الجليلينِ؛ "الربيع بن مسلمة"، وأخيه "عبد الرحمن بن مسلمة" رضي الله عنهما.

ويفيد المستشرق "د. م. دنلوب" بأن الأبحاث الحديثة قد ألقت الضوء على وجود أسرة حاكمة في "باب الأبواب" هي أسرة الهاشميين، وكانت لها روابط وثيقة مع أسرة "شاهان قروان" في مستهل القرن الرابع الهجري، ومما يوجد حاليًّا من آثارهم "قلعة قريش"، وبها مسجد يعتبر نموذجًا رائعًا لفن الزخرفة الإسلامية في القرن السادس الهجري[2].

واشتهرت الداغستان بصناعة الزجاج والسجاد وخاصة في مدينة "دربند"، کما توجد بها أحواض لإصلاح السفن ومعامل لتعبئة السمك.

وشجَّع المسلمون الزراعات المختلفة بها؛ كزراعة القمح والذرة والخَضْراوات، كما يشكل النفط والغاز الطبيعي في الوقت الحالي أهم ثرواتها، ويُستخرَج النفط من شواطئها على بحر الخزر (قزوين) على بُعْد 10 كم من الشاطئ.

وقد ذكر المدينة المؤرخ "ياقوت الحموي" في "معجم البلدان"، وذكر أنها أحد الثغور الجليلة العظيمة، ينتسب إليها كثيرٌ من العلماء والمحدِّثين؛ منهم: "زهير بن نعيم البابي"، و"إبراهيم بن جعفر البابي"، و"الحسن بن إبراهيم البابي": روى عنه "عيسى بن محمد بن محمد البغدادي"، و"هلال بن العلاء البابي": روى عنه أبو نعيم الحافظ، و"محمد بن هشام بن الوليد بن عبد الحميد أبو الحسن المعروف بـ"ابن أبي عمران البابي": روى عن أبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشجّ الكندي، وروى عنه مسعر بن عليّ البرذعي، و"حبيب بن فهد بن عبد العزيز أبو الحسن البابي": حدَّث عن محمد بن دوستي، عن سليمان الأصبهاني، عن بختويه، عن عاصم بن إسماعيل، عن عاصم الأحول، وحدَّث عنه أبو بكر الإسماعيلي، و"محمد بن أبي عمران البابي الثقفي": روى عن إبراهيم بن مسلم الخوارزمي[3].

محج قلعة:

مَحَجْ قلعة أو مَخَاجْ قلعة، عاصمة جمهورية داغستان، وهي ثالث أكبر مدينة في شمال القوقاز، قيل: إنها أُنشِئت في عام 1844م على أساس قلعة عسكرية روسية "بيتروفسكويه"، وسبب تسميتها بـ "بيتروفسك" هو أنه خلال الحملة الفارسية عام 1722 م كان في هذا المكان معسكر لقوات البطرس الأكبر، وقد تم تغيير اسمها إلى "شامل قلعة" بقرار من حاكم داغستان آنذاك "نوح بيك التاركوفسكي" وذلك للحفاظ على اسم "الإمام شامل" في ذاكرة الداغستانيين.

وتقع "محج قلعة" بالقرب من سفوح جبال "القوقاز الكبرى" على شريط ضيق من السهول المنخفضة من الساحل الغربي لبحر قزوين بين جبل "تاركي- تاو" والبحر، الذي كان في الماضي يُسمَّى بـ "ممر داغستان"، وهي ميناء هام على بحر قزوين[4].

وتم إنشاء مسجد الجمعة الكبير بالمدينة؛ حيث كان بها أكبر نسبة من المسلمين بين مدن "داغستان"، ويُعَدُّ هذا المسجد ثاني أكبر مسجد في أوروبا، والذي بُني على طراز المسجد الأزرق في إسطنبول.

وبالمدينة أكبر نشاط إسلامي بين مسلمي "داغستان"، وكذلك يتمركز بها عددٌ من الجمعيات الإسلامية، والمراكز الخيرية الدعوية.

مدينة خنزاخ:

وهي موطن قومية "الأوار"، الذين يأتون في مقدمة القوميات ذات التأثير في "داغستان"؛ فالأوار هم أكبر القوميات تعدادًا؛ إذ يُشكِّلون وحدهم ربع الشعب الداغستاني تقريبًا، ويقطنون مساحة كبيرة من الجمهورية، وكانت مدينة "خنزاخ" الأوارية عاصمة للعلم والعلماء في "داغستان" قديمًا.

وكثير من العلماء وأئمة المساجد من الأوار من تلك المدينة، كما أنها كانت مستقرَّ كثيرٍ من الأئمة المجاهدين للاحتلال الروسي أيام روسيا القيصرية، كما أن التأثير الديني لقومية الأوار بالمدينة كان كبيرًا، فقد كانت الإدارة الدينية الأكبر بالبلاد كلها للأوار، ورئيسها يمثل مفتي "داغستان"، وتعود لهم إدارة أغلب المدارس والمعاهد الإسلامية[5].

وتقع هذه المدينة في جبال شمال القوقاز على ارتفاع 1600 متر فوق مستوى سطح البحر، وكانت تعتبر القلب الثقافي لمنطقة "أفار" القوقازية.

 

[1] المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، د. محمد علي البار، دار الشروق للنشر والتوزيع، 1983م، صـ145.

[2] بلاد الداغستان، محمد بن ناصر العبودي، مطابع الفرزدق التجارية- الرياض، 1413 هـ، صـ16.

[3] معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر- بيروت، 1995 م، (1/ 306).

[4] مستقبل الإسلام في القوقاز وبلاد ما وراء النهر، مصطفى محمد الطحان، المركز العالمي للكتاب الإسلامي، 1995 م، صـ163.

[5] المصدر السابق، صـ177.

0 شخص قام بالإعجاب