المصدر: آفاق الثقافة والتراث: السنة الخامسة، العدد الثامن عشر، ربيع الثاني 1418 هـ = أغسطس (آب) 1997 م.
القدوة الطيبة هي أفضل السبل فعالية في مختلف مجالات الحياة ولا سيما في مجال الدعوة إلى الله، وإذا افتقر الداعية إلى هذه الصفة في أقواله وأفعاله فإن التضارب والتناقض بين ما يقول ويفعل سوف يفقده المصداقية والقدرة على بلوغ الهدف وتحقيق التأثير المرجو على جمهور المتلقين عنه سماعا أو قراءة أو مشاهدة ويأتي ذلك مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى في سورة الصف ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[1]. وفي الحقيقة أنه إذا التزم هؤلاء الذين يتصدون لقيادة الجماهير وتوجيههم في مجالات الحياة ولا سيما في مجال الدعوة في سلوكهم بما يقولون ويدعون إليه، فإنهم سوف يحققون الكثير ويختصرون الطريق ويوفرون على أنفسهم جهودا ًكبيرة يمكن أن تضيع إذا فقدوا هذه السمة التي يجب أن تميزهم عن سواهم. والدعاة إلى الله يمثلون دين الله ومن ثم فإن عدم التوافق والانسجام بين ما يقولون وبين ما يفعلون يعني الكذب والنفاق. وفي ذلك يقول عز وجل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[2].
وفي هذا يؤكد المستشرق الإنجليزي الشهير هاملتون جيب Hamilton Gib أنه ليس من قبيل المبالغة أن قوة تأثير الرسول صلوات الله وسلامه عليه على مواقف المسلمين والتي تلقى كل تبجيل هي عبارة عن شعور تلقائي وطبيعي لا يمكن تحاشيه، سواء أكان ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو من بعده.. لقد كان ذلك أكثر من مجرد إعجاب. ويكفي أن نذكر أن علاقة الحب والإعجاب التي غرسها الرسول في قلوب أصحابه قد انبعث أثرها ومداها عبر القرون ويتم إثارتها في قلب كل جيل[3].
وقد نهج أصحابه المخلصون رضوان الله عليهم نهجه فكانوا قدوة حسنة نجم عنها توسيع نطاق المعتنقين للإسلام إيماناً منهم بصدق نوايا هؤلاء الأصحاب المخلصين ونقاء سريرتهم وبرجاحة عقولهم، وهكذا نجح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ممارسة هذا الأسلوب الدعوي الناجح، فقام الإسلام على رقة أبي بكر وحزم عمر وبذل عثمان وعلى فدائية علي بن أبي طالب، فقد كان كل واحدٍ من هؤلاء الأربعة أمةً في مجال القدوة الحسنة التي اقتدى بها الصحابة كما اقتدى بها المؤمنونَ الأوائل بعد ذلك منذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا[4].
وهنا يصبح على كل من يضطلعون بمسؤولية الدعوة إلى الله أو الإعلام عن الإسلام وكذلك من يتحملون مسؤولية قيادة الجماهير في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي.. إلخ أن يدركوا هذه الحقيقة لأن عدم انسجام القول مع العمل ينذر بردود فعل عكسية وبآثار سلبية وسلوكيات جماهيرية معاكسة، ذلك أن القدوة الحسنة في حد ذاتها تعتبر واحدة من أهم وسائل الدعوة وأبرز الأمثلة على ذلك أن انتشار الإسلام في الشرق الآسيوي بهذه القوة وهذا الاندفاع والانتشار الواسع في جزر الفلبين شرقا حتى الشاطئ الهندي غربا لم يتحقق إلا من خلال التجار ورجال الأعمال المسلمين الذين سبقت أفعالهم أقوالهم وكانوا نماذج متميزة عكست أخلاقيات هذا الدين في الصدق والأمانة والتسامح والقناعة والتقوى، وهذا يدحض كل الادعاءات التي يروجها المغرضون من أن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف وبجهود خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وغيرهم من القادة المسلمين، في حين أن هؤلاء القادة لم يحملوا السلاحَ لإكراه الناس على اعتناقه ولكنهم حملوه للدفاعِ عن هذا الدين وحمايته من الأعداء الذين تربصوا به وبدأوا يشنون الحملات ضد الدولة الإسلامية الوليدة.
وتقوم القدوة الحسنة على غريزة التقليد والمحاكاة وهما من أقوى الغرائز البشرية وهي الغريزة التي تلعب دورا هاما وتغني عن بذل الجهود الدعوية التي تعتمد على فصاحة اللسان وقوة البيان وفن القول ذلك أنها ترسخ المضمون أو الفكرة المستهدفة أو السلوك المطلوب في عقول الجماهير ونفوسهم من خلال صياغة هذه الفكرة أو السلوك في أعمال وأقوال وأنشطة، بصورة عملية واضحة وليس بشكل نظري مجرد[5].
وقد كان الداعي الأول لهذا الدين الخاتم محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه مضرب الأمثال في هذا الصدد وكان به من الصفات النبيلة ما تفيض به كتب السيرة ولسنا في مجال تعدُّد صفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت سببا مباشرا في دخول الكثيرين دين الإسلام، وهو الذي اشتهر بين قومه قبل نزول الوحي بأنه «الصادق الأمين» وهما صفتان يجب توافرهما في الداعية المسلم والسياسي المسلم والمعلم المسلم والقائد المسلم... إلخ.
حتى يكون كل منهم موضع ثقة جماهيره واحترامهم له، ألم يتحمل محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه من سفاهة قومه وسخريتهم ومطاردتهم له الكثير فبالصبر استطاع متمثلا لقول الحق عز وجل في سورة المزمل: ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾[6].
ثم أتبع صبره بالرحمة والعطف والدعاء لهم فلم يكن قاسي الفؤاد فظا غليظ القلب، ويكفي ما وصفه به ربه سبحانه وتعالى في سورة القلم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[7] ومن هنا فإن الداعية المسلم لابد أن يفهم دوره فهما جيدا وأن يعرف طبيعة الوسيلة التي يستخدمها في نقل فكرته للجمهور، ويدرس الاهتمامات المتغيرة للناس، والمستويات المختلفة للجماعات التي تشكل جمهور المستقبلين لرسالته بوجه عام مع مراعاة القدرات المختلفة لهذه الجماهير وعلى من يتصدون للدعوة والإعلام عن الإسلام أن يعرفوا ما وراء الألفاظ وأسرار الرموز التي تحمل مختلف المعاني حتى يتمكنوا من توجيه هذه الرموز وتوظيفها التوظيف الأمثل لتحقيق الأغراض المستهدفة ومواجهة آثارها المحتملة لأن هذه الرموز لا تستخدم فقط للشرح والتحليل بل قد تستخدم للخداع والإثارة والنميمة والتضليل وإثارة الغرائز وإحداث الصراع والحض على القتال كما أنها قد لا تستخدم في خلق روح التعاون والمحبة والسلام كما هو الحال في الألفاظ التي حملت رسالات السماء.
ومن هنا يصبح على دعاة الإسلام الالتزام الكامل بالمنهج الإسلامي فكرا وقولا وسلوكا. ذلك أن أخلاق الداعية تأتي في مقدمة العوامل اللازمة لنجاح خطط الدعوة، فلابد أن يكون الداعية صادقا في رغبته. مستغفرا لمن لا يستجيب له متخلقا بأخلاق الرسول في هذا الصدد حين قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، وأن يكون قلبه مفعما بالحب وتمني الخير والهداية للجميع، وألا يسيء الظن بأحدٍ ظلما وشكا، وأن يتجنب الإثارة والإهاجة، وأن يعالج قضاياهُ في هدوءٍ واتزان وروية، وألا يدعو إلى القنوط ويبتعدَ عن العنفِ والمشقةِ امتثالا لقول الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾[8].
[1] سورة الصف 2.
[2] سورة البقرة 44.
[3] Gib. Hamilton: studies on the civilization of islam. London: R. Poulk Routled and Kegan Limited, 1962, p 10
[4] حمزة، عبد اللطيف، الإعلام في صدر الإسلام (القاهرة: دار الفكر العربي 1971) ص 72.
[5] عبد الحليم، محيي الدين، الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العملية (القاهرة: مكتبة الخانجي. 1974) ص 168.
[6] سورة المزمل: 10.
[7] سورة القلم: 4.
[8] سورة آل عمران: 159.
المصدر: آفاق الثقافة والتراث: السنة الخامسة، العدد الثامن عشر، ربيع الثاني 1418 هـ = أغسطس (آب) 1997 م.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.