المسلمون في أستراليا (2)مقالات

علي الحديدي

المصدر: مجلة المجلة: العدد: 113، 1 مايو 1966 م

 

وتاريخ الحملات الاستكشافية الأسترالية، ومذکرات رؤسائها من الأوربيين مليئة بشخصيات على شاكلة بیجاه من الجمّالين المسلمين الذين قاموا بأدوار بطولية في هذا المجال.

ومن هؤلاء الرواد الأول محمد علوم، وقد جمع ثروة كبيرة من العمل في قوافل الجمال والتجارة أنفق الكثير منها على المسلمين، كان يتعهد القادم منهم من آسيا وينفق عليه حتى يجد له عملا يتعيش منه، وامتدت يده بالخير إلى المسلمين في إنجلترا فأنفق على المجلة الإسلامية التي تصدر في مدينة «دوکنج»، وعمل على إعادة طبعها في أستراليا ليقرأها المسلمون هناك.

وفي الهند وفي أفغانستان سمع أقرباء هؤلاء الجمّالين ومواطنوهم بالنجاح والغنى الذي حققوه، وبالرخاء واليسر الذي يعيشون فيه، وبفرص النجاح والحياة الموفورة في القارة الجديدة، فشدوا الرحال وهاجروا إليها فرادى وأسراً.

وارتفع الخط البياني لتعداد المسلمين في أسترالیا بهذه الهجرات، فبعد أن كانوا عام 1844 سبعة وخمسين مسلما فقط وصلوا عام 1861 إلى 661 مسلما ثم بلغ عددهم عام 1881 خمسة آلاف وثلاثة، ثم ستة آلاف وأحد عشر مسلما عام ۰1901

وكان الطبيعي أن يقيم رجال القوافل أول أمرهم حول الآبار وجوار موارد المياه، ولكنهم بعد أن استقرت بهم الحياة، وابتسم لهم الحظ والرزق في هذه البلاد اتخذوا "أديليد"، أول موطن إسلامي في أستراليا و"أديليد" في ذلك الوقت لا تزيد عن بضعة منازل وعدة أكواخ متناثرة.

ولما زاد تعداد الجالية الإسلامية في أستراليا انتشروا فيها ورحلوا إلى بقية الولايات ابتغاء الرزق، واتخذوا أعمالا أخرى غير قيادة الجمال، فاشتغلوا بالتجارة والزراعة والعمل في المناجم والبحث عن الذهب، وغرسوا بذلك النواة الأولى للجاليات الإسلامية في الولايات الباقية وهي: غرب أستراليا وعاصمتها بيرث، وفيكتوريا وعاصمتها ملبورن، وتازمانيا وعاصمتها هوبارت، وكوینزلاند وعاصمتها بريزبين، ونيو ساوث ويلز وعاصمتها سیدني.

وفي عام 1902 صدر قانون يحرم دخول الآسيوبين والملونين أستراليا، فتوقف إلى حين تيار الهجرة الإسلامية، وانقطعت الصلة بين المسلمين في أستراليا وبلادهم، فلم يلبث الكثيرون منهم أن عادوا إلى أوطانهم، وأخذ عددهم في النقصان، فبعد أن كان 6011 عام 1901 نزل إلى 2020 مسلما عام 1911.

وبدأت فترة الضعف والركود في تاريخ المسلمين في أستراليا، وكان أهم من النقص العددي النقص في الثقافة الإسلامية، فقد توقف عنهم أيضا تيار المعرفة والثقافة الدينية، ولم يعد يأتيهم منه شيء من بلادهم، وأخذت معرفتهم بأمور دينهم تقل، ومعنوياتهم تتأثر مع الأيام بالحياة الأوربية الجديدة وانصهر فيها أبناؤهم وذابوا، وضاعت معالم الإسلام من قلوبهم، واتخذوا الأسماء الأوربية أولا، ثم جرفتهم مشاهدات المدنية الأوربية بمدارسها وحياتها الاجتماعية، ولم تصمد معرفة الآباء القليلة بالقيم الإسلامية أمام الدعايات المنظمة للمسيحية في البلاد، فتزوجت الحفيدات المسلمات بالمسيحيين، وتزوج الأحفاد بالمسيحيات، وحلت الإنجليزية محل لغتهم الأصلية، وتخلى بعضهم عن دین آبائه كلية. ومن صمد منهم لم يبق له من الإسلام إلا رسوم وإلا ظلال، ومن قبض منهم على دينه كان كالقابض على الجمر.

المرحلة الثانية للهجرة:

بدأت المرحلة الثانية عام 1924 حين سمحت أستراليا لعدد من الأوربيين الذين شردتهم الحرب العالمية الأولى بالهجرة إليها. فجاءها أشتات من كل جنس وملة، وكان بينهم عدد محدود من المسلمين الأوربيين أكثرهم من ألبانيا، وقد اشتغلوا بفلاحة الأرض، وأدخلوا لأول مرة زراعة الطباق في أستراليا. وقليل من الوافدين المسلمين في هذه المرحلة جاء من روسيا وألمانيا.

لم يكن القادمون من المسلمين الأوربيين أحسن حالا من بقايا الرعيل الأول من الهنود والأفغان في الثقافة الدينية، فقد كانت معرفتهم بالدين محدودة ومصادر الثقافة الإسلامية لديهم شبه معدومة. ومع أن أحدا منهم لم يؤثر عليه تيار المسيحية كما حدث مع الفريق الأول، فإن علاقتهم بالدين أصبحت مع مرور الزمن شبه صورية، تتمثل في إقامة الشعائر دون فهم لمعناها أو إدراك لحقيقة الإسلام وروحه ومعنوياته.

ويمكن اعتبار هذه المرحلة امتداداً لفترة الركود والاضمحلال التي بدأت عام 1902 حين أصدرت حكومة أستراليا قانون الهجرة المشهور، والمعروف بقانون "فلنُبق أستراليا بيضاء"، وهو الذي يحرم هجرة الملونين والآسيويين إليها، فانقطعت عن المهاجرين الأُوَل مصادر الثقافة الإسلامية وتوقف التيار الذي كان يغذيهم بالعدد وبنور المعرفة.

وظلت الحياة الإسلامية في أستراليا فترة ما بين الحربين تعيش في ظلمة قاتمة من الجهل، وباتت تنتظر واحدة من نهايتين: إما فجرا جديدا يضفي عليها النور فيوقظها ويبعث فيها الحياة، وإما رقدة أبدية تنتهي بها إلى الزوال والموت، وأبى الله إلا أن يتم نوره، فجاءت إلى أستراليا إشعاعات جديدة تمتلئ بالحياة والثقافة والقوة وذلك مع أفواج الهجرة المعاصرة، وهي المرحلة الثالثة للهجرة الإسلامية.

 المرحلة الثالثة للهجرة الإسلامية:

بدأت هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت مستمرة، وأرجو أن يظل حبلها متواصلا إلى ما شاء الله. ولم يفرض المسلمون أنفسهم في هذه المرحلة على أستراليا، ولكنهم دعوا إليها بشتى المغريات مع من دعي ليهاجر إلى القارة الخالية فقد أدركت أسترالیا، قبيل الحرب الثانية وبعدها أن سياسة وقف الهجرة إليها حتى تظل محتفظة إلى الأبد بحياة الرغد والغنی وبالمستوى المرتفع لسكانها القليلين سياسة غير سليمة، وخاصة بعد أن تحققت من المطامع الآسيوية المتجهة إليها ممثلة في اليابان قبل الحرب، وفي الصين وأندونيسيا بعد الحرب. ومن ناحية أخرى كانت هذه السياسة تشكل خطرا عالميا عليها، فالقارة التي لم يستغل من ثرواتها غير القليل - وكان يسكنها قبل الحرب ستة ملايين وهي تكفي لتسعين مليونا - تواجهها على الضفة الأخرى من المحيط، وعلى بعد مئات قليلة من الأميال آسيا التي تغص بمئات الملايين يقتلهم الجوع وتمرضهم الفاقة، والحل الطبيعي أمام الضمير العالمي الذي لا بد أن يفيق يوما، هو ملء الفراغ الذي تعانيه أستراليا بفائض البشرية الذي تئن منه آسیا.

أدرك الاستراليون الخطر الذي يتهدد جنتهم من جيرانهم الآسيويين، فأصيبوا بالفزع، وركبهم الهلع بعد أن استقلت أندونيسيا، وقامت الصين الشعبية، وبعد أن ضعفت إنجلترا وأصبحت غير قادرة على حماية ربيبتها من المصير المحتوم.

 إزاء هذه التطورات التي حدثت في المنطقة سلکت أستراليا سبيلين:

أولهما - الارتماء في أحضان أمریکا، والدوران في فلكها لكي تحميها من الوجوه الصفراء ومن الملايين الجائعة اللاهثة التي تقف على الضفة المقابلة مستعدة للزحف وخوض المحيط في سبيل القوت ورحبت أمریکا بالتابع الجديد، ووجدت في قارته الواسعة قواعد لمعسكراتها وصواريخها الذرية لتكون خطًا ثانيا للدفاع ضد الخطر الصيني الشيوعي.

والسبيل الثاني الذي سلكته أستراليا، هو فتح بابها على مصراعيه للرجل الأبيض على اختلاف جنسياته، فدعته إلى الهجرة إليها، وأغرته بحياة أفضل، ومستقبل أكثر ضمانا، وبمستوى أعلى للحياة، وجندت وسائل الدعاية في كل بلد أوربي أو شبه أوربي لتجتذب منه مهاجرين إليها تملأ بهم الفراغ قبل أن يملأ بالملونين - واللون في عرفها لا يقتصر على الأسود، بل كل من هو غير أوربي أو شبه أوربي فهو ملون - طلبت القوى البشرية البيضاء لتعمر القارة الواسعة، ولتستغل ثرواتها الضخمة التي لم تمس، ولتواجه السامية الجديدة في التوسع والتطوير والإسكان ولتذر الرماد في عيون الضمير العالمي بزعمها أنها تساعد أوربا على حل مشكلة ازدحامها بالسكان.

وهكذا جاء إلى استراليا بعد الحرب الثانية مهاجرون من البيض من كل صوب وحدب، ودخلته طوائف متباينة ومختلفة، ولم يكن المهاجر يُسأل إلا عن شيء واحد هو مذهبه السياسي، فإن كان شیوعيا منع من الهجرة، وإن كان غير شیوعي فتحوا له الأبواب وأباحوا الهجرة حتى للذين لفظهم المجتمع ودمغهم بالجريمة ما دام الإجرام لم يتعد سابقة واحدة.