مكانة الشباب في الإسلاممقالات

الدكتور أحمد الشرباصي

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي – العدد 27 – السنة 3 – ربيع الأول 1387 – يونيو 1967 – الصفحة 29

 

عهد الشباب ربيع الحياة، والشباب في الأمة هم معقد الأمل وموطن الرجاء، وبسواعدهم وعلى أكتافهم تقوم النهضات وتتم الوثبات، وتكمل جلائل الأعمال، ومن واجب الأمة أن تعني أكبر عنایة بتربية الشباب، وتهيئة الفرص أمامهم، وأن تحسن توجيههم، وتوفيهم حقوقهم، وتمكنهم من واجباتهم، حتى لا يخضعوا لتلك الأزمات الكثيرة التي تنالهم، بسبب الإعراض عنهم، والفجوة بينهم وبين الشيوخ، وعدم التفاهم الصحيح بينهم وبين من سبقوهم في ميادين الحياة...

والشاب تبدأ شبيبته من قرابة الخامسة عشرة، ويكمل الشباب في الأربعين، وكلمة الشباب تفيد معنی القوة والفتوة، ولذلك قالت اللغة إن الفتوة من الفتاء، وهو الشباب، وأن الفتى هو الشاب، وكثير من الناس يلحظون في كلمتي الفتيان والشبان معنى حداثة السن وطراوة العمر، دون معنى العزم والإقدام والتوثب، مع أنه قد قیل.

إن الفتى حمال كل ملمة

ليس الفتى بمنعم الصبیان

ويقول ابن عربی:

إن الفتوة ما ينفك صاحبها

مقدما عند رب الناس والناس

 إن الفتى من له الإيثار تحلية

 فحيث كان فمحمول على الراس

ما إن تزلزله الأهوا بقوتها

لكونه ثابتا كالراسخ الراسي

لا حزن يحكمه، لا خوف يشغله

عن المكارم حال الحرب والباس

 

وللشباب في الإسلام مكانة ملحوظة يغبطون عليها، ولو راجعنا تاريخ الدعوة الإسلامية في أول أمرها، لوجدناها نضالا ومصاولة بين الشباب الذين تفتحت قلوبهم وعقولهم لدين الهدى والعدل، وبين الشيوخ الذين أخذتهم العزة بالإثم، واستكبروا عن الاستجابة للحق، ووصفهم القرآن بقوله. «صم بكم عمي فهم لا يرجعون» ۰۰.

وإذا استعرضنا أسماء الكتيبة الأولى التي حملت دعوة الإيمان إلى الناس، نجد أن أكثرها قد دخلوا في الإسلام وهم في أول الشباب أو قبيلة، فعلي بن ابی طالب، و الأرقم بن أبي الأرقم، وطلحة ابن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود، والسائب بن عثمان بن مظعون – رضي الله عنهم أجمعين - قد أسلموا وهم في نحو العاشرة من أعمارهم.. وسعد بن أبي وقاص، وجعفر بن ابی طالب، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مظعون، ومسعود بن ربيعة، قد أسلموا وهم في نحو السابعة عشرة من أعمارهم ۰۰.

وعثمان بن عفان، وخباب بن الأرت وزيد بن حارثة، وصهيب الرومي، وقدامة بن مظعون، قد أسلموا وهم في حدود العشرين من أعمارهم...

وقد تلتهم كتائب ازدانت أيضا بكثير من شباب الإسلام و فتية الإيمان.....

ولم يقتصر الأمر في هذا على الذكور، بل كان للنساء فيه نصيب، فأسماء بنت عميس، وفاطمة بنت الخطاب، وأم سلمة بنت حذيفة، وأسماء بنت سلامة وأمينة بنت خلف، وفاطمة بنت صفوان، قد أسلمن في حدود العشرين أو دونها.

ولذلك قيل إنه جاء في حديث مرفوع. «أوصيكم بالشبان خيرا، فانهم أرق أفئدة … إن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فحالفني الشبان، وخالفني الشيوخ»، ثم قرأ. «فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم».

وتتضوأ صفحات الشباب خلال السجل التاريخي الضخم للجماعة الإسلامية الكبرى، فترى للشباب في كل جيل كفاحهم ونضالهم ومآثرهم، وها هو ذا أبو حمزة يحيى بن المختار الخطيب الناسك الذي خرج على مروان ابن محمد سنة تسع وعشرين ومئة يخطب فيقول:

«يا أهل الحجاز... أتعيرونني بأصحابي، وتزعمون أنهم شباب؟

وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا؟ أما والله إني لعالم بتتابعكم (أي تهافتكم ووقوعكم) فيما يضركم في معادكم، ولولا انشغالي بغيرکم عنكم ما تركت الأخذ فوق أيديكم....

شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر، ينظر الله إليهم في جوف الليل محنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بکی شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه، موصول کلالهم بكلالهم: کلال الليل بكلال النهار، قد أكلت الأرض ركبهم وأیدیهم، وأنوفهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله حتى إذا رأوا السهام قد فوقت، والرماح قد أشرعت والسيوف قد انتضیت، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت، استخفوا بوعيد الكتيبة

 

لوعد الله، ومضى الشاب منهم قدما، حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر، طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من کف زالت عن معصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله.

ولم يكن سبق الشباب إلى الإسلام وجهادهم في سبيله بدعا في تاريخ الدعوات الدينية والرسالات السماوية، فالقرآن الكريم يحدثنا عن موسى عليه السلام، فيقول. «فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعالٍ في الأرض وإنه لمن المسرفين». والذرية هي الأولاد، أي لم يؤمن بموسى إلا أولاد قومه وهم الشباب، وأما الشيوخ فقد علوا علوا كبيرا، وقالوا مثلما قال غيرهم من الكافرين. «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون».

ومما يثير التفكير أن القرآن ذکر الفتيان - وهم الشبان - في مواطن مشرفة لهم، وذلك مما يدل على مكانة الشباب العالية، ففي سورة الأنبياء. «قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم». وإبراهيم ذلك الفتى هو خلیل الرحمن عليه السلام، وحسبك به من مثل رفيع للإنسان الكامل..

وفي سورة الكهف. «وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا». وهذا الفتى هو يوشع ابن نون، وقد كان خير معين لموسى عليه السلام، وفي بعض الروايات أنه يرتبط مع كليم الله سبحانه بصلات القربی.

وفي سورة الكهف أيضا: «إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا»، وهؤلاء الفتية هم الذين كانوا يمثلون عصبة الاستمساك بالحق والإيمان أمام الكفران والطغيان، وهم الذين قال فيهم القرآن بعد ذلك. «نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذًا شططًا»

وفي سورة يوسف. «وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه». وهذا الفتى هو يوسف عليه السلام، الذي ضرب أروع مثل في كمال العفة وتمام الفضيلة والاستعصام بالله أمام الشهوات المزلزلة...

ويوسف هذا هو الذي أوتي الحكمة والعلم وهو في سن الشباب. قال تعالى «وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين».

رُويَ أن سن الأشد الذي أوتي فيه الحكمة والعلم نحو العشرين، وروي أن ریان بن الوليد ملك مصر على عهد يوسف استوزر يوسف وهو في سن الثلاثين.

وفي سورة يوسف أيضا: «وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم» والفتيان هنا هم المساعدون ليوسف عليه السلام وحسبهم بذلك شرفا...

وفي سورة مريم. «يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا». قال البيضاوي. «يعني الحكمة و فهم التوراة، وقيل: النبوة. أحكم الله عقله في صباه واستنبأه...

لعله لا يكون غريبا بعد هذا أن نجد من المنسوب إلى ابن عباس قوله. «ما آتى الله عز وجل عبده علما إلا شابا، والخير كله في الشباب....

 

نعم إن هناك طائفة تقدم الشيوخ على الشباب، وتفضل رأي الشيخ على جلد الغلام، ولكن ماذا نقول إذا جمع الشباب بين الجلد والرأي؟...

وهناك أيضا أمام الطائفة السابقة طائفة مثلها تفضل الشباب...

يقول شهاب الدين النویری بعد أن ذکر رأي الذين يفضلون الشيوخ: «وقد عدل قوم عن ذلك، وسلكوا في خلافه أوضح وأنهج المسالك، وقالوا: بل رأي الشباب هو الرأي الصائب، و فهمهم الفهم الثاقب، ونجم سعدهم الطالع، وسحاب جدهم الهامع وأن لهم من الفطنة أوفر نصيب، وإن سهم رأيهم الرائش المصيب، وأن عقولهم سليمة من العوارض، و أذهانهم آخذة بحظ وافر من الغوامض، ولذلك قال الحكماء، عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبان، فإن لهم أذهانا تفل القواصل وتحطم الذوابل.

وقالوا: آراء الشباب خضرة نضرة، لم يهتصر غصنها هرم، ولا أذوی زهرتها قدم، ولا خبا من ذكائها بطول المدة ضرم. وقال الشاعر:

علیکم بآراء الشباب فإنها

نتائج ما لم يبله قدم العهد

فروع ذكاء تستمد من النهى

بأنور في اللأواء من قمر السعد

وقال آخر:

رأیت العقل لم یکن انتهابا

ولم يقسم على عدد السنينا

ولو أن السنين تقسمته

حوى الآباء أنصبة البنينا

وقال آخر:

أدركت ما فات الكهول من الحجا

في عنفوان شبابك المستقبل

فإذا أمرت فلا يقال لك. اتئد

وإذ قضيت فلا يقال لك اعدل

وحسب الشباب مجدا وشرفا أن يرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو سيد الفتيان وزينة الشبان في سن الأربعين حيث يكتمل الشباب، ولقد بدأ محمد صلى الله عليه وسلم دعوته العالمية الخالدة، وبدا أمام قومه وليس بجانبه ألا غلام شاب، ومن خلفهما سيدة وقور... 

روی عفيف بن عيسى الكندي قال: «جئت في الجاهلية إلى مكة، وأنا أريد أن أبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها، فأتيت العباس بن عبد المطلب، وكان رجلا تاجرا فأنا عنده جالس حيث أنظر إلى الكعبة، وقد حلقت الشمس في السماء، فارتفعت وذهبت، إذ جاء شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم قام مستقبل الكعبة، ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء غلام، فقام على يمينه، ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاءت امرأة، فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع الغلام والمرأة، فسجد الشاب فسجد الغلام والمرأة... فقلت. یا عباس، أمر عظيم... فقال

 

العباس. أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب؟.. قلت: لا. قال: هذا محمد بن عبد الله أخي... أتدري من هذا الغلام؟. قلت: لا. قال: هذا علي ابن أخي. أتدري من هذه المرأة؟. قلت: لا. قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجته.. إن ابن أخي هذا أخبرني أن ربه رب السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على الأرض كلها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.. "

والعجيب أن أكثر الذين تخفوا مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه في فترة الكتمان وتلقوا عنه في أول الدعوة كانوا من الشباب، وهم الذين حققوا بعد ذلك بجهادهم مفاخر الإسلام وأمجاده، ونشروا الدعوة في الأرجاء، وسقط أكثرهم شهداء، ولم يمت على فراشه منهم إلا القليل، فاستشهد عمر ابن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وهم نائمون في المسجد يصلون، واستشهد عثمان بن عفان وهو يتلو القرآن، واستشهد عبيدة بن الحارث في غزوة بدر، واستشهد حمزة بن عبد المطلب وأبو سلمة بن عبد الأسد ومصعب بن عمير وعبد الله ابن جحش في غزوة أحد، واستشهد عامر بن فهيرة عند بئر معونة، واستشهد مسعود بن ربيعة في غزوة خيبر، واستشهد السائب بن عثمان بن مظعون وأبو حذيفة بن عتيبة وعیاش بن أبي ربيعة في حرب اليمامة، واستشهد طليب ابن عمير ونعيم بن عبد الله في أجنادين، واستشهد خالد بن سعيد وأخوه عمرو ابن سعيد في فتح الشام، رضوان الله عليهم أجمعين، فقد جاهدوا في الإسلام حق الجهاد...

ولقد جاهد فريق من شباب الإسلام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم في أول الشباب، ففي غزوة أحد كان رافع بن خديج غلاما في الخامسة عشرة، وأراد الخروج إلى الجهاد، ولما بدأ الرسول في استعراض الجنود وقف على أطراف أصابعه حتى يظهر طويل القامة، خشية أن يستصغره النبي صلوات الله وسلامه عليه ويرده، ولما رآه النبي سأله عما يحسن من أنواع القتال فأجابه: الرمي. فقبله النبي عليه الصلاة والسلام.

وجاء سمرة بن جندب ليخرج مجاهدا وهو في مثل سن رافع فرده النبي، فقال سمرة وهو يبکی: یا رسول الله، کیف تقبل رافعا وتردني، ولو صارعني لصرعته؟.. وأذن النبي لهما بأن يتصارعا فتغلب سمرة على رافع، فقبلهما النبي معها..

يقول ابن سيد الناس في كتابه (عيون الأثر) وهو يتحدث عن غزوة أحد. (وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سمرة بن جندب الفزاري ورافع ابن خديج أحد بني حارثة، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان قد ردهما، فقيل له: إن رافعا رام.. فأجازه، فلما أجاز رافعا قيل له: يا رسول الله، فإن سمرة يصرع رافعا، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وكذلك أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وزید ابن ثابت وأسيد بن ظهير، وهم أبناء خمس عشرة سنة.

ولكن كيف ربى الإسلام هؤلاء الشباب وخرجهم ؟.. ذلك حديث يحتاج إلى الاستقلال بالتفصيل.

5 شخص قام بالإعجاب