الإسلام في عالم الملايو (2)مقالات

محمد عبدالرؤوف

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة الأولى، العدد الرابع، ربيع الثاني 1385هـ.

 

تحدثنا في المقال الماضي عن العلاقات بين عالم الملايو وشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وتبين لنا كيف كانت هذه العلاقية - تجارية وثقافية - وسيلة لتعرف عالم الملايو على الإسلام منذ انتشر في البلاد العربية، ولكنه مع ذلك لم ينتشر ببلاد الملايو انتشارًا محسوسًا إبان القرون السبعة الأولى من الهجرة، وإن كان قد اعتنقه أفراد متفرقون في الأرخبيل هنا وهناك.

وقد كانت هذه الحقبة الطويلة من التاريخ بمثابة فترة إعداد وتمهيد لانتشار الإسلام السريع بين الملايويين فيما بعد، فقد طال اختلاطهم بالقادمين عليهم من تجار المسلمين، وتكررت مشاهداتهم لإقامة الشعائر الإسلامية، واستماعهم للأدعية والأذكار الدينية، وبطول العهد أصبحوا يألفونها، ولا يزهدونها، ويأنسون إليها ولا ينفرون منها، وقد شجع على ذلك ما أشرنا إليه من قبل من نشاط المرشدين.. ثم ما كان يتمتع به المسلمون من نجاح في تجارتهم، وتفوقهم في الذكاء وفي مستوى المعيشة، فلما تيسرت الأسباب وتوافرت العوامل في نهاية القرن السابع الهجري لانتشار الإسلام بالجملة - إن صح هذا التعبير - بادر الناس بالدخول في الإسلام أفواجًا عن رغبة واقتناع وحماس، وطرحوا الوثنية إلى غير رجعة، وآمنوا عن فهم وإدراك ووعي، لا عن إكراه وقسر ولا عن جبر واضطرار، وأصبح الإسلام هديهم في حياتهم، وسادت تعاليمه بينهم في سهولة ويسر، وأضحى مميزًا من مميزاتهم، وخاصة من خصائصهم.

كان من أهم تلك الأحداث التي كانت بمثابة عوامل مباشرة أدت إلى هذا الفتح السلمي الكبير للإسلام في الشرق، هجرة الكثيرين من المسلمين إلى البلاد النائبة، ومنها جزر الأرخبيل الملايوي، فرارًا من ويلات الحروب التي شنتها على دولة الإسلام قبائل المغول، والتي قضت على الخلافة العباسية في بغداد عام 656هـ (1258م)، وقد أدت هذه الهجرة وإقامة الكثير من المهاجرين المسلمين ببعض الجهات الساحلية هناك بصفة دائمة يزاولون أعمال التجار، إلى جانب نشاطهم الديني بأماكن العبادة التي بنوها لأنفسهم وسموها بالزوايا أدت إلى خلق جو إسلامي فعال تضاعفت فيه جهود الدعاة...

إسلام سلطان برلاك:

وقد توجهت جهودهم بإسلام حاكم ولاية صغيرة بشمال سومطرة كانت تعرف باسم (برلاك) perlak وعند إسلام هذا الحاكم أطلق على نفسه لقب (السلطان) ذلك اللقب الإسلامي الذي اختاره من قبل الأمراء الغزنويون في أفغانستان وأمراء الهند في دلهي، وقد تلا إسلام هذا الحاكم إسلام رعيته لأن الناس كما يقال على دين ملوكهم.

كان انتشار الإسلام في ولاية برلاك قبيل نهاية القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) حيث سجل ماركو بولو Marco polo الملاح الإيطالي الشهير في مذكراته عن رحلاته في تلك الأصقاع عام 1292م (692ه) أنه وجد ولاية برلاك تدين بدين محمد وحدها دون ما حولها من ممالك ودويلات، ويعتبر إسلام حاكم هذه الولاية بحق حجر الزاوية في انتشار الإسلام السريع، وقيام سلطنات إسلامية كثيرة أخرى في شتى أنحاء الأرخبيل وبداية عصر إسلامي زاهر بالبلاد، علا فيه شأن الإسلام والمسلمين، وساد سلطانهم، وعزت فيه كلمتهم، وراجت فيه تجارتهم، كما قامت في أثنائه حركة علمية إسلامية ممتازة.

إسلام حكام الولايات:

فلما أسلم حاكم برلاك عمل على إسلام جيرانه من الحكام، ونجحت جهوده لدى حاكم ولاية (ساموديا) Samudia الذي كان يسمى باسم هندوكي هو (مره سيلو Morah silu ) فلما أسلم صاهو سلطان برلاك وتسمى باسم (الملك الصالح) وقد توفي الملك الصالح هذا عام 1297م فخلفه ابنه الملك الظاهر الذي زار قصره الرحالة الإسلامي الشهير ابن بطوطة عام 1343م وتحدث كثيرًا عن تدين هذا السلطان، وتفقهه على مذهب الشافعية.

وبطريقة مماثلة أسلم حاكم ولاية (باساي) Pasai بسومطرة أيضًا، وتسمى حالًا باسم (اتشه Achah)  فنجحت جهوده بدوره في إسلام حاكم (ملقا) الواقعة على الساحل الغربي بشبه جزيرة الملايو حوالي عام 1410م وكان الاسم الهندوكي لهذا الحاكم (ماهارسوار Mahareswara) فما أسلم تسمى باسم السلطان مجات إسكندر شاه وأسس مملكة عظيمة قوية تتابع السلاطين على عرشها من أسرة الإسكندر شاه، وأخذ السلاطين على عاتقهم بث الدعوة الإسلامية بالطرق السليمة على يد الدعاة والمرشدين.

ومن قبل دخول ملقا في الإسلام كانت للإسلام دولة في شرق شبه جزيرة الملايو يشهد لذلك حجر عثر عليه أخيرًا منقوش عليه تعليمات إسلامية رسمية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر الميلادي.

ملقا.. بغداد.. الأرخبيل:

ومنذ أسلمت ملقا بدأت عهدًا زاهرًا مجيدًا زهاء قرن من الزمان راجت فيه تجارتها إلى أبعد مدى، وجُلبت لها الخيرات من كل مكان، واستمتع أهلها المسلمون بحياة تشبه في رغدها ما كانت عليه بغداد أيام الرشيد، غير أن ملقا حملت راية الإسلام، فبعثت بالدعاة والمرشدين مع سفنها أينما ذهبت فأدت جهودها إلى نشر الإسلام في كثير من سائر بقاع الملايو وسومطرة وجاوة وبورنيو وسيليليز وغيرها وبذا أصبحت لملقا امبراطورية إسلامية عظيمة في الشرق يهابها جيرانها وارتبطت بصلات ودية مع إمبراطور الصين، فكان لهذه الصلات أثر طيب في حماية حدود الإمبراطورية شمال شبه جزيرة الملايو ضد تحرشات سيام (تايلاند) التي كانت كثيرًا ما تحاول مناواة ملقا، وتخشى عاقبة اتساع نفوذها.

هذا ولم تلق الدعوة الإسلامية مقاومة مسلحة في الأرخبيل الملايوي كله إلا من قِبَل إمبراطورية (ماجاباهيت Maja pahit) الهندوكية بجاوة، وقد كان يتبعها عدد من الإمارات في جاوة وبورنيو، وقد حدث أن أسلم أمراء هذه الدويلات التابعة لماجاباهيت على أيدي الدعاة، ثم نشأت خصومات سياسية بين هؤلاء الأمراء والإمبراطور الهندوكي أدت إلى تضافر هؤلاء الحكام ضده، وقامت معارك دموية انتهت في عام 1478م بهزيمة ماجاباهيت، وبذا تحطم أكبر معقل للوثنية في الأرخبيل.

دخول الإسلام في الفلبين:

وكان من خيرة من أبلى بلاء حسنًا من الدعاة في الأرخبيل (مخدوم إبراهيم الأكبر ابن جمال الدين الحسيني) وقد زاول نشاطه في الدعوة للإسلام في مجموعة جزر سولو (Sulu) التي هي جزء من دولة الفلبين حاليًا، وقد أسلم على يده خلق كثير في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي وقد تبعه داعية آخر من سومطرة يسمى (أبا بكر) وقد نجح في إقامة سلطنة إسلامية هناك وتوفي عام 1480م، وكان من هؤلاء الدعاة الناجحين أيضًا (الشريف مولانا إبراهيم) وهو ابن الشريف مخدوم إبراهيم الأكبر المذكور آنفا وقد كان لمولانا إبراهيم هذا فضل في إسلام عدد من أمراء الولايات التابعة لإمبراطورية (ماجاباهيت) الهندوكية وقد توفي عام 1419م، وكان من بين الولايات التي دخلت في الإسلام على أثر هزيمة ماجاباهيت دويلة (بروناي Brunai) الواقعة على الساحل الغربي لجزيرة بورنيو وقد أسس أمير عربي سلطنتها عام 1510م ولا زالت أسرته تتوالى على عرشها حتى الآن، وقد كان مفروضًا أن تنضم هذه السلطنة إلى ماليزيا التي قامت عام 1963م ولكن لم يتم ذلك لأسباب سياسية، فبقيت وحدها محمية إنجليزية، ورغم صغر هذه السلطنة في مساحتها إلا أنها ذات ثراء عظيم بسبب آبار البترول الغنية بها.

ومن أهم هؤلاء الدعاة أيضًا (الشريف محمد كيبنجسوان Kabungsuan) الذي رحل من الملايو إلى جزيرة (مندناو Mindanao) بالفلبين حوالي عام 1475م ونجح في إقناع خلق كثير من الوثنيين باعتناق الإسلام، وحفر لهم بئرًا فكان لا يقبل إسلام أحد إلا بعد أن ينغمس في الماء ليتطهر، ويتشهد، ولا تزال آثار هذه البئر باقية حتى الآن، كما نجح في إقامة سلطنة إسلامية عظيمة امتد نفوذها إلى أنحاء الجزيرة الكبيرة، ومن مندناو وسولو انتشر الإسلام في سائر الجزر التي تكون الفلبين حاليًا.

وسوف لا نرهق القارئ بذكر أسماء سائر الجزر والجزيرات وتاريخ انتشار الإسلام في كل منها.

سر انتشار الإسلام:

وكان من أهم العوامل التي أدت إلى هذا الانتشار السلمي السريع بساطة الإسلام وتقدميته، وألف السكان للشعائر الإسلامية التي كان يؤديها من خالطهم من المسلمين على مرأى ومسمع منهم أبان القرون الأولى من الهجرة، ثم ما كان يتمتع به الكثير من هؤلاء المسلمين من شخصية ممتازة ونجاح مرموق في تجارتهم، ثم الهجرة فرارًا من ويلات الحروب المغولية والصليبية، ثم نجاح الدعاة من ذوي النزعات الصوفية في إقناع الحكام والولاة الذين أثروا على رعيتهم، وقاموا بدورهم بالدعاية للإسلام مع أمثالهم من الحكام عن طريق الدعاة والمصاهرة.

بقي الحديث إذًا عن الخصومة حول من كان لهم الفضل في نشر الإسلام في ربوع الملايو أهم العرب أم المسلمون من الهند؟ وهو نزاع أثار في السنوات الأخيرة بعض المستشرقين لنوايا في أنفسهم نشك في موضوعيتها، كما بقي الحديث عن الإصلاحات التي أحدثها الإسلام في عالم الملايو، ثم عن الاستعمار الغربي وموقفه من الإسلام في الشرق منذ بدأ باحتلال البرتغاليين (جوا Goa) بالهند، ثم ملقا بالملايو عام 1511م، ثم عن أهم التطورات والأحداث منذ ذلك الحين.