أسباب الفتح الإسلامي لصقليةمقالات

الدكتور زكي محمد غيث

المصدر: مجلة الوعي اللإسلامي –السنة الثالثة-العدد 26- غرة صفر سنة 1387ه -10 مايو (أيار)  1967 م –الصفحة 52 - من أمجاد تاريخنا الماضي صقيلة الإسلامية

 

تأليف : الدكتور زكي محمد غيث

أستاذ التاريخ الإسلامي – جامعة بغداد

نرى من المستحسن قبل الحديث عن «الفتح الإسلامي لصقلية» أن نقدم عرضا سريعا نوضح فيه الظروف التي أدت إلى قيام دولة الأغالبة التي فتحت الجزيرة على عهدها، وبقواتها، ثم نذكر الأسباب التي أدت إلى فتح الجزيرة.

ظلت الحملات البحرية الإسلامية تفد على جزيرة صقلية للغزو منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضی الله عنه، وخلفاء بني أمية من بعد، فلما شبت الثورات في إفريقية وسائر بلاد المغرب، وانتفض الخوارج في كل مكان في أوائل أيام الدولة العباسية،

وقفت الحملات ريثما يلم المسلمون شعثهم، ویستتب الأمر للدولة الجديدة في إفريقية وسائر بلاد المغرب التي تعتبر مفتاح الفتح الحقيقي لصقلية.

وفي أيام الخليفة الرشيد العباسي (170 - 193 ه)  كانت ريح الثورة لا تزال تعصف بالبلاد، وغدت إفريقية مصدر اضطراب من الوجهتين السياسية والاقتصادية لدولة الخلافة العباسية، إذ كانت تكلفها سنويا مائة ألف دينار تدفع لسد نفقاتها من إیرادات الديار المصرية، وعجز الولاة عن ضبطها حتى استعفی «هرثمة بن أعين» الخليفة الرشید، فأعفاه سنة 181 ه

وولی مکانه «محمد ابن مقاتل العكي» فأساء السيرة، واختلف عليه الجند، وآل أمره إلى فساد، وعجز عن حكم البلاد وكرهه أهلها، فداخل الناس «إبراهيم بن الأغلب» على أن يطلب الأمر لنفسه، فعرض على الرشيد أن يوليه أمرها، وتعهد بإعادة الأمن إلى نصابه، والقضاء على الثورات والفتن، وأن يدفع إلى بيت مال المسلمين ببغداد أربعين ألف دينار سنويا، معلنا في الوقت نفسه استغناءه عن المائة ألف دينار التي كانت تدفعها الدولة العباسية أعانة الحكومة إفريقية من مصر، فاستشار الرشید أصحابه فأشار عليه «هرثمة» بولايته وذكر له ما يعرفه عن كفايته، فبعث إليه الرشيد بعهدة سنة 184 ه (800 م).

أصبح إبراهيم بن الأغلب حاكما على إفريقية منذ ذلك التاريخ على أن يظل الحكم له مدة حياته، ويبقى وراثيا في أسرته من بعد على شرط أن يعتمد الخليفة ببغداد ولاية كل متول بصفة رسمية عند بدء توليته.

وبذلك استقلت إفريقية استقلالا ذاتيا، وخضعت لحكم الأغالبة، وصار أمرها جميعه إليهم، يصرفون شؤونها، ويدبرون أمورها حسبما يريدون.

وبعد وفاة إبراهيم سنة ۱۹۹ ه (۸۱۱م) انتقل الحكم إلى ابنه أبی العباس عبد الله، ولما توفي سنة 201 ه (819م)  خلفه أخوه «زيادة الله» في الحكم،  وقد كان من يمن طالعه أن وفق الله أساطيله المظفرة إلى فتح «جزيرة صقلية»، حيث أستأنف حملات أسلافه التي بدأت منذ قرن ونصف قرن، ووقفت جنوده المظفرة على أبواب صقلية تقرعها فرعا عنيفا، ولم يطل قرعها حتى اقتحمتها على أصحابها، وأزالت سلطان امبراطوريتهم العتيقة عنها، وأقامت على أنقاضها أساس دولة إسلامية فتية، ازدهرت حينا من الدهر، وساهمت بقسط وافر في بناء الحضارة الأوربية الحديثة بغراسها الأول الذي نما وأثمر حتى أظل ربوع إيطاليا، فأوربة الوسطى، والذى لا تزال ثماره الشهية غذاء العالم حتى اليوم.

أما أسباب الفتح فيكاد ينعقد الإجماع بين المؤرخين من عرب وأوربيين على أن السبب الحقيقي الذي دفع بزيادة الله الأول الأغلبي إلى غزو صقلية ما وصله من دعوة تأثر أو خائن سر قوسی یلتمس المعونة ضد الحاكم البيزنطي في الجزيرة سنة 212 ه (827 م)، فأتاح ذلك فرصة صالحة للغزو أنتهزها زيادة الله فسير حملته البحرية بقيادة وزيره القاضي «أبي عبد الله أسد بن الفرات ابن سنان» في تلك السنة، وبذلك بدأ الفتح الحقيقي. وتختلف الروايات النصرانية والإسلامية في سبب تلك الدعوة، أو الخيانة، ففي الرواية النصرانية. أن شابا بيزنطيا اسمه (یو فمیلوس)  غرر بإحدي الراهبات وأخرجها من الدير فحكم عليه الإمبراطور بقطع لسانه (أو جدع أنفه )، وفي الحال التجأ إلى المسلمين في إفريقية وحرضهم على غزو الجزيرة.

ولكن الرواية الإسلامية لم تذكر شيئا عن الراهبة بل تقول. إن سبب إنفاذ الجيش هو أن ملك الروم بالقسطنطينية استعمل على جزيرة صقلية بطريقا اسمه (قسطنطين) سنة 211 ه (829 م)، فلما وصل إليها عين رومیا اسمه (فيمي) قائدا على الأسطول،

وكان فيمي مغامرا، و حازما شجاعا، فغزا إفريقية وأعمل فيها يد النهب والتخريب، ولكن ملك الروم لم يرضه ذلك، فما لبث حتى كتب إلى قسطنطين حاكم الجزيرة يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه، فلما انتهى هذا الخبر إلى مسامعه شق عصا الطاعة، وفي الحال سار إليه قسطنطين واقتتل الفريقان حتی حلت الهزيمة بقسطنطين الذي فر إلى مدينة (قسطانية )، وعندئذ

زحف نحوه فيمي بجيش كبير وطفق يقاتله حتى هزمه، وقبض عليه وفتك به، ثم نادى بنفسه ملكا على الجزيرة، واستعمل على أحد أقسامها رجلا اسمه (بلاطة)  لم يلبث هو الآخر أن طمع في الملك وشق عصا الطاعة مع ابن عم له اسمه (میخائیل) حاکم مدینة (بلرم ). وجمع الاثنان جيشا لجبا وقاتلا فيمي وألحقا به هزيمة منكرة، واستولى بلاطة على مدينة (سرقوسة ). غير أنه لم تمض مدة وجيزة حتى أرسل (فیمي) إلى الأمير. زيادة الله الأول يستنجده ويعده بملك جزيرة صقلية، فسير معه جيشا في منتصف شهر ربيع الأول سنة 212 ه (15 يونيو سنة 827 م) فوصل إلى مدينة (مازر) حيث نشب قتال مع جمع حاشد من الروم، ودارت بين الفريقين معركة هائلة أسفرت عن هزيمة الروم، واستيلاء المسلمين على أموالهم ودوابهم.

وفى رأينا أن هذه الروايات كثيرة الشبه بما يذكره المؤرخون الأجانب للحط من قيمة الفتوح الإسلامية ونسبة نجاحها إلى خيانة من جانب أحد أبناء الدولة المفتوحة، على حين أن المؤرخين العرب كانوا يوردون هذه القصص بها فيها من خيال خصب كأسباب الفتوح الإسلامية حينما يعوزهم تعرف الأسباب الحقيقية من سياسية واقتصادية ومحلية ودولية مما أدى إلى ذلك الفتح، أو عبد طريقه.

ومهما يكن من أمر فإننا لا نريد التعرض هنا لنفي هذه القصة أو إثبانها، لأنا نعتقد أننا لو أسقطناها من حسابنا لانتحلت لهذا الفتح أتفه الأسباب، وإذا أقررناها فإنها لا تعدو أن تكون سببا مباشرا للغزو فحسب، ذلك لأنه كانت هناك أسباب أعمق وأبعد غورا لهذا الغزو، فلقد كانت الدولة البيزنطية تعاني يومئذ نوعا من الانحلال والضعف وذلك أن الإمبراطور ميخائيل الثاني (التمتام) الذي بدأ في عهده الفتح لم يصل إلى العرش إلا على جثة سلفه، ليو الخامس (813 - 820 م)، إذ ذبحه أنصار ميخائيل بأسفل منبر الكنيسة في يوم عيد الميلاد سنة 820 م وأتوا بصاحبهم من محبسه وأجلسوه على العرش بقيوده الحديدية.

يدل ذلك على ما كانت تعانيه الامبراطورية في شؤونها الداخلية من فوضى واضطراب مما صرفها عن العناية بالشؤون الخارجية بما في ذلك إدارة أملاكها البعيدة عن مرکز حکومتها، فلم تكن لتعنى بها إلا بالقدر الذي تسمح به مشاغلها الداخلية، وحروبها مع جيرانها، فأصبحت تعالج شئون هذه الأملاك البعيدة في إيطاليا، وجزيرة صقلية كما لو كانت في مرتبة ثانوية، فلم تحطها بقوات ثابتة، ولم ترسم خطة معلومة للمحافظة عليها، والدفاع عنها تاركة أمرها للنواب المقيمين فيها.

وكانت دولة الأغالبة إذ ذاك في عنفوان الشباب، وميعة الصبا قد استكملت قوتها، وسيطرت على المياه الوسطى والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وكانت المياه الإيطالية والبيزنطية بخاصة مقصد حملاتهم، وكانت واقفة على ما يدور في العالم حولها، وعالمة بحالة الانحلال والضعف في الامبراطورية البيزنطية، فبدا لهذه الدولة القوية الفتية أن (صقلية) ضرورية لها، لعلها تنفذ منها إلى قلب أوربة فتحقق أملا طالما جاهد المسلمون الأول في سبيله من قبل، ولكنهم ردوا عنه يوم انتصر (شارل مارتل) على الأمير عبد الرحمن الغافقي) في موقعة بلاط الشهداء سنة 114 ه (832م)، وهي موقعة (بواتييه تور) التي جرت على أرض فرنسا.

هذا الأمل كان يبدو ممكنا إذ ذاك، ذکر (المقري، وابن خلدون) في صدد الكلام عن الفتوحات الإسلامية في الأندلس وفرنسا:  «أنه قد كان مقصد موسى بن نصير المعاد إلى دمشق حاضرة الخلافة الأموية - عن طريق ألمانيا، مارا بالقسطنطينية، وبآسیا الصغرى بحيث يصبح البحر الأبيض المتوسط كله عبارة عن بحر متوسط للمملكة الإسلامية يربط مواصلات بعضها مع بعض، ويجعل مخترقه لتلك الأرض طريقا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من الشرق وإليه على البر ولا يركبون بحرا، وقد ثني الخليفة الوليد - 86 ه - 96 ه موسى عن مقصده فلم يتم مشروعه الخطير بسبب خوفه على المسلمين الهلكة والضياع في هذه الديار البعيدة المنقطعة، «فلعل الأغالبة قد جال بأذهانهم فكرة إحياء هذا المشروع من جديد فيتحقق على أيديهم اليوم ما فات أسلافهم بالأمس.

هذا احتمال فرضي، لكن يبدو لنا أن أهم الأسباب هو الرغبة في القضاء على قوة الامبراطورية البيزنطية في هذه النواحي من مياه البحر الأبيض المتوسط

حتی تأمن الدولة الناشئة من غارات الأساطيل الصقلية البيزنطية على سواحلها وثغورها بإفريقية، وحتى تتفرغ لتنظيم شئون إماراتها الداخلية، وتستخدم جهود قواتها في تأمين بلادها الأصلية.

وهناك سبب يأتي كذلك في المرتبة الأولى وهو: أن دولة الأغالبة كانت في حاجة إلى موارد جديدة تسد بها بعض النقص في إنتاجها المحلي، وفي حاجة ايضا إلى تبادل المتاجر والسلع، وانشاء علاقات تجارية مع بلد آخر لتحسين حالة التجارة والانتاج في البلاد، وإنعاش الحالة الاقتصادية بوجه عام، فلم يجدوا في نظرهم - وهو طبيعي - غير صقلية لتحقيق هذا الأمل، تلك الجزيرة الكبيرة الغنية بمواردها وغلاتها، والممتازة بموقعها القريب من أوربة وإفريقية مما يسهل معه تبادل التجارة مع أوربة الوسطى وثغورها الجنوبية، فكانوا ينتظرون هذا اليوم الموعود للوثوب نحوها، وكانوا قد بدأوا يتحرشون بها منذ عهد أميرهم الأول (إبراهيم بن الأغلب )، وقد شعر حاكم الجزيرة إذ ذاك بالخطر الذي يهدد جزيرته من ناحية الدولة الجديدة الطموحة فعقد معاهدة مع الأمير إبراهيم سنة 190 ه (805م)  لمدة عشر سنوات، وتجددت هذه المعاهدة على عهد ابنه أبي العباس عبد الله سنة 198 ه (813 م)  لمدة عشر سنوات أيضا، ولكن زيادة الله الأول - الذي تولى سنة 204 ه 819 م - لم يقرها وغزاها ابن عمه الأمير محمد، ثم تجدد السلم مرة أخرى.

ومهما يكن من شيء فقد وقعت الحرب الأهلية في الجزيرة ووثب الثوار حوالي سنة 210 (825 م)  علی حاکم الجزيرة (جريجوراس) وهزموه ثم قتلوه، وفي سنة 211 ه (826م)  جاء الحاكم الجديد (قسطنطين) على رأس قوة جديدة، وكان مصيره کسلفه حيث أسر وقتل، ومع ذلك فقد نجحت حركة مقاومة كان زعيمها رجل أرمني يدعى (بلاطة)  كانت نتيجتها هرب قائد الأسطول الثائر (فیمي)  إلى إفريقية لا ليجد ملجأ هناك، ولكن ليطلب العون من أميرها العربي.

3 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً