قادة فتح البحارمقالات

اللواء الركن محمود شيت خطاب عضو المجمع العلمي العراقي

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي– السنة الثانية - العدد 24 – ذوالحجة 1386هـ - مارس 1967م – الصفحة 74

 

عَبد الله بن قيس الحارثي أمير

البحر الأول في صدر الإسلام

 وأوّل مَن غزا جزيرة صقَليَّة

   

إسلامه:

أدرك عبد الله بن قيس الحارثي النبي صلی الله عليه وسلم، فأسلم في أيامه، ولم تكن له صحبة ولا جهاد تحت لواء الرسول القائد صلوات الله وتسليمه عليه.

جهاده:

استأذن معاوية بن أبي سفیان عمر بن الخطاب في غزو البحر، فلم يأذن له، فلما ولي عثمان بن عفان لم يزل به معاوية حتى عزم عثمان على ذلك، وقال: «لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم خيرهم، فمن اختار الغزو طائعا، فاحمله وأعنه، ففعل معاوية، واستعمل عبد الله بن قيس الحارثي حليف بني نزارة على البحر، فغزا المسلمون (قبرس) سنة سبع وعشرين هجرية، وفتحوها.

وكان عبدالله أول من غزا البحر سنة سبع وعشرين الهجرية، وكان معاوية بن أبي سفيان يرسله في غزو البحر، فغزا خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده وألا يبتليه بمصاب أحد من رجاله.

وفي سنة ست وثلاثين الهجرية بعث معاوية بن حديج السکونی. عبد الله بن قیس لغزو (صقلية)، فأصاب أصناما من ذهب وفضة مكللة بجوهر، وقد وجه معاوية بن حديج جيش عبد الله بن قيس في مائتي مرکب، فكان عبد الله بن قيس أول من غزا (صقلية) من العرب المسلمين، فسبوا وغنموا وأقاموا شهرا ثم انصرفوا.

وأخيرا استشهد عبد الله في إحدی جزر الروم، فقد خرج طليعة في قارب، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم وعليه مساكين يسألون، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة منهم إلى قريتها، فقالت للرجال «هذا عبد الله بن قيس في المرفأ»، فثاروا إليه وهجموا عليه، فقتلوه بعد أن قاتلهم، فأصيب وحده ونجا الملاح حتى أتى أصحابه، فأعلمهم باستشهاد عبد الله بن قیس.

 

الإنسان:

استشهد عبد الله بن قیس سنة ثلاث وخمسين الهجرية (6۷۳ م) أو سنة أربع وخمسين الهجرية فطويت باستشهاده أروع صفحات البطولة والرجولة والفداء. 

قيل للمرأة التي استثارت رجال الروم على عبد الله بن قيس. «کیف عرفته ؟.» فقالت: «كان كالتاجر، فلما سألته أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس».

وقالت ((عرفته بصدقته. أعطى كما يعطى الملوك، ولم يقبض قبض التجار)) (3).

لقد كان كريما سخيا، صادقا وفيا، نقيا تقيا، وكان مفخرة من مفاخر العرب المسلمين ولا يزال، وسيبقى مفخرة من مفاخرهم إلى الأبد.

القائد:

البطولات الفذة النادرة التي أظهرها المسلمون الأولون في معارك الفتح الإسلامي العظيم، كانت ولا تزال وستبقى مثار إعجاب العالم كله على اختلاف أممه وأديانه وأجناسه.

وإذا كان العرب المسلمون الذين استهانوا بالموت لإعلاء كلمة الله في (البر) مثار إعجاب الناس كلهم، فإن البطولات التي أبدوها في (البحر) تبهر العقول والقلوب معا، لأن العرب أمة برية، ومجال إقدامهم البر لا البحر.

أما أن يبدوا بطولات في البحر، لا تقل روعة وجلالا، وتضحية وفداء، عن بطولاتهم في البر، فهذا هو موطن دهشة الأمم كافة وإعجابها.

وإذا كان كثير من العرب المسلمين قد بذلوا أرواحهم رخيصة في البحر، وهو مجال غير مجالهم الطبيعي، فإن على رأس أبطالهم دون شك ولا منازع، هو عبد الله بن قیس الحارثي.

لقد قضى عبد الله حياته كلها مجاهدا في البحر غازيا جزر البحر الأبيض المتوسط وسواحل أرض الروم صيفا وشتاء بدون انقطاع. غزا خمسين غزوة بحرية، فإذا غزا كل صيف وكل شتاء من كل عام بعد سنة سبع وعشرين الهجرية، وهي السنة التي بدأ فيها غزو البحر، فقد غزا تلك الغزوات خلال خمس وعشرين سنة، أي أنه لم يستريح عاما واحدا ولا فصلا واحدا من عام واحد،، حتى استشهد مجاهدا في البحر، وهذا منتهى الحرص على الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.

إن مجرد اقدام عبد الله على غزو البحر - وهو ابن الصحراء - دليل قاطع على شجاعته النادرة وإقدامه الفذ.

كما أن دراسة معارکه البحرية، تكشف عن صبره الجميل على شدائد البحر ومخاطره وأهواله الحربية.

حين استشهد عبد الله وعاد الملاح الذي كان برفقته إلى أصحابه بالنعي، جاء رجاله حتى نزلوا المرفأ وعليهم سفیان بن عوف الأزدي خليفة عبد الله فخرج سفيان على الروم وقاتلهم، ولكنه ضجر وجعل يشتم أصحابه، فقالت جارية عبد الله لسفیان. «ما هكذا كان يقول عبد الله وهو يقاتل» فقال سفيان:

وكيف كان يقول ؟.. فقالت: «الغمرات ثم ينجلينا، فترك سفيان ما كان يقول، ولزم. «الغمرات ثم ينجلینا». وقد أصيب من المسلمين يومئذ، وقتل سفيان، وقتل معه جماعة.

«والغمرات ثم ينجلینا»، مثل يضرب في الصبر على احتمال الشدائد أملا في انفراجها.

وعلى الرغم من عظم خطورة البحر وشدته، وعلى الرغم من كثرة غزوات عبد الله في البحر، فإنه لم يغرق أحد من رجاله ولم ينكب، وهذا دليل على شدة حرص عبد الله على الأرواح، أن كان يستأثر بالأخطار دون أصحابه، ويستطلع أخبار العدو ونیاته ومسالکه بنفسه، كان دائما في الأمام قريبا من الأخطار حماية لرجاله ووقاية لهم، وقد دفع في آخر محاولاته الاستطلاعية روحه الغالية ثمنا لاستئثاره بالأخطار دون رجاله حماية لهم وحرصا على أرواحهم.

لقد بذل ابن قيس كل ما يمكن أن يبذله القائد القوي الأمين من جهود للحفاظ على سلامة جنوده، فكان عمله هذا مثالا رائعا في تاريخ الحرب كله القائد الذي يضحي حتى بنفسه فداء لرجاله.

من الطبيعي - بعد كل ذلك، أن يكون عبد الله، موضع ثقة أصحابه وتقديرهم، وموضع حبهم وإعجابهم.

وكان شجاعا مقداما إلى حد المغامرة، ذکیاً ألمعيا، يخطط لمعاركه بدقة وإتقان، ويهيء كل الأسباب لنجاحه في القتال، باستطلاعاته المستمرة وخططه الصائبة وقراراته الموفقة.

وكان ذا شخصية قوية مسيطرة، وبذلك انتصر في كل معركة خاضها، إذ إن طبيعة المعارك البحرية بما فيها من أخطار جسيمة، تقتضى من القائد الناجح أن يكون مسيطرا على رجاله، ومن رجاله أن يكونوا متحلين بالضبط المتين.

وكان يطبق مبادىء الحرب في معارکه، معارکُهُ كلها ۔ (تعرُّضية)، وهو (يباغت) عدوه في وقت ومکان وبأسلوب لا يتوقعها، وخططه (مرنة)، لا يتخلى عن (الأمن) فيها، ولا ينسی تأمين (القضايا الإدارية) ولا (آدامة المعنويات) قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها. لقد كان عبد الله بن قيس قائدا فذا.

 

ابن قيس في التاريخ:

يذكر التاريخ لابن قيس أنه من المؤسسين الأولين للأسطول العربي الإسلامي.

ويذكر له، أنه أول أمير للبحر في صدر الإسلام من العرب المسلمين.

ويذكر له، أنه من أكثر قادة المسلمين في الأيام الذهبية للفتح الإسلامي غزوا للبحر.

ويذكر له، أنه أول من وطيء أرض (صقلية) من المسلمين، وأول من هاجم أكثر جزر البحر الأبيض المتوسط وسواحل أرض الروم."

ويذكر له، أنه كان من أوائل من نشر الإسلام دينا والعربية لغة في جزر البحر وفي سواحل بلاد الروم.

ويذكر له، أنه قدم حياته رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الحق.

ويذكر له، أن الفتح الإسلامي - من بعده - في البحر تعثر بعقبات كأداء، استطاع هو بمقدرته وشجاعته وتضحيته اجتيازها بسهولة ويسر.

ويذكر له، أن استشهاده كان خسارة كبرى للمسلمين عامة، ولم يكن خسارة خاصة به وبأهله وذويه.

رضي الله عن البطل البحري، أمير البحر الأول، ورائد الأسطول الإسلامي الأول، القائد الفاتح، البطل الشهيد عبد الله بن قيس الحارثي.