الحضارة الإسلامية في إسبانيامقالات

ساففيت هاليلوفيتش

مترجم عن اللغة الإنجليزية

 

الحضارة الإسلامية في إسبانيا[1]

ساففيت هاليلوفيتش[2]

 

قبل حوالي 14 قرناً، أسس النبي محمد صلى الله عليه وسلم -في المدينة المنورة- دولة إسلامية مهيبة مثالية ذات كيان قوي ورؤية سديدة متكاملة من جميع النواحي، وعلى رأسه الجانب السياسي والعسكري وصولاً إلى الاجتماعي والاقتصادي وانتهاءاً بالعلمي والحضاري، وقد أولت هذه الدولة الإسلامية الاهتمام بالعلوم المدنية إلى جانب العلوم الدينية فشكلت حضارة متوازنة تمزج بين العقل والروح حتى امتازت عن كثير من الحضارات السابقة والتي كانت عبارة عن مجرد إمبراطوريات ليس لها أساس ولا مرجعية. إذ أن من أهم ما يميز الحضارة الإسلامية أنها ربطت الدنيا بالآخرة، ووصلت الأرض بالسماء، وجعلت البشر أقرب إلى الله جل وعلا، وربطت المادة بالروح، وحققت التوازن بين العقل والقلب، وخلقت صلة بين العلم والإيمان، ولم تفصل بينهما على النقيض من الحضارات الأخرى التي أعطت الأهمية المطلقة للجانب المادي من الحياة على حساب الجانب الروحي، فهدفها الوحيد هو تلبية الاحتياجات الجسدية والغرائز البشرية، وتجاهل حياة الآخرة، والحساب، والجنة، والنار.

ومن السمات المميزة الأخرى للحضارة الإسلامية أنها تنشر روح العدل والتجرد والتسامح بين البشر، والنتيجة هي تَنَعُّم الناس -من مختلف المعتقدات والأديان والخلفيات- بالعيش في أمان وسلام واحترام متبادل مع المسلمين. وكذلك سمح المسلمون ببناء الكنائس والمعابد اليهودية بجانب المساجد في الأراضي التي كان يحكمها المسلمون، هذا ينبع في المقام الأول من وصايا الإسلام النبيلة التي بموجبها لا يجبر أحد على التحول عن دينه ومعتقداته حيث أن حرية الدين مكفولة في النظام الإسلامي.

ومما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية تركت بصمة تاريخية ساحرة في إسبانيا عموماً وفي الأندلس خصوصاً من خلال مساهمات المسلمين في ميادين الفنون والعلوم والعمارة، وإن المناخ الثقافي لإسبانيا في عهد الحكم الإسلامي (711-1492) أدى إلى ازدهار مختلف جوانب العلم والثقافة. وقد تم إنشاء العديد من المدارس والمكتبات، وازدهرت طباعة الكتب بسبب قدرة غالبية الناس على القراءة والكتابة، كما ازدهر الأدب والفن، وظهر العديد من الشعراء والكتاب، ولم يقتصر التبادُل المعرفي على انتقال العُلماء واستقرارهم في بلاد الأندلس بل تعدّاه من خلال انتقال نِتاجهم المَعرفي عبر المؤلّفات والكُتب. فقد بذل الأندلسيّون جهوداً سخيّة في جمْع الكُتب كما سبق ذكره. وازدهرت بشكلٍ كبيرٍ حركات النقل والترجمة من اللّغة العربيّة وإليها، وتأسَّست مدارس متخصّصة في الترجمة. وكان للمُستعربين دورٌ رئيس في ترجمة الكُتب العربيّة إلى اللّاتنينيّة والعبريّة لتُصبح في متناول المدارس التابعة للكاتدرائيّات والكنائس وعبرها انتقلت إلى سائر أنحاء أوروبا. كما تم تشييد المباني بطراز إسلامي خاص ذاع صيته في أنحاء العالم وأدى ذلك لتصبح قرطبة عاصمة الحضارة في كل من إسبانيا والغرب بشكل عام. وتم إنشاء العديد من المدارس فيها، منها مدارس طبية وفنية بالإضافة إلى التعليم العام والمدارس المهنية الأخرى. وتم تشييد العديد من المستشفيات الكبيرة بإمكانات عالية، كما تم إنشاء المصانع الكيماوية من أجل ازدهار الصناعة.

 

كان جامع قرطبة الذي بناه عبد الرحمن الداخل في القرن الثامن الميلادي أحد أبرز المعالم لمدينةٍ إسلاميةٍ عريقة ظلت عنوان العلم والمعرفة في العالم كله لقرون، وكان يضم نحو 27 مدرسة يدرس فيها أكثر من أربعة آلاف عالم وطالب علم في مختلف التخصصات كالطب والصيدلة والكيمياء وعلم الفلك والرياضيات وعلم النبات والفلسفة والترجمة، وتخرج منه عدد كبير من العلماء. فقد كانت قرطبة أيقونة الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي بُنيت بسواعد المسلمين على أرضٍ زالت فيها الفروقات بين الوافد والمعاهِد (الإسبانيّ)، وامتزجت الدماء، واختلطت الأعراق، وتلاقحت الثقافات، فأثمرت مزيجاً ثقافيّاً غير مسبوقٍ ونهضةً علميّة ما فتئ صداها يتردّد في أرجاء المعمورة.

لم تقتصر هذه الحركة العلمية والحضارية على قرطبة وحدها، بل امتدت أيضًا إلى مدن إسبانيا الأخرى مثل غرناطة وطليطلة ومدن أخرى تحت الحكم الإسلامي. وتشير المصادر التاريخية ذات الصلة إلى أن الشباب الأوروبي على وجه الخصوص من إيطاليا وفرنسا، كانوا يتنافسون على التسجيل في الجامعات الإسلامية في الأندلس. ومن طلبة الجامعة في قرطبة (جيربرت)، الذي أصبح فيما بعد يعرف بالبابا سيلفستر الثاني، وهو الذي قام بتقديم علم الرياضيات والأرقام العربية في إيطاليا. كما وذكرت المصادر التاريخية أن أوروبا كانت على دراية بمخطوطات أرسطو عبر مدينة توليدو التي كانت مركزًا نشطًا لأعمال الترجمة من العربية إلى اللاتينية، كأعمال أفلاطون وجالينوس الفلسفية، بالإضافة إلى أعمال ابن سينا ​​والفارابي وابن طفيل وابن باجة وابن رشد. انتشرت هذه المخطوطات بسرعة في جميع أنحاء أوروبا وأصبحت أدبًا إلزاميًا في الجامعات الأوروبية الكبيرة. ويعتبر كتاب ابن سينا القانون في الطب المرجع الأساسي في دراسات الطب في أوروبا لما يقرب من ستة قرون وكان يسمى بقانون الطب.

 

[1] الترجمة نقل دقيق لمحتوى المقالة ولا يعني ذلك بالضرورة الموافقة على آراء الكاتب. يمكنكم الوصول إلى المقالة عبر الرابط التالي: http://www.psychiatria-danubina.com/UserDocsImages/pdf/dnb_vol29_noSuppl%201/dnb_vol29_noSuppl%201_64.pdf

[2] كلية التربية الإسلامية - جامعة زينيتشا - البوسنة والهرسك