المصدر: شبكة الألوكة 29/ 5/ 2014م، نقلًا عن مجلة قراءات إفريقية.
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
النيجر والعهد بالإسلام:
إن النيجر التي تغطي مساحتها 1,267,000كم مربع، وبكثافة سكانية تقرب من 11 مليون نسمة تعتبر من الدول التي وصلها الإسلام في وقت مبكر جداً، منذ القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، على يد التابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري عام 46هـ الموافق 666م، حيث توغل في الصحراء الكبرى بعد فتحه لمنطقة فزّان - في ليبيا - ثم تابع فتوحاته الإسلامية نحو الجنوب حتى وصل إلى منطقة كوار (KAWAR) الواقعة في الطرف الشمالي الشرقي للنيجر - وهي تحمل نفس الاسم حتى اليوم - في محافظة بِلْمَا (BILMA) بمنطقة أغاديس، ففتحها ودخل أهلها في الإسلام، ثم رجع إلى عدامس[1]. كان ذلك أول عهد بلاد النيجر بالإسلام.
ويرى بعض الباحثين أن النيجر عرفت الإسلام عن طريق التجار العرب الذين كانوا يفدون إليها من شمال أفريقيا للتجارة والدعوة، وقد كانت للعرب علاقات تجارية مع سكان المنطقة قبل ظهور الإسلام، واستقرت بعض القبائل العربية في المنطقة، وخاصة منطقة آيير (AIR)، وكان لهذين الأمرين إسهام فعال في نشر الإسلام فيما بعد. وهناك من يرى أن الإسلام إنما دخل المنطقة عن طريق فتح المرابطين للمنطقة في عام 460هـ 1076م بعد إسقاطهم لمملكة غانة شبه الوثنية، وهو رأي يحتاج إلى مناقشة؛ لوجود أدلة تثبت وجود الإسلام في المنطقة قبل فتح المرابطين، ومنه ما ذكره البكري[2] عن عاصمة غانة كومبي صالح: " ومدينة غانة مدينتان سهليتان إحداهما المدينة التي سكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة وفيها اثنا عشر مسجداً أحدها تقام فيه الجمعة، ولها الأئمة والمؤذنون والراتبون وفيها فقهاء وحملة علم...، وفي مدينة الملك مسجد يصلى فيه من يفد عليه من المسلمين على مقربة من مجلس حكم الملك".
وأضاف البكري أيضاً: "فأهل التكرور اليوم مسلمون... أسلموا على يدي وارجابي بن رابيس الذي أسلم وأقام عندهم شرائع الإسلام، وحملهم عليها، وتوفي وارجابي سنة 432هـ[3]. هذا الرأي كذلك غير مقبول؛ فليس يعقل أن يدخل الإسلام في الجزء الشرقي من المنطقة منذ القرن الأول الهجري ولا يصل إلى غربها إلا في القرن الخامس الهجري، مع أن التجار المسلمين كانوا يجوبون المنطقة للتجارة والدعوة. يمكن القول أن الإسلام كان موجوداً قبل فتح المرابطين، ولكنه لم يزدهر ولم تقم له دولة إلا بعد فتح المرابطين الذين أسقطوا دولة غانة التي كانت تحت حكام غير مسلمين، وأقاموا على أنقاضها دولة مالي الإسلامية التي حكمت بعض أجزاء من غرب النيجر، ثم مملكة سنغي التي وصلت إلى أغاديس وكانز.
وبدخول الإسلام إلى النيجر وانتشاره المبكر دخلت اللغة العربية البلاد وأخذت في الانتشار.
ماضي اللغة العربية وحاضرها في النيجر:
أولاً: ماضي اللغة العربية في النيجر:
نقصد بالماضي الفترة من قيام دولة مالي الإسلامية وحتى دخول الاستعمار الفرنسي البلاد ووجوده إلى عام 1957م، حين تم افتتاح المدرسة العربية النظامية الأولى في مدينة ساي. وسوف نتطرق بإيجاز شديد للدولة التي شملت أجزاء من النيجر في أوج توسعها، وذكر العلماء ومراكز العلم فيها، ثم عهد الاستعمار وأهم المراكز فيه والعلماء آنذاك.
دولة مالي الإسلامية (غرب النيجر ):
قامت دولة مالي الإسلامية عام 638هـ - 1240م، وضمت أجزاءً من غرب النيجر، وخاصة في عهد سلطانها موسى كنكن الذي قام بجهود كبيرة في خدمة الدعوة ونشر العلم، من ذلك: استقدامه بعض العلماء معه بعد رحلة قام بها للحج مثل الشيخ إبراهيم الساحلي والقاضي عبد الرحمن التميمي والشيخ عبد الله البلبالي، وجلبه كتباً كثيرة من الحرمين ومصر. لقد نمت وازدهرت في عهد السلطان موسى الثقافة العربية والإسلامية، واشتهرت بعض المدن بوصفها مراكز للعلم، مثل: نياني العاصمة وتنبكت وجني وغاو. وتوافد على هذه المدن العلماء وطلاب العلم من داخل المملكة وخارجها، كماكان السلاطين يبتعثون الطلاب إلى مراكز الشمال الإفريقي والمغرب للدراسة، وقد بعث السلطان موسى كنكن بكاتبه إلى فاس بالمغرب للدراسة[4]، وبعد رجوعه أسند إليه إمامة الجامع الكبير بمدينة تنبكت، وظل إمامه أربعين سنة. كانت اللغة العربية هي لغة الثقافة والتعامل التجاري ودواوين الدولة، غير أن العامة كانوا يتحدثون باللغات المحلية، وكان الآباء يهتمون بتعليم أبنائهم القرآن اهتماماً بالغا [5].
اهتم سلاطين مالي بنشر الإسلام ولغته وأسسوا مراكز كثيرة للتعليم مثل: أغاديس (AGADEZ) وتغيدا (TIGEDDA) في النيجر وانْدُنْغا (INDOUNGA) التي كان أسكيا محمد يرسل إليها التلاميذ لحفظ القرآن الكريم، وقد اشتهرت الدولة بعلماء كبار في مجال العلوم الشرعية واللغوية والاجتماعية، وصلتنا مؤلفات بعضهم مثل: الشيخ أحمد بابا العالم المشهور، ومن مؤلفاته: (نيل الابتهاج بتطريز الديباج )، وهو كتاب مهم جداً في تراجم علماء المنطقة وعلماء شمال إفريقيا والمغرب وملامح الحياة الاجتماعية والعلمية في المنطقة، ومنهم محمود كعت صاحب (تاريخ الفتاش)، وكان معاصراً لأسكيا محمد توري وصاحبه في رحلته إلى الحج، وكتابه مرجع مهم في تاريخ المنطقة في عهد إمبراطورية سنغي، والشيخ عبد الرحمن السعدي صاحب (تاريخ السودان )، والشيخ أحمد بعغيغ الذي يلقب بشيخ الإسلام.
وممن وفد إلى سنغي في عهد أسكيا محمد:
• الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي، الذي استفتاه أسكيا محمد في عدة مسائل دينية وسياسية، وقد قام الشيخ محمد عبد الكريم بجهود كبيرة في تأسيس المدارس القرآنية في مدينة تغيدا.
• الشيخ العاقب بن عبد الله التغداوي الأغدسي، وله مؤلفات عدة، منها: كتاب: (أجوبة الفقير عن أسئلة الأمير)، ويقصد بالأمير (أسكيا محمد)، وهي أجوبة عن أسئلة وجهها له الأمير وهو ما يدل على مكانته العلمية، وله كتاب: (وجوب الجمعة بقرية أنو سمان) في قرى تغديا -؛ حيث أنكر بعض الناس إقامة الجمعة في قريته لقلة سكانها فألف الرسالة في الرد عليهم[6].
• الشيخ شمس الدين بن النجيب التجداوي الأنوسماني، وقد وصفه الشيخ أحمد بابا بقوله:" أحد شيوخ عصره معه فقه وصلاح شرح مختصر خليل بشرحين: كبير في أربعة أسفار، وصغير في سفرين، وله أيضاً تعليق على المعجزات الكبرى للسيوطي"[7]، وقد استقر الشيخ شمس الدين في أغاديس إلى أن توفي فيها.
دولة البرنو الإسلامية (شرق النيجر ):
شهد شرق النيجر قيام دولة البرنو الإسلامية التي كانت تضم منطقة زندر وما جاورها، ومن علمائها: الشيخ أحمد بن فرتو المعاصر للماي إدريس ألوما أشهر مايات الدولة 699/717هـ، وتعتبر مؤلفات الشيخ أحمد من المراجع الأساسية لتاريخ برنو، وخاصة فترة إدريس ألوما، ومنهم الشيخ عمر بن عثمان العالم واسع الاطلاع، وكان متقناً لعلوم اللغة العربية والبلاغة والشريعة والتوحيد فضلاً عن القرآن والحديث[8].
كانت مدارس القرآن الكريم والحلقات العلمية منتشرة في مملكة البرنو، وهذا ما لفت نظر بعض الرحالة الأوروبيين في عاصمة البرنو كَوكَو حيث قال: " ونالت كوكه المدرسة العليا الممتازة، ويدرس فيها قرابة مائتين إلى ثلاثمائة من الشباب"[9].
عندما قامت خلافة الشيخ عثمان بن فوديو في المنطقة في القرن التاسع عشر الميلادي، أولت اللغة العربية وآدبها والعلوم الشرعية اهتماماً كبيراً ساعد على ازدهارها وانتشارها، بصورة لم تشهدها في الدولة الإسلامية السابقة؛ وذلك لأن الدولة في خلافة صكتو أسسها العلماء وكان هدفهم إصلاح العادات والتقاليد المخالفة للإسلام في منطقة إمارات الهوسا؛ فلذلك اهتم علماؤها بالتأليف أكثر من غيرهم، واهتموا باللغة العربية فتعلموها وأتقنوها غاية الإتقان حتى ظهر منهم الأدباء والخطباء والشعراء، ومن أحسن ما يمكن أن يستشهد به المرء من أشعارهم القيمة جيمية الشيخ عبد الله بن فوديو في مدح شيخه جبريل بن عمر الأغدسي مؤسس الحركة الإصلاحية في المنطقة والذي يلقب بشيخ الإسلام في السودان الغربي، وهو أستاذ للشيخ عثمان بن فوديو وأخيه عبد الله، درسا عليه في مدينة أغاديس، وتوفي في منطقة تاوا بعدما أخرجه الطوارق من أغاديس لأفكاره الإصلاحية - رحمه الله تعالى -، والقصيدة على نهج القدماء استهلها بالبكاء على الأطلال والتصريع، ثم انتقل إلى مدح شيخه جبريل ومنه:
جبريل من جبر الإله به لنا = دينا حنيفا مستقيم المنهج[10]
وافى وحزب ضلالة في تلعة = والدين في وهد كشيء بهرج
فأزاح عنه حنادس الأعلاج من = عاداتهم وكساه حلة زبرج
لم يخش في إظهار دين الله من = مستهزئ أو لائم متمجمج
وللشيخ عبد الله بن فوديو مؤلفات أخرى في الصرف والنحو والبلاغة والتفسير.
كانت صكتو (SOKOTO) العاصمة، وكانو (KANO)، وزندر (ZINDER)، وغيرها من المدن مراكز علم يقصدها طلاب العلم من أرجاء المنطقة.
إمارات وسلطنات شمال النيجر:
في شمال النيجر قامت عدة إمارات وسلطنات طوارقية وعربية، وكانت لها إسهامات أدبية ولغوية. ومن علمائها المشهورين: الشيخ جبريل بن عمر الذي سبق ذكره، والشيخ حَدَاحِدَا، الذي قام بحركة إصلاحية في منطقة أزواغ (AZAWAG)، وكان متشدداً في الأمور.
كماكان لقبيلة كنتة العربية دور هام في حفظ اللغة العربية دراسة وتدريساً في شمال تاوا ومالي، ومن أشهر علمائها: الشيخ سيدي المختار الكبير، وابنه محمد، والشيخ باي بن سيدي عمر الكنتي، وغيرهم، وقد تركوا لنا مؤلفات عدة في العلوم الشرعية واللغوية. وظلت العلاقات الثقافية تربط علماء المنطقة بحكام صكتو، وكانت بينهم مراسلات علمية كثيرة.
فترة الاستعمار:
بدأ الاستعمار الفرنسي لبلاد النيجر في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت مقدَّمَته البعثات الاستكشافية الأوربية للمنطقة بذريعة استكشاف منبع نهر النيجر ومصبه، مثل: بعثة مغو بارك، وبعثة كلابرتون وبارث، ولقد زادت نتائج هذه البعثات الاستكشافية من مطامع الحكومات الأروبية في المنطقة؛ فنظمت حملات عسكرية لاحتلال البلاد، وتمكنت بعد معارك عدة وإراقة دماء كثيرة بين الجانبين من السيطرة على البلاد كاملة عام 1919م.
وجد الاستعمار أن اللغة العربية هي لغة التعامل والثقافة، الأمر الذي اضطره إلى استعمالها في بداية سيطرته على البلاد، وذلك في المراسلات وعقد الاتفاقيات بين السلطات المحلية وسلطات الاستعمار[11].
كانت بعض مدن النيجر تمثل مراكز لتعليم الدين الإسلامي واللغة العربية في البلاد كما تقدم، مثل: مدينة ساي، وزندر، وأغاديس، ومنطقة أزواغ وآير، وسيندر في عهد الشيخ يوسف خليل؛ وقد برز في تلك المدن علماء كثيرون، مثل: الشيخ حسن سليمان في زندر، وباي الكنتي في أزواغ. ولما هيمن الاستعمار على البلاد كان للعربية والتعليم شيوع في المجتمع؛ حيث بلغ عدد المدارس القرآنية في النيجر سنة 1914م حوالي 932 مدرسة، وبلغ عدد التلاميذ 4213 تلميذاً، وفي سنة 1920 بلغ عدد المدارس 970 مدرسة، وعدد التلاميذ 4321 تلميذاً (39)[12]. أخذ الاستعمار يعمل على محاربة اللغة العربية بحجة أنها من أسباب عرقلة حكام المناطق من الفرنسيين، وقد أشار إلى ذلك حاكم عام فرنسا بإفريقيا الغربية (1908 - 1911م) وليام بونتي في المرسوم الذي أصدره يوم 8/5/1911م، وهو موجه إلى حكام المستعمرات التابعة له كالنيجر والسنغال: " لقد أثار انتباهي ما يحدث من عراقيل بسبب استعمال اللغة العربية الذي يمكن أن يقال: إنه - منتظم - في تحرير الأحكام الصادرة عن القضاء الأهلي، وفي المراسلات الرسمية مع الرؤساء والأعيان، وفي كل ظروف الحياة الإدارية تقريباً.. وهي اللغة المقدسة في نظر السود"[13]. وانطلاقاً من هذه الفكرة كثفت السلطات الاستعمارية جهودها في مكافحة اللغة العربية في النيجر وفي غيرها من المستعمرات الفرنسية ذات الأغلبية الإسلامية في غرب إفريقية، واستخدمت لذلك عدة وسائل منها:
1- فرض قيود صارمة على استيراد الكتب العربية من البلدان الإسلامية، ومنها منع الحجاج من جلب الكتب الدينية والعربية معهم عند رجوعهم من الحج.
2- منع افتتاح المدارس العربية إلا بعد الحصول على إذن من السلطات، مع التشديد في شروط الحصول عليه.
3- إحصاء كتب العلماء بغرض حصرها وفرض الرقابة عليها، مثل ما فعلوا مع الشيخين: حسن سليمان، وأحمد كيار في مدينة زندر[14].
4- حصر المدارس القرآنية ومدرسيها في طول البلاد وعرضها.
إن هذه السياسات والإجراءات التي اتبعها المستعمر لمحاربة اللغة العربية والقضاء عليها في النيجر لم توهن عزائم علماء العربية وطلابها في النيجر وغيرها، بل زادتهم حرصاً على المحافظة على الإسلام ولغته.
مقررات الحلقات العلمية في العلوم الإسلامية والعربية:
يجدر بنا أن نذكر بعض الكتب المقررة في الحلقات العلمية في النيجر في تلك الفترة، وهي التي كانت مقررة من قبل، ولا تزال تدرس حتى اليوم في الحلقات.
مقررات العلوم الشرعية:
في العلوم الشرعية كانوا يبدأون بمتون الفقه المالكي؛ إذ هو المذهب السائد في المنطقة فيبدأون بمتن الأخضري، ثم العشماوي، ثم العزية، ثم الرسالة، ثم العسكر، فرسالة مختصر خليل. هذا في مجال النثر. وفي المنظومات الفقهيةكانوا يبدأون بمنظومة القرطبي، ثم ابن عاشر، ثم ابن رشد، ثم مصباح السالك، ثم تحفة الأحكام. كما كانوا يدرسون إلى جانب كتب الفقه كتب الحديث الشريف، وتفسير الجلالين.
مقررات علوم اللغة العربية:
كانت مقررات علوم اللغة العربية تختلف باختلاف مناطق البلاد، فمثلاً نجد المناطق الصحراوية تولي النحو والصرف اهتماماً أكثر من غيرها، فيبدأون في النحو والصرف بملحة الإعراب والآجرومية، وقطر الندى، ثم ينتقلون بعدها إلى ألفية ابن مالك، والكافية الشافية لابن الحاجب، وقد يزيدون جمع الجوامع للسيوطي. أما في الأدب فنجد من الكتب المقررة آنذاك: مقصورة ابن دريد، والعشرينات، والدالية، والشعراء الجاهليين. كما كان للقصائد الجاهلية عندهم منزلة واهتمام كبير، وقد أشار محققها الشيخ مصطفى الشقا في مقدمة تحقيقه إلى أن السبب الرئيسي في تحقيقه لقصائد الشعراء الجاهليين هو رغبة طلاب العلم في إفريقية الغربية أن يخرج لهم طبعة منها، وأرسلوا إليه نسختين منها وذلك في عام 1929م، وعلى النسختين تعليقات تشرح بعض الكلمات. وفي مجال النثر الأدبي لا نجد عندهم إلا مقامات الحريري. ثم إنه من الملفت للنظر أن المقررات الأدبية وبخاصة الشعر تكاد تنحصر في الشعر الجاهلي، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نجد لشعر العصور الأدبية المزدهرة وشعرائها وجوداً، مثل: شعراء العصر الأموي، كالفرزدق وجرير، أو العصر العباسي، مثل: على بن الجهم وأبي تمام والبحتري وغيرهم، ولعل السبب في ذلك عدم وصول أشعارهم إليهم. وفي البلاغة التي كانت تدرس في بعض الحلقات الشمالية، نجد عندهم: عقود الجمان للسيوطي، والجوهر المكنون للأخضري.
وأما علماء تلك الفترة فقد كانوا على قسمين:
القسم الأول: العلماء الذين درَّسوا قبل مجيء الاستعمار، واستمر بعضهم في التدريس في فترة الاستعمار، ومنهم من جاهد بسيفه وقاوم الاستعمار بكل بسالة حتى استشهد كالشيخ شعيب الضرير في منطقة جنوب دوسو الذي قاتل حتى قتل شهيداً، والشيخ محمد كاوسن ذلك العالم المجاهد الذي اشتهر عند بعض الناس بجهاده، ولم يشتهر جانبه العلمي والديني، فكاوسن كان عالماً قبل أن يكون قائداً للمقاومة، وقد ولد في منطقة دَمَرْغُو، ونشأ فيها ثم رحل إلى شمال تشاد وجنوب ليبيا لطلب العلم، ولازم الشيخ أحمد الشريف السنوسي، والشيخ محمد العابد الذي عينه قائداً لقواته لمواجهة تقدم الفرنسين في شمال تشاد، واستطاع الشيخ كاوسن دحر القوات الفرنسية في معارك عدة، وواصل سيره حتى دخل مدينة أغاديس واستردها من الفرنسيين.
قتل الشيخ محمد كاوسن في 15/01/1919م على أيدي بعض خصومه في ليبيا، وترك رسائل عدة باللغة العربية كان قد أرسلها إلى زعماء الطوارق وأسرته يبين لهم هدفه من الجهاد، ويحثهم على الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى، وتثبت تلك الرسائل علوكعبه في اللغة العربية والعلوم الشرعية، رحمه الله تعالى[15].
ومنهم الشيخ عثمان بن سميو الفلاتي وهو من الغرب (أي غرب البلاد )، لكنه استقر في منطقة أزواغ بعد عودته من رحلة الحج للتعليم والإصلاح الديني، فكتب إلى سلاطين المنطقة عدة رسائل في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استولى الفرنسيون على المنطقة في عام 1900م هب للجهاد في سبيل الله وشارك في معارك عدة حتى سقط شهيداً في معركة من المعارك عام 1901م. تولى من بعده ابنه عبد الله بن عثمان مكانه، واستمر في نشاطات أبيه العلمية. ومن العلماء من اكتفى بالعلم والتعليم، كالشيخ يوسف بن خليل سندر في منطقة تيلابيرى والذي تلقى تعليمه في صكتو ثم عاد إلى قريته للتدريس، وكان طلاب العلم يتوافدون عليه من أنحاء المنطقة ومن مالي، وكانت له مكتبة عامرة زاخرة بالكتب، وقد وجد عنده بعض الفرنسيين نسخة من (تاريخ الفتاش)، وأخرى من (السعدي)، وحملها معه إلى باريس للطباعة.
ومن العلماء كذلك الشيخ حسن بن سليمان في مدينة زندر وكان في زمانه بمثابة شيخ الإسلام في منطقة زندر، قال بول مارتي في وصفه: "...من العلماء الذين يحتلون المرتبة الأولى في مجتمع زندر خاصة والنيجر عامة"[16]، وقد عينته سلطات الاستعمار كاتباً ومترجماً لها في المحكمة، وكانت له حلقة علمية في حي سابُنْ غري في زندر.
ثانياً: العلماء الذين ولدوا أيام الاستعمار أو كانوا صغاراً عند مجيئه فدرسوا في أيامه ودرّسوا، منهم العالم الجليل الشيخ محمد بن محمد الشفيع الذي ولد عام 1906م في أزواغ وتعلم عند علمائها وعلماء كنته، وهو عالم متضلع في العلوم الشرعية واللغوية، له مؤلفات عدة ودواوين شعر - وهي عند ابن عمه أحمد بن محمد الشفيع المعاصر -، وقد توفي 1945م. ومنهم الشيخ حسن لاتا من منطقة تيلابيري، وقد ارتحل إلى الحجاز في طلب العلم والتحق بدار الحديث في مكة المكرمة، وبعد تخرجه رجع إلى النيجر واستقر في قريته لاتا على نهر النيجر - غرب نيامي-، وتفرغ للعلم وطلابه إلى أن توفي عام 1969م. ومنهم الشيخ سومي وِنْدباغُو في منطقة دوسو، وقد تلقى تعليمه في شمال نيجيريا - في صكتو خاصة -، ثم رجع وتفرغ للعلم وطلابه إلى أن توفي في ثمانينات القرن الماضي. ومنهم الشيخ جنيد بن يوسف في غوري، وكثير غيرهم.
حاضر اللغة العربية:
يبدأ من فترة الاستقلال بعد افتتاح المدرسة النظامية المعاصرة.
في عام 1958م نالت النيجر الحكم الذاتي بعد إعلان جمهورية النيجر، وكان أول ما طلبه السكان هو إنشاء مدرسة عربية عصرية نظامية، فافتتحت المدرسة النظامية الأولى في مدينة ساي، ووضعت تحت إشراف وزارة الداخلية إلى عام 1956م حيث ضُمت إلى وزارة التربية الوطنية.
بعد أن نالت النيجر استقلالها عام 1960م كان أول عمل قامت به الحكومة الوطنية في مجال خدمة اللغة العربية هو إرسال البعثات العلمية إلى البلدان العربية لدراسة الإسلام واللغة العربية، وكان من طلاب البعثات الأولى: الشيخ عمر إسماعيل، والشيخ خالد جبو، والشيخ أبو بكر دتيا، والدكتور علي ليمان، والحاج عمر أحمد - أول سفير للنيجر في البلدان العربية-، ثم الدكتور سيد مهيب، والشيخ بخاري تانودي الذي أُرسل إلى معهد العلوم الشرعية في كانو، والبيهقي. ولما رجعوا حملوا لواء تعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية في البلاد.
في عام 1974م افتتح أول معهد عربي إعدادي - الإعدادية الخامسة - بتمويل من ليبيا، وفي عام 1980م افتتح معهد إعدادي آخر في مدينة زندر، وفي عام 1984م افتتحت مدرسة عربية ثانوية في نيامي، وفي 1994م افتتحت ثانوية عربية ثانية في مدينة مِرْيا بمنطقة زندر.
في عام 1986م توجت هذه الجهود بافتتاح الجامعة الإسلامية في النيجر، وبذلك اكتمل سلم التعليم العربي في النيجر.
أما في المجال الإداري فقد تم في عام 1979م إنشاء إدارة التعليم العربي في وزارة التعليم العربي لتشرف على التعليم العربي في البلاد الذي أخذ يتوسع، وعين الشيخ القاسم البيهقي - رحمه الله تعالى - أول مدير لها وهو من أوائل خريجي الأزهر.
وفي عام 1992م أنشئت مفتشية خاصة للتعليم العربي، ثم أنشئت الإعداديات العربية في كل المناطق، وكان لبعض الدول العربية مساهمات فعالة في دفع عجلة تعليم اللغة العربية في النيجر منها الجماهيرية العربية الليبية التي بنت الإعدادية الأولى في البلاد ووفرت لها المقررات والمدرسين، ومنذ عام 1997م ظلت تتكفل ببعض المدرسين في جميع المستويات ابتداءً من الابتدائية إلى الجامعة. كذلك الأزهر الشريف كان يساهم بعدد من المدرسين كل عام من ستينات القرن الماضي إلى اليوم، وكذلك المملكة العربية السعودية تقدم جهوداً كبيرة، وقد افتتح مؤخراً مركز الأمير سلطان الثقافي بالتعاون مع حكومة النيجر، وهو يعد أضخم مركز تعليمي ثقافي في غرب أفريقيا ويستهدف طلاب العلم كافة في عموم دول غرب أفريقيا)[17]، كما تقوم الهيئات التعليمية والثقافية السعودية بجهود كبيرة في مجال نشر العلوم العربية والاسلامية داخل جمهورية النيجر، وقد أقامت المملكة عدة مدارس في النيجر، كما وفرت الكتب والمراجع لمتعلمي اللغة العربية، إضافة إلى تقديم المنح الدراسية للطلاب النيجريين وقد أسهم ذلك في إرساء وجود ثقافي وفكري عربي داخل النيجر.)[18].البنك الإسلامي للتنمية له إسهامات كذلك في كفالة المدرسين وبناء الفصول، وعقد الدورات التكوينية للأساتذة في مشروعه " برنامج دعم التعليم العربي الفرنسي في النيجر. إن البرنامج الذي يموله البنك الاسلامي للتنمية يشمل مجالات أخرى، منها: تنظيم التعليم القرآني، وفتح قنوات بينه وبين سوق العمل، ومحو الأمية عن طريق الحرف العربي باستخدامه في كتابة اللغات المحلية، وقد تم تدريب 120 معلماً عربياً كما افتتحت 100 مدرسة ابتدائية حكومية جديدة، ... إضافة إلى ست إعداديات وأكثر من 20 مدرسة حرة.)[19] .ويمكن تلخيص ما تقدم فيما يلي:
• أن النيجر من الدول التي دخلها الإسلام في وقت مبكر في القرن الأول الهجري.• أن للغة العربية ماضياً عريقاً في النيجر؛ حيث كانت اللغة الرسمية للممالك الإسلامية السابقة في النيجر.• أن الاستعمار رغم محاولاته القضاء على اللغة العربية في النيجر إلا أنه لم ينجح وهو ما يدل على قوة تمكن اللغة العربية في المجتمع.• أن حاضر اللغة العربية ومستقبلها يبشر بخير كثير؛ حيث يلاحظ الاهتمام بها، والإقبال على تعلمها وكثرة مدارسها من الابتدائية إلى الجامعة.
مستقبل اللغة العربية في النيجر:
مؤشرات ومبشرات:
يتأكد المستقبل المشرق للغة العربية في النيجر من خلال جملة من المبشرات، أهمها:
• الاهتمام الذي تجده اللغة العربية من أبناء النيجر، وحرصهم على تعلمها، والتخاطب بها، إضافة إلى ما يبذل من الجهود الرسمية وغير الرسمية للنهوض بها، والاهتمام المتزايد في تقديم كافة أنواع الدعم المادي والفني من قبل بعض الدول العربية والإسلامية والمؤسسات التعليمية والتنموية وبعض الهيئات والمنظمات، داخل وخارج النيجر، ولاسيما منظمة الإيسيسكو.• دور الجامعة الإسلامية بالنيجر التي يفد إليها طلاب الدراسات العربية والإسلامية من نحو عشرين دولة أفريقية. وهي تحتوي اليوم على ثلاث كليات للغة العربية والدراسات الإسلامية منها واحدة خاصة بالبنات فتحت بالعاصمة (نيامي) سنة 2001م، بالإضافة إلى معهد عالٍ للتربية وتكوين أساتذة اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ومركز إفريقي لإحياء التراث الإسلامي.• أنها تعد إحدى اللغات الوطنية المعترف بها دستورياً في النيجر؛ ولذلك نجد جوازات السفر الصادرة عن حكومة النيجر تُكتب باللغتين الفرنسية والعربية.• صدور بعض الصحف باللغة العربية، فمنذ سنة 1995م إلى اليوم صدرت صحيفتان ومجلة ناطقة كلها بالعربية، وهي صحيفة (الوطن) التي ظهرت سنة 1995م وصدرت منها ثلاثة أعداد ثم توقفت لظروف مالية، ومجلة (الواحة) التي صدرت منها بضعة أعداد ثم توقفت أيضا للسبب نفسه، وأخيراً صحيفة التواصل التي تواصل الصدور حالياً، وقد ظهر منها إلى حين كتابة هذه السطور تسعة أعداد.• تصدر عن الجامعة الإسلامية بالنيجر منذ 1995م دورية أكاديمية سنوية بعنوان: (حوليات الجامعة الإسلامية بالنيجر).
• تخصيص الإعلام المرئيّ والمسموع في النيجر وبعض دول المنطقة حصصاً أسبوعية قصيرة للغة العربية) [20].
[1] انظر فتوحات مصر والمغرب لابن عد الحكم، ط5، 1955م، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة ص222.
[2] أبو عبيد البكري، المعرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، ص 175.
[3] المصدر السابق.
[4] انظر تاريخ السودان للسعدي، ص 51.
[5] انظر رحلة بن بطوطة ص 790.
[6] انظر نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا، ص 348 بهامش الديباج المذهب.
[7] أحمد بابا، نيل الابتهاج، ص 348.
[8] إمبراطورية البرنو الإسلامية لإبراهيم طرخان، ص 177.
[9] رحلة عبر إفريقيا، رولفس ترجمة عماد الدين غانم، مركز جهاد الليبيين، ط 96، ص 450.
[10] انظر تزيين الورقات - ص 9.
[11] انظر: على يعقوب، اللغة العربية وآدابها في النيجر في عهد الاستعمار، اطروحة الدكتوراه 2005م ص 18.
[12] عبد العلي الودغيري اللغة العربية في منطقة جنوب الصحراء: الماضي والحاضر والمستقبل.
[13] عبد العلي الودغيري، الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب ص 2ـ 1993م، ص 79.
[14] انظر بول مارتي، الإسلام والقبائل في مستعمرة النيجر ص 353.
[15] محمد القشاط، من قيادات الجهاد الإفريقي محمد كاوسن، ط1 عام 2000م الرياض، ص 14.
[16] بول مارتي، المصدر السابق، ص 402.
[17]بتصرف عن صحيفة البلاد الخميس 30 إبريل 2009م
[18] بتصرف عن مقال بصحيفة الجزيرة الخميس 9، شوال 1421
[19]بتصرف عن مقال بصحيفة الجزيرة الخميس 9، شوال 1421
[20] عبد العلي الودغيري اللغة العربية في منطقة جنوب الصحراء:الماضي والحاضر والمستقبل
http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/Langue_arabe/p22.php
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.