مسلمو إفريقيا الوسطى.. ما زال الجرح يثعب دماًمقالات

رأفت صلاح الدين

المصدر: شبكة الألوكة 15/ 12/ 2016م.

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد:

أنَّى اتجهتَ إلى الإسلامِ في بلدٍ ** تَجِدْهُ كالطَّيرِ مقصوصًا جناحاهُ

لا يكاد يصحو المسلمون مِن مآسيهم، فكلما تطفو على السطح مأساة تَتْبَعها أختها، فلماذا المسلمون؟! ولماذا الإسلام السُّني وحدَه الذي يتعرَّض لكل هذه المآسي؟!

جمهورية إفريقيا الوسطى بلدٌ غير ساحلي في وسط إفريقيا؛ من حيث الجغرافيا تقع تشاد في شمالها، والسودان في الشمال الشرقي، وجنوب السودان في الشرق، وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية الكونغو في الجنوب، والكاميرون في الغرب.

أما المساحة، فهي حوالي 620,000 كيلومتر مربع، وسكانها حوالي 4.4 مليون نسمة.

نسبة المسلمين بها - حسب المصادر المحايدة - تُقدَّر بحوالي من 20 - 25% من السكان، يتركَّزون في شمال البلاد في جهة حدود تشاد والسودان.

ظهرت مأساة مسلمي إفريقيا الوسطى منذ عقودٍ، لكنها طَغَتْ واشتدَّ أُوارها منذ 2013 ولم تنطفئ حتى اليوم، مأساة عنوانها "التطهير العِرْقي والديني"، قادت انفجارَها فرنسا، التي تعتبر إفريقيا الوسطى جزءًا من التراب الفرنسي، ولم تنسَ ماضيَها الاستعماري البغيض؛ حيث تدخَّلت بنفسها وأعطَتْ إشارة البَدْء للمجازر ضد المسلمين.

أما أدوات هذه الحرب، فكانت ميليشيات مسيحية تُدعَى "أنتي بالاكا"، التي تحجَّجت بوصول حركة سيليكا للحكم، زعمًا بأنها إسلامية، مع أن فيها غير مسلمين بنسبة كبيرة، والمسلمون الذين بها ليسوا متديِّنين، ومعظمهم علمانيون، وتولى زعيمُها "ميشال دجوكوديا" الرئاسةَ كأول رئيس مسلم لهذا البلد، غير أنه استقال بعد دخول البلاد في حرب عِرقية بين المسلمين والمسيحيين.

ظلَّتِ المجازر مشتعلةً لمدة عام، كان نتيجتها قتلَ وتهجير كل المسلمين بالعاصمة "بانجي" والمناطق الجنوبية تقريبًا، إلا حيًّا واحدًا في العاصمة وهو حي الـ"بي كاه"، وبعض المناطق المحدودة الأخرى في الجنوب.

أما الشمال، فكان أكثر أمانًا؛ لمتاخمته لحدود دولتَي تشاد والسودان المسلمتينِ.

دمَّر المسيحيون المساجد والمتاجر، ونهبوا ما وقع تحت أيديهم من أموال وأراضي ومحلات المسلمين، الذين كانوا يمثلون القوة الاقتصادية الأولى في البلاد.

 

نتيجةً لهذه الحرب ظهَرَتْ أكبر مأساة - ما زال يعاني منها المسلمون حتى اليوم - ألا وهي مشكلة اللاجئين والنازحين، فما زالت عودتُهم صعبةً.

الوصول للعاصمة "بانجي" أمرٌ شبه مستحيل؛ للسيطرة الكاملة عليه من الحكومة الجديدة والميليشيات النصرانية.

هنالك عودةٌ محدودة لبعض اللاجئين للمدنِ الشمالية الآمنة أصلًا، وإن كانت بطريقةٍ غير رسمية.

كانت أوضاع اللاجئين قد تأزَّمت بعد أن تقلَّصت جهود مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في بعض المناطق، أو تراجعت بصورةٍ كبيرة، وقد أعلنت عن عدم قدرتِها على دعم اللاجئين من إفريقيا الوسطى في مخيمات جنوب تشاد؛ بسبب قلَّة الموارد.

كما عجَزَتِ المفوضية السامية والاتحاد الإفريقي عن تقديم أرقامٍ حقيقيةٍ لأعداد اللاجئين، وبذلك أخفقتَا بصورةٍ كبيرةٍ في تقديم المعونة والدعم الأساسي لهؤلاء اللاجئين.

وبتفاقمِ مشاكل اللاجئين تظهَرُ متلازمات اللجوء؛ وهي التنصير، والاستغلال، والاتجار البشري، عن طريق الهجرات غير الشرعية، وغيرها.

فالمنظمات والمؤسسات الغربية الموجودة في خيم اللاجئين والنازحين، تسعى لتحقيق أهدافها، فالمنظمات النصرانية - كالإغاثة الكاثوليكية وغيرها - تبذل أقصى جهدِها لاستغلال مآسي المسلمين والسعي إلى تنصيرهم.

ومن الوسائل الأخرى - وخصوصًا في توجيه الشباب - البرامج الثقافية الليلية التي تقدَّم تحت عنوان: (الاندماج الاجتماعي، وتخفيف صدمات الحرب والأزمات النفسية للاجئين)، عبر برامج معدَّة مسبقًا من قِبل المنظمات التنصيرية، وتجد قبولًا كبيرًا لدى الشباب، وهي البرامج التي تركِّز على نشر الفساد، والعَهْر، والخمر، والاختلاط، والعَلاقات المحرَّمة بين الشباب والفتيات.

هنالك محاولات من الأمم المتحدة بدعوة اللاجئين للعودة إلى ديارهم، لكن الدول المستضيفة بعضها تطلب ضمانات وتوفير أبسط المقومات قبل الدعوة إلى العودة الطوعية.

في فبراير 2016 م شهِدت إفريقيا الوسطى إجراءَ الانتخابات الرئاسية، والتي انتهت تلك الانتخابات بفوز "فوستان اركانج تواديرا" - (آخر رئيس وزراء للرئيس السابق فرانسوا بوزيزي، الذي أُطيح به عام 2013م) - على منافسِه "أنيسي جورج دولوجيليه" - رئيس الوزراء السابق في الفترة (1999م - 2001م) إبان حكم الرئيس "آنجي فيليكس باتاسي" - في جولة الإعادة؛ حيث حصل على ما يربو عن 62% من الأصوات، في حين أعلن المرشح الرئاسيُّ الخاسر "دولوجيليه" قَبوله بالنتائج، وعدم التقدُّم بأية طعون.

ظن المسلمون أن الأزمة ستزولُ مع استقرار البلاد وانتهاء الانتخابات، لكن دون جدوى، فما زال الوضع يراوح مكانه؛ فلا حل للقضية، ولا أمان للمسلمين.

منذ أيام حدثَتْ مناوشات في حي المسلمين الرئيسي في العاصمة، بين بعض بقايا المليشيات النصرانية والمسلمين، مما أدى إلى مقتَلةٍ كبيرة، وفَقَد المسلمون أحد القيادات؛ مما أحرج القوات الدولية، وأدَّى إلى تدخلها.

وفي شرق البلاد كانت هنالك أيضًا بعض المناوشات بين القوات الدولية وبعض عناصر حركة سيليكا، فسقط بعض القتلى في وسط المسلمين أيضًا، بالإضافة إلى بعض النصارى من المقيمين في هذه المناطق.

حدَث في يوم الاثنين 23 أكتوبر 2016 إضراباتٌ ومظاهرات أمام مقرِّ القوات الدولية، التي ردت بإطلاق رصاص بشكل عشوائي، أدى إلى مقتل عدد من المتظاهرين.

 

فما زالت القوات الدولية تتواطَأ في الأحداث التي تعوقُ مسيرة الاستقرار، وتُسهِم بشكل سلبي في حفظ الأمن، كما في الأحداث الأخيرة وما سبقها من أحداث، وخاصة قتل المسلمين الرعاة.

كل هذه الأحداث وغيرها جعَلَتْ أطرافًا كثيرة تشكُّ أن للقوات الدولية دورًا فيها، وخاصة مقتل المسؤول المسلم.

هكذا تستمرُّ مأساة المسلمين وجراحهم في إفريقيا الوسطى لا تندمل، في ظل تعامٍ أُمَمِي عن مآسيهم، ونومٍ عميق وسبات يطغى على الحالة الإسلامية التي لا تنطفئ نيران الفتن فيها؛ حتى لا يستطيع أحد أن يرفع رأسه ليرى مصيبة أخيه.

نسألُ الله القدير أن يبرمَ لهذه الأمة أمر رشدٍ يُعيد للمسلمين عزَّهم ومجدهم.